الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَأَثَرۡنَ بِهِۦ نَقۡعٗا} (4)

قوله : { فَأَثَرْنَ } : عَطَفَ الفعلَ على الاسمِ ؛ لأنَّ الاسمَ في تأويل الفعلِ لوقوعِه صلةً ل أل . قال الزمخشري : " معطوفٌ على الفعلِ الذي وُضِعَ اسمُ الفاعلِ موضعَه " ، يعني في الأصل ، إذ الأصلُ : واللاتي عَدَوْنَ فأَوْرَيْنَ فأغَرْنَ فَأَثَرْنَ .

قوله : { بِهِ } : في الهاء أوجهٌ :

أحدُهما : أنها ضميرُ الصُّبح ، أي : فَأَثَرْنَ في وقتِ الصُّبح غُباراً . وهذا حَسَنٌّ ؛ لأنه مذكورٌ بالصَّريح .

الثاني : أنه عائدٌ على المكانِ ، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ ؛ لأنَّ الإِثارةَ لا بُدَّ لها من مكان ، فالسِّياقُ والفعلُ يَدُلاَّن عليه . وفي عبارةِ الزمخشريِّ : " وقيل : الضمير لمكان الغارة " ، هذا على تلك اللُّغَيَّةِ ، وإلاَّ فالفصيحُ أَنْ يقولَ : الإِغارة .

الثالث : أنَّه ضميرُ العَدْوِ الذي دَلَّ عليه " والعادياتِ " .

وقرأ العامَّةُ بتخفيفِ الثاءِ ، مِنْ أثار كذا : إذا نَشَره وفَرَّقه مع ارتفاعٍ . وقرأ أبو حَيْوَةَ وابن أبي عبلة بتشديدها ، وخَرَّجه الزمخشريُّ على وجهَيْن : الأولُ بمعنى فأَظْهَرْنَ به غباراً ؛ لأنَّ التأثيرَ فيه معنى الإِظهارِ . والثاني : أنه قَلَبَ " ثَوَّرْنَ " إلى " وَثَّرْنَ " وقَلَبَ الواوَ همزةً . انتهى . قلت : يعني أنَّ الأصلَ : ثَوَّرْنَ ، مِنْ ثَوَّر يُثَوِّرُ بالتشديد عَدَّاه بالتضعيف ، كما يُعَدَّى بالهمزة في قولِك : أثاره ، ثم قَلَبَ الكلمةَ : بأنْ جَعَلَ العينَ -وهي الواوُ - موضعَ الفاء ، وهي الثاءُ ، فصارت وَثَّرْنَ ، ووزنُها حينئذٍ عَفَّلْنَ ، ثم قَلَبَ الواوَ همزةً ، فصار " أَثَرْنَ " وهذا بعيدٌ جداً . وعلى تقديرِ التسليمِ فَقَلْبُ الواوِ المفتوحةِ همزةً لا يَنْقاس ، إنما جاءت منه أُلَيْفاظٌ كأَحَدٍ وأَناةٍ . والنَّقْعُ : الغبار ، وأُنْشِد :

يَخْرُجْنَ مِنْ مُسْتطارِ النَّقْعِ داميةً *** كأنَّ آذانَها أطرافُ أَقْلامِ

وقال ابن رَواحة :

عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إنْ لَمْ تَرَوْها *** تُثير النَّقْعَ مِنْ كَنَفَيْ كَداءِ

وقال أبو عبيد : " النَّقْعُ رَفْعُ الصوتِ " ، وأَنْشَد :

فمتى يَنْقَعْ صُراخٌ صادِقٌ *** يُحْلِبُوْها ذاتَ جَرْسٍ وزَجَلْ

قال الزمخشري : " ويجوزُ أَنْ يُرادَ بالنَّقْع الصياحُ ، من قولِه عليه السلام : " ما لم يكن نَقْعٌ ولا لَقْلَقَةٌ " وقولُ لبيد :

فمتى يَنْقَعْ صُراخٌ صادِقٌ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أي : هَيَّجْنَ في المَغارِ عليهم صَباحاً " انتهى . فعلى هذا تكون الباءُ بمعنى " في " ، ويعودُ الضمير على المكانِ الذي فيه الإِغارةُ كما تقدَّمَ .