الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَأَثَرۡنَ بِهِۦ نَقۡعٗا} (4)

قوله تعالى : { فأثرن به نقعا }

أي غبارا ، يعني الخيل تثير الغبار بشدة العدو في المكان الذي أغارت به . قال عبد الله بن رواحة :

عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إن لم تَرَوْها*** تُثِيرُ النَّقْعَ من كَنَفَيْ كَدَاءِ{[16300]}

والكناية في " به " ترجع إلى المكان أو إلى الموضع الذي تقع فيه الإغارة . وإذا علم المعنى جاز أن يكني عما لم يجر له ذكر بالتصريح ، كما قال { حتى توارت بالحجاب }{[16301]}[ ص : 32 ] . وقيل : { فأثرن به } ، أي بالعدو " نقعا " . وقد تقدم ذكر العدو . وقيل : النقع : ما يبين مزدلفة إلى منى . قاله محمد بن كعب القرظي . وقيل : إنه طريق الوادي ، ولعله يرجع إلى الغبار المثار من هذا الموضع . وفي الصحاح : النقع : الغبار ، والجمع : نقاع . والنقع : محبس الماء ، وكذلك ما اجتمع في البئر منه . وفي الحديث : أنه نهى أن يمنع نقع البئر . والنقع الأرض الحرة الطين يستنقع فيها الماء ، والجمع : نقاع وأنقع ، مثل بحر وبحار وأبحر .

قلت : وقد يكون النقع رفع الصوت ، ومنه حديث عمر حين قيل له : إن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد بن الوليد ، فقال : وما على نساء بني المغيرة أن يسفكن من دموعهن وهن جلوس على أبي سليمان ، ما لم يكن نقع ، ولا لقلقة . قال أبو عبيد : يعني بالنقع رفع الصوت ، على هذا رأيت قول الأكثرين من أهل العلم ، ومنه قول لبيد :

فمتى ينْقَعْ صراخٌ صادقٌ *** يُحْلِبُوهَا ذاتَ جرس وزَجَلْ

ويروى " يَحْلِبوها " أيضا . يقول : متى سمعوا صراخا أحلبوا الحرب ، أي جمعوا لها . وقوله " ينقع صراخ " : يعني رفع الصوت . وقال الكسائي : قوله " نقع ولا لقلقة " النقع : صنعه الطعام ، يعني في المأتم . يقال منه : نقعت أنقع نقعا . قال أبو عبيد : ذهب بالنقع إلى النقيعة ، وإنما النقيعة عند غيره من العلماء : صنعة الطعام عند القدوم من سفر ، لا في المأتم . وقال بعضهم : يريد عمر بالنقع وضع التراب على الرأس ، يذهب إلى أن النقع هو الغبار . ولا أحسب عمر ذهب إلى هذا ، ولا خافه منهن ، وكيف يبلغ خوفه ذا وهو يكره لهن القيام . فقال : يسفكن من دموعهن وهن جلوس . قال بعضهم : النقع : شق الجيوب ، وهو الذي لا أدري ما هو من الحديث ولا أعرفه ، وليس النقع عندي في الحديث إلا الصوت الشديد ، وأما اللقلقة : فشدة الصوت ، ولم أسمع فيه اختلافا . وقرأ أبو حيوة " فأثّرن " بالتشديد ، أي أرت آثار ذلك . ومن خفف فهو من أثار : إذا حرك ، ومنه { وأثاروا الأرض }{[16302]}[ الروم : 9 ] .


[16300]:كداء (بفتح الكاف ومد الدال): جبل بمكة. والهاء في تروها: راجعة إلى الخيل المفهومة من السياق. ورواية صدر البيت في الشوكاني 5/469: (عدمنا خلينا .. .).
[16301]:آية 32 سورة ص.
[16302]:آية 9 سورة الروم.