قوله تعالى : { والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ . . . . الآية } قد تقدم أن الدلائل مع كثرتها منحصرة في قسمين : دلائل الآفاق ودلائل الأنفس كما قال تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] فلما ذكر دلائل الآفاق من السموات وما يرسل منها من الرياح شرع في دلائل الأنفس وتقدم ذكره مِراراً أن قوله : «مِنْ تراب » إشارة إلى خلق آدم «ثُمَّ مِنْ نُطْفِةٍ » إشارة إلى خلق أولاده . وتقدم أن الكلام غير محتاج إلى هذا التأويل بل خلقكم خطاب مع الناس وهم أولاد آدم ، وكلهم من تراب ومن نطفة لأن كلهم من نطفة والنطفة من غذاء والغذاء ( ينتهي ){[45126]} بالآخرة إلى الماء والتراب فهو من تراب صار{[45127]} نطفة «ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً ذُكْرَانا وإنَاثاً » .
قوله : { من أنثى } من مزيدة في «أُنْثَى »{[45128]} وكذلك في : «مِنْ مُعَمَّرٍ »{[45129]} إلا أن الأول فاعل وهذا مفعول قام مقامه و «إلاَّ بِعِلْمِهِ »{[45130]} حال أي إلاَّ مُلْتبِسَةً بعِلْمِهِ .
قوله : { مِنْ عمره } في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه يعود على «مُعَمَّر » آخر{[45131]} لأن المراد بقوله : «مِنْ مُعَمَّر » الجنس فهو يعود عليه لفظاً لا معنى ، لأنه بعد أن فرض كونُه معمراً استحال أن يَنْقص مِنْ عُمُرِهِ نفسه كقوله{[45132]} :
4155- وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَتْلَ فَحْلِهِم . . . وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَه فهو سَارِبُ{[45133]}
ومنه : عندي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ أي ونصف درهم آخر .
والثاني : أنه يعود على «مُعَمَّر » لفظاً ومعنى{[45134]} . والمعنى أنه إذا مضى من عمره حول أُحْصِيَ وكُتِبَ ثم حول آخر كذلك فهذا هو النقص . وإليه ذهب ابن عباس وابن جبير وأبُو مالكٍ{[45135]} ؛ ومنه قول الشاعر :
4156- حياتك أنْفَاسٌ تُعَدُّ فَكُلما . . . مَضَى نَفَسٌ مِنْكَ انْتَقَصْتَ بِهِ جُزْءَا{[45136]}
وقرأ يعقوب وسلاَّم{[45137]} - وتروى عن أبي عمرو - ولا يَنْقُصُ مبنياً{[45138]} للفاعل وقرأ الحَسَنُ : مِنْ عُمْرِهِ بسكون{[45139]} المِيم .
معنى «وما يعمر من معمر » لا يطول عمره ولا ينقص من عمره أي من عمر آخر كما يقال : لفلانٍ عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر «إلا في كتاب » وقيل : قوله ولا ينقص من عمره ينصرف إلى الأول . وقال سعيد بن جبير : مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة ثم يكتب أسفل ( من ){[45140]} ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره .
وقال كعب الأحبار حين حضر الوفاة عمر : والله لو دعا عمر ربه أن يؤخر أجله لأخر فقيل له : إن الله عزّ وجلّ يقول : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] فقال : هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد و ( أن ) يَنْقُصَ ، وقرأ هذه الآية{[45141]} .
«وما تحمل من أنثى ولا تضع » إشارة إلى كمال قدرته فإن ما في الأرحام قبل التخليق بل بعده ما دام في البطن لا يعلم حاله أحد كيف والأم الحامل لا تعلم منه شيئاً فلما ذكر بقوله : { خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } كمال قدرته بين بقوله : { ما تَحْمِلُ من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } كمال علمه . ثم بين نفوذ إرادته بقوله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } فبين أنه هو القادرُ العليم{[45142]} المريد والأصنام لا قدرة لها ( ولا علم ){[45143]} ولا إرادة فكيف يستحق شيء منها العبادة . ثم قال : { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } أي الخلق من التراب . ويحتمل أن يكون المراد إن التعمير والنقصان على الله يسير . ويحتمل أن يكون المراد : إن العلم بما تحمله الأنثى يسير والكل على الله يسير . والأول أشبه لأن استعمال اليسير في الفعل{[45144]} أليق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.