الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَٱلۡعَٰدِيَٰتِ ضَبۡحٗا} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء . ومدنية في قول ابن عباس وأنس ومالك وقتادة . وهي إحدى عشرة آية .

قوله تعالى : { والعاديات ضبحا } أي الأفراس تعدو ، كذا قال عامة المفسرين وأهل اللغة ، أي تعدو في سبيل الله فتضبح . قال قتادة : تضبح إذا عدت ، أي تحمحم . وقال الفراء : الضبح : صوت أنفاس الخيل إذا عدون . ابن عباس : ليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب . وقيل : كانت تُكْعَمْ{[16284]} لئلا تصهل ، فيعلم العدو بهم ، فكانت تتنفس في هذه الحال بقوة . قال ابن العربي : أقسم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال :{ يس . والقرآن الحكيم } [ يس : 1 ] ، وأقسم بحياته فقال :{ لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون }{[16285]} [ الحجر : 72 ] ، وأقسم بخيله وصهيلها وغبارها ، وقدح حوافرها النار من الحجر ، فقال : { والعاديات ضبحا } . . . الآيات الخمس . وقال أهل اللغة{[16286]} :

وطعنةٍ ذات رَشاشٍ واهِيَهْ*** طَعَنْتها عندَ صُدُورِ العاديهْ

يعني الخيل . وقال آخر :

والعاديات أسابيُّ الدماء بها *** كأن أعناقها أنصاب ترجِيبِ{[16287]}

يعني الخيل . وقال عنترة :

والخيل تعلم حين تَضْ*** بَحُ في حياض الموت ضَبْحَا

وقال آخر :

لستُ بالتُّبَّعِ اليَمَانِي إن لَمْ *** تَضْبَحِ الخَيْلُ في سواد العراق

وقال أهل اللغة : وأصل الضبح والضباح للثعالب ، فاستعير للخيل . وهو من قول العرب : ضبحته النار : إذا غيرت لونه ولم تبالغ فيه . وقال الشاعر :

فلما أن تَلَهْوَجْنَا شِوَاءً *** به اللَّهَبان مقهورا ضَبِيحاً{[16288]}

وانضبح لونه : إذا تغير إلى السواد قليلا . وقال :

عَلِقْتُها قبل انضِبَاحِ لَوْنِي

وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغيرت حالها من فزع وتعب أو طمع . ونصب " ضبحا " على المصدر ، أي والعاديات تضبح ضبحا . والضبح{[16289]} أيضا الرماد . وقال البصريون : " ضبحا " نصب على الحال . وقيل : مصدر في موضع الحال . قال أبو عبيدة : ضبحت الخيل ضبحا مثل ضبعت ، وهو السير . وقال أبو عبيدة : الضبح والضبع : بمعنى العدو والسير . وكذا قال المبرد : الضبح مد أضباعها في السير . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى أناس من بين كنانة ، فأبطأ عليه خبرها ، وكان استعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري ، وكان أحد النقباء ، فقال المنافقون : إنهم قتلوا ، فنزلت هذه السورة إخبارا للنبي صلى الله عليه وسلم بسلامتها ، وبشارة له بإغارتها على القوم الذين بعث إليهم . وممن قال : إن المراد بالعاديات الخيل ، ابن عباس وأنس والحسن ومجاهد . والمراد الخيل التي يغزو عليها المؤمنون . وفي الخبر : " من لم يعرف حرمة فرس الغازي ، فيه شعبة من النفاق " . وقول ثان : إنها الإبل . قال مسلم : نازعت فيها عكرمة فقال عكرمة : قال ابن عباس : هي الخيل . وقلت : قال علي : هي الإبل في الحج ، ومولاي أعلم من مولاك . وقال الشعبي : تمارى{[16290]} علي وابن عباس في " العاديات " ، فقال علي : هي الإبل تعدو في الحج . وقال ابن عباس : هي الخيل ، ألا تراه يقول { فأثرن به نقعا } [ العاديات : 4 ] فهل تثير إلا بحوافرها ! وهل تضبح الإبل ! فقال علي : ليس كما قلت ، لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلا فرس أبلق للمقداد ، وفرس لمرثد بن أبي مرثد ، ثم قال له علي : أتفتي الناس بما لا تعلم ! والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام وما معنا إلا فرسان : فرس للمقداد ، وفرس للزبير ، فكيف تكون العاديات ضبحا ! إنما العاديات الإبل من عرفة إلى المزدلفة ، ومن المزدلفة إلى عرفة . قال ابن عباس : فرجعت إلى قول علي ، وبه قال ابن مسعود وعبيد بن عمير ومحمد بن كعب والسدي . ومنه قول صفية بنت عبدالمطلب :

فلا والعاديات غداةَ جَمْعٍ *** بأيديها إذا سَطَعَ الغُبَارُ

يعني الإبل . وسميت العاديات لاشتقاقها من العدو ، وهو تباعد الأرجل في سرعة المشي . وقال آخر :

رأى صاحبي في العاديات نَجِيبَةً *** وأمثالَها في الواضعات القَوَامِسِ{[16291]}

ومن قال هي الإبل فقوله " ضبحا " بمعنى ضبعا ، فالحاء عنده مبدلة من العين ؛ لأنه يقال : ضبعت الإبل وهو أن تمد أعناقها في السير . وقال المبرد : الضبع مد أضباعها في السير . والضبح أكثرها ما يستعمل في الخيل . والضبع في الإبل . وقد تبدل الحاء من العين . أبو صالح : الضبح من الخيل : الحمحمة ، ومن الإبل التنفس . وقال عطاء : ليس شيء من الدواب يضبح إلا الفرس والثعلب والكلب . وروي عن ابن عباس . وقد تقدم عن أهل اللغة أن العرب تقول : ضبح الثعلب ، وضبح في غير ذلك أيضا . قال توبة :

ولو أن ليلَى الأخيلِية سَلَّمَتْ *** عَلَيَّ ودوني تُرْبَةٌ{[16292]} وصفائحُ

لسلَّمْتُ تسليم البشاشة أو زَقَا *** إليها صَدىً من جانب القبر ضَابِحُ{[16293]}

زقا الصدى يزقو زقاء{[16294]} : أي صاح . وكل زاق صائح . والزقية : الصيحة .


[16284]:العكام: شيء يجعل على فم البعير.
[16285]:آية 72 سورة الحجر.
[16286]:قوله: "قال أهل اللغة . . .". إلى آخر البيت. هكذا ورد في جميع نسخ الأصل، وظاهر أن فيه سقطا ، يوضحه أبو حيان في البحر بقوله: "قال أهل اللغة: أصله للثعلب، فاستعير للخيل. . .. " الخ. على أن المؤلف أورده فيما يأتي.
[16287]:البيت لسلامة بن جندل. والأسابي: الطرق من الدم. وأسابي الدماء: طرائفها. والترجيب: أن تدعم الشجرة إذا كثر حملها، لئلا تتكسر أغصانها. قال ابن منظور: "فإنه شبه أعناق الخيل بالمرجب. وقيل: شبه أعناقها بالحجارة التي تذبح عليها النسائك".
[16288]:البيت لمضرس الأسدي. والملهوج من الشواء: الذي لم يتم نضجه. واللهبان: اتقاد النار واشتعالها.
[16289]:في القاموس: "والضبح بالكسر الرماد".
[16290]:التماري والمماراة: المجادلة.
[16291]:في اللسان مادة: (عدا): "وحكى الأزهري عن ابن السكيت (وإبل عادية: ترعى الخلة ولا ترعى الحمض. .. ) وقال: وكذلك العاديات" وساق البيت. في اللسان أيضا مادة (رضع): "وناقة واضع وواضعة ونوق واضعات: ترعى الحمض حول الماء. وأنشد ابن بري قول الشاعر... " الخ. ولفظ "القوامس" هكذا ورد في اللسان وشرح القاموس. وبعض نسخ الأصل. وفي نسخة: "القرامس" بالراء . ولعل الصواب: "العرامس" جمع عرمس (بكسر العين): وهي الناقة الصلبة الشديدة.
[16292]:في نسخة: "جندل" وهي رواية في البيت.
[16293]:في رواية صائح. ولا شاهد فيه.
[16294]:في اللسان: "زقا يزقو ويزقى زقوا وزقاء وزقوا وزقيا وزقيا وزقيا.