اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ جَعَلَكُمۡ أَزۡوَٰجٗاۚ وَمَا تَحۡمِلُ مِنۡ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلۡمِهِۦۚ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٖ وَلَا يُنقَصُ مِنۡ عُمُرِهِۦٓ إِلَّا فِي كِتَٰبٍۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ} (11)

قوله تعالى : { والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ . . . . الآية } قد تقدم أن الدلائل مع كثرتها منحصرة في قسمين : دلائل الآفاق ودلائل الأنفس كما قال تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] فلما ذكر دلائل الآفاق من السموات وما يرسل منها من الرياح شرع في دلائل الأنفس وتقدم ذكره مِراراً أن قوله : «مِنْ تراب » إشارة إلى خلق آدم «ثُمَّ مِنْ نُطْفِةٍ » إشارة إلى خلق أولاده . وتقدم أن الكلام غير محتاج إلى هذا التأويل بل خلقكم خطاب مع الناس وهم أولاد آدم ، وكلهم من تراب ومن نطفة لأن كلهم من نطفة والنطفة من غذاء والغذاء ( ينتهي ){[45126]} بالآخرة إلى الماء والتراب فهو من تراب صار{[45127]} نطفة «ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً ذُكْرَانا وإنَاثاً » .

قوله : { من أنثى } من مزيدة في «أُنْثَى »{[45128]} وكذلك في : «مِنْ مُعَمَّرٍ »{[45129]} إلا أن الأول فاعل وهذا مفعول قام مقامه و «إلاَّ بِعِلْمِهِ »{[45130]} حال أي إلاَّ مُلْتبِسَةً بعِلْمِهِ .

قوله : { مِنْ عمره } في هذا الضمير قولان :

أحدهما : أنه يعود على «مُعَمَّر » آخر{[45131]} لأن المراد بقوله : «مِنْ مُعَمَّر » الجنس فهو يعود عليه لفظاً لا معنى ، لأنه بعد أن فرض كونُه معمراً استحال أن يَنْقص مِنْ عُمُرِهِ نفسه كقوله{[45132]} :

4155- وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَتْلَ فَحْلِهِم . . . وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَه فهو سَارِبُ{[45133]}

ومنه : عندي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ أي ونصف درهم آخر .

والثاني : أنه يعود على «مُعَمَّر » لفظاً ومعنى{[45134]} . والمعنى أنه إذا مضى من عمره حول أُحْصِيَ وكُتِبَ ثم حول آخر كذلك فهذا هو النقص . وإليه ذهب ابن عباس وابن جبير وأبُو مالكٍ{[45135]} ؛ ومنه قول الشاعر :

4156- حياتك أنْفَاسٌ تُعَدُّ فَكُلما . . . مَضَى نَفَسٌ مِنْكَ انْتَقَصْتَ بِهِ جُزْءَا{[45136]}

وقرأ يعقوب وسلاَّم{[45137]} - وتروى عن أبي عمرو - ولا يَنْقُصُ مبنياً{[45138]} للفاعل وقرأ الحَسَنُ : مِنْ عُمْرِهِ بسكون{[45139]} المِيم .

فصل

معنى «وما يعمر من معمر » لا يطول عمره ولا ينقص من عمره أي من عمر آخر كما يقال : لفلانٍ عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر «إلا في كتاب » وقيل : قوله ولا ينقص من عمره ينصرف إلى الأول . وقال سعيد بن جبير : مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة ثم يكتب أسفل ( من ){[45140]} ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره .

وقال كعب الأحبار حين حضر الوفاة عمر : والله لو دعا عمر ربه أن يؤخر أجله لأخر فقيل له : إن الله عزّ وجلّ يقول : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] فقال : هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد و ( أن ) يَنْقُصَ ، وقرأ هذه الآية{[45141]} .

فصل

«وما تحمل من أنثى ولا تضع » إشارة إلى كمال قدرته فإن ما في الأرحام قبل التخليق بل بعده ما دام في البطن لا يعلم حاله أحد كيف والأم الحامل لا تعلم منه شيئاً فلما ذكر بقوله : { خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } كمال قدرته بين بقوله : { ما تَحْمِلُ من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } كمال علمه . ثم بين نفوذ إرادته بقوله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } فبين أنه هو القادرُ العليم{[45142]} المريد والأصنام لا قدرة لها ( ولا علم ){[45143]} ولا إرادة فكيف يستحق شيء منها العبادة . ثم قال : { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } أي الخلق من التراب . ويحتمل أن يكون المراد إن التعمير والنقصان على الله يسير . ويحتمل أن يكون المراد : إن العلم بما تحمله الأنثى يسير والكل على الله يسير . والأول أشبه لأن استعمال اليسير في الفعل{[45144]} أليق .


[45126]:سقط من ((ب)) .
[45127]:تفسير الرازي 26/9 و10 .
[45128]:الدر المصون 4/470 .
[45129]:الدر المصون 4/470 والبحر المحيط 7/304 .
[45130]:قاله الكشاف 3/303 وانظر المرجعين السابقين .
[45131]:قاله الفراء في معانيه 2/368 وانظر: البحر والدر السابقين .
[45132]:في ((ب)) كقول الشاعر .
[45133]:من الطويل للأخنس بن شهاب ويروى: ((شددوا)) بدل قاربوا كما يروى: أرى كل قوم بدل ((وكل أناس)) . وهو يفتخر بقومه وبحيواناتهم وغير قومه قد ربطوا وقيدوا حيواناتهم حتى لا تجور على الغير أما هم فلم يقيدوها فهي سارحة في الشاسع من الأرض. والشاهد: في ((قيده)) حيث أن الهاء لا تعود على ضمير الفحل الذي يخص غيرهم وإنما يعود على فحل الشاعر وقومه. وبهذا يصح التنظير بالآية، وقد تقدم.
[45134]:بالمعنى من البحر المحيط 7/304 ومعاني الفراء 2/368 وانظر الرأيين في زاد المسير 6/480 والقرطبي 14/333 .
[45135]:المراجع السابقة .
[45136]:من الطويل أيضا وقائله مجهول وأتى به كشاهد معنوي حيث عن كل وقت يمر على الإنسان محسوب من عمره الذي لا يزيد ولا ينقص عما هو في اللوح . وهذا يِؤيد الرأي الثاني في ((المعمر)) ، وانظر: البحر المحيط 7/304 ، والدر المصون 4/470 .
[45137]:سبق التعريف به .
[45138]:رواها ابن خالويه عن الحسن وابن سيرين ويعقوب انظر المختصر 123 والإتحاف 361 وهي من المتواتر من الأربع فوق العشر المتواترة . وانظر القرطبي 14/334 .
[45139]:نسبها القرطبي للأعرج والزهري المرجع السابق وفي السبعة والمختصر أنها مروية عن أبي عمر انظر: السبعة 534 والمختصر 123 .
[45140]:زيادة من ((أ)) .
[45141]:انظر: الفصل السابق في معالم التنزيل للبغوي 5/299 .
[45142]:في ((ب)) العالم .
[45143]:سقط من ((ب)) .
[45144]:انظر: الفصل السابق في تفسير الرازي 26/10 .