قوله تعالى : " ورفع أبويه على العرش " قال قتادة : يريد السرير ، وقد تقدمت محامله ، قد يعبر بالعرش عن الملك والملك نفسه ، ومنه قول النابغة الذبياني :
عُرُوشٌ تفانوا بعد عِزٍّ وأَمْنَةٍ
وقد تقدم{[9280]} .
قوله تعالى :{ وخروا له سجدا } .
الأولى : قوله تعالى : " وخروا له سجدا " الهاء في " خروا له " قيل : إنها تعود على الله تعالى ، المعنى : وخروا شكرا لله سجدا ، ويوسف كالقبلة لتحقيق رؤياه ، وروي عن الحسن ، قال النقاش : وهذا خطأ ، والهاء راجعة إلى يوسف لقوله تعالى في أول السورة : " رأيتهم لي ساجدين " [ يوسف : 4 ] . وكان تحيتهم أن يسجد الوضيع للشريف ، والصغير للكبير ، سجد يعقوب وخالته وإخوته ليوسف عليه السلام ، فاقشعر جلده وقال : " هذا تأويل رؤياي من قبل " وكان بين رؤيا يوسف وبين تأويلها اثنتان وعشرون سنة . وقال سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد : أربعون سنة ، قال عبد الله بن شداد : وذلك آخر ما تبطئ الرؤيا . وقال قتادة : خمس وثلاثون سنة . وقال السدي وسعيد بن جبير وعكرمة : ست وثلاثون سنة . وقال الحسن وجسر بن فرقد وفضيل ابن عياض : ثمانون سنة . وقال وهب بن منبه : ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، وغاب عن أبيه ثمانين سنة ، وعاش بعد أن التقى بأبيه ثلاثا وعشرين سنة ، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة . وفي التوراة مائة وست وعشرون سنة . وولد ليوسف من امرأة العزيز إفراثيم ومنشا ورحمة امرأة أيوب . وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة . وقيل : إن يعقوب بقي عند يوسف عشرين سنة ، ثم توفي صلى الله عليه وسلم . وقيل : أقام عنده ثماني عشرة سنة . وقال بعض المحدثين : بعضا وأربعين سنة ، وكان بين يعقوب ويوسف ثلاث وثلاثون سنة حتى جمعهم الله . وقال ابن إسحاق : ثماني عشرة سنة ، والله أعلم .
الثانية : قال سعيد بعد جبير عن قتادة عن الحسن : في قوله : " وخروا له سجدا " - قال : لم يكن سجودا ، لكنه سنة كانت فيهم ، يومئون برؤوسهم إيماء ، كذلك كانت تحيتهم . وقال الثوري والضحاك وغيرهما : كان سجودا كالسجود المعهود عندنا ، وهو كان تحيتهم . وقيل : كان انحناء كالركوع ، ولم يكن خرورا على الأرض ، وهكذا كان سلامهم بالتكَفِّي والانحناء ، وقد نسخ الله ذلك كله في شرعنا ، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء . وأجمع المفسرون أن ذلك السجود على أي وجه كان فإنما كان تحية لا عبادة ، قال قتادة : هذه كانت تحية الملوك عندهم ، وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة .
قلت : هذا الانحناء والتكفي الذي نسخ عنا قد صار عادة بالديار المصرية ، وعند العجم ، وكذلك قيام بعضهم إلى بعض ، حتى أن أحدهم إذا لم يقم له وجد في نفسه كأنه لا يؤبه به ، وأنه لا قدر له ، وكذلك إذا التقوا انحنى بعضهم لبعض ، عادة مستمرة ، ووراثة مستقرة لا سيما عند التقاء الأمراء والرؤساء . نكبوا عن السُّنَن ، وأعرضوا عن السَّنَن . وروى أنس بن مالك قال : قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا إلى بعض إذا التقينا ؟ قال : ( لا ) ؛ قلنا : أفيعتنق بعضنا بعضا ؟ قال ( لا ) . قلنا : أفيصافح بعضنا بعضا ؟ قال ( نعم ) . خرجه أبو عمر في " التمهيد " فإن قيل : فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قوموا إلى سيدكم وخيركم ) - يعني سعد بن معاذ - قلنا : ذلك مخصوص بسعد لما تقتضيه الحال المعينة ، وقد قيل : إنما كان قيامهم لينزلوه عن الحمار ، وأيضا فإنه يجوز للرجل الكبير إذا لم يؤثر ذلك في نفسه ، فإن أثر فيه وأعجب به ورأى لنفسه حظا لم يجز عونه على ذلك ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار ) . وجاء عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أنه لم يكن وجه أكرم عليهم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما كانوا يقومون له إذا رأوه ، لما يعرفون من كراهته لذلك .
الثالثة : فإن قيل : فما تقول في الإشارة بالإصبع ؟ قيل له : ذلك جائز إذا بعد عنك ، لتعيّن له به وقت السلام ، فإن كان دانيا فلا ، وقد قيل بالمنع في القرب والبعد ؛ لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من تشبه بغيرنا فليس منا ) . وقال : ( لا تسلموا تسليم اليهود والنصارى فإن تسليم اليهود بالأكف والنصارى بالإشارة ) . وإذا سلم فإنه لا ينحني ، ولا أن يقبل مع السلام يده ، ولأن الانحناء على معنى التواضع لا ينبغي إلا لله . وأما تقبيل اليد فإنه من فعل الأعاجم ، ولا يتبعون على أفعالهم التي أحدثوها تعظيما منهم لكبرائهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوموا عند رأسي كما تقوم الأعاجم عند رؤوس أكاسرتها " فهذا مثله . ولا بأس بالمصافحة ، فقد صافح النبي صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب حين قدم من الحبشة ، وأمر بها ، وندب إليها ، وقال : ( تصافحوا يذهب الغل ) وروى غالب التمار عن الشعبي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا التقوا تصافحوا ، وإذا قدموا من سفر تعانقوا ، فإن{[9281]} قيل : فقد كره مالك المصافحة ؟ قلنا : روى ابن وهب عن مالك أنه كره المصافحة والمعانقة ، وذهب إلى هذا سحنون وغيره من أصحابنا ، وقد روي عن مالك خلاف ذلك من جواز المصافحة ، وهو الذي يدل عليه معنى ما في الموطأ ، وعلى جواز المصافحة جماعة العلماء من السلف والخلف . قال ابن العربي : إنما كره مالك المصافحة لأنه لم يرها أمرا عاما في الدين ، ولا منقولا نقل السلام ، ولو كانت منه{[9282]} لاستوى معه .
قلت : قد جاء في المصافحة حديث يدل على الترغيب فيها ، والدأب عليها والمحافظة ، وهو ما رواه البراء بن عازب قال : لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فقلت : يا رسول الله ! إن كنت لأحسب أن المصافحة للأعاجم ؟ فقال : ( نحن أحق بالمصافحة منهم ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبها بينهما ) .
قوله تعالى : " وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن " ولم يقل من الجب استعمالا للكرم ؛ لئلا يذكر إخوته صنيعهم بعد عفوه عنهم{[9283]} بقوله : " لا تثريب عليكم " .
قلت : وهذا هو الأصل عند مشايخ الصوفية : ذكر الجفا في وقت الصفا جفا ، وهو قول صحيح دل عليه الكتاب . وقيل : لأن في دخول السجن كان باختياره بقوله : " رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه " [ يوسف : 33 ] وكان في الجب بإرادة الله تعالى له . وقيل : لأنه كان في السجن مع اللصوص والعصاة ، وفي الجب مع الله تعالى ، وأيضا فإن المنة في النجاة من السجن كانت أكبر ، لأنه دخله بسبب أمر هَمَّ به ، وأيضا دخله باختياره إذ قال : " رب السجن أحب إلي " فكان الكرب فيه أكثر ، وقال فيه أيضا : " اذكرني عند ربك " [ يوسف : 42 ] فعوقب فيه .
قوله تعالى : " وجاء بكم من البدو " يروى أن مسكن يعقوب كان بأرض كنعان ، وكانوا أهل مواش وبرية ، وقيل : كان يعقوب تحول إلى بادية وسكنها ، وأن الله لم يبعث نبيا من أهل البادية . وقيل : إنه كان خرج إلى بدا ، وهو موضع ، وإياه عنى جميل بقوله :
وأنتِ التي حَبَّبْتِ شَغْبًا{[9284]} إلى بَدَا *** إليّ وأوطانِي بلادٌ سِوَاهُمَا
وليعقوب بهذا الموضع مسجد تحت جبل . يقال : بدا القوم بدوا إذا أتوا بدا ، كما يقال : غاروا غورا أي أتوا الغور ، والمعنى : وجاء بكم من مكان بدا ، ذكره القشيري ، وحكاه الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس . " من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي " بإيقاع الحسد ، قاله ابن عباس . وقيل : أفسد ما بيني وبين إخوتي ، أحال ذنبهم على الشيطان تكرما منه .
" إن ربي لطيف لما يشاء " أي رفيق بعباده . وقال الخطابي : اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون ، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون ، كقوله : " الله لطيف بعباده يرزق من يشاء{[9285]} " [ الشورى : 19 ] . وقيل : اللطيف العالم بدقائق الأمور ، والمراد هنا الإكرام والرفق . قال قتادة : لطف بيوسف بما خراجه من السجن ، وجاءه بأهله من البدو ، ونزع عن قلبه نزغ الشيطان . ويروى أن يعقوب لما قدم بأهله وولده وشارف أرض مصر وبلغ ذلك يوسف استأذن فرعون - واسمه الريان - أن يأذن له في تلقي أبيه يعقوب ، وأخبره بقدومه فأذن له ، وأمر الملأ من أصحابه بالركوب معه ، فخرج يوسف والملك معه في أربعة آلاف من الأمراء مع كل أمير خلق الله أعلم بهم ، وركب أهل مصر معهم يتلقون يعقوب ، فكان يعقوب يمشي متكئا على يد يهوذا ، فنظر يعقوب إلى الخيل والناس والعساكر فقال : يا يهوذا ! هذا فرعون مصر ؟ قال : لا ، بل هذا ابنك يوسف ، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف ليبدأه بالسلام فمنع{[9286]} من ذلك ، وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل ، فابتدأ يعقوب بالسلام فقال : السلام عليك يا مذهب الأحزان ، وبكى وبكى معه يوسف ، فبكى يعقوب فرحا ، وبكى يوسف لما رأى بأبيه من الحزن ، قال ابن عباس : فالبكاء أربعة ، بكاء من الخوف ، وبكاء من الجزع ، وبكاء من الفرح ، وبكاء رياء . ثم قال يعقوب : الحمد لله الذي أقر عيني بعد الهموم والأحزان ، ودخل مصر في اثنين وثمانين من أهل بيته ، فلم يخرجوا من مصر حتى بلغوا ستمائة ألف ونيف ألف ، وقطعوا البحر مع موسى عليه السلام ، رواه عكرمة عن ابن عباس . وحكى ابن مسعود أنهم دخلوا مصر وهم ثلاثة وتسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة ، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف{[9287]} وسبعون ألفا . وقال الربيع بن خيثم : دخلوها وهم اثنان وسبعون ألفا ، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف . وقال وهب : بن منبه{[9288]} دخل يعقوب وولده مصر وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة وصغير ، وخرجوا منها مع موسى فرارا من فرعون ، وهم ستمائة ألف وستمائة وبضع وسبعون رجل مقاتلين ، سوى الذرية . والهَرْمَى والزَّمْنَى ، وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف سوى المقاتلة ، وقال أهل التواريخ : أقام يعقوب بمصر أربعا وعشرين سنة في أغبط حال ونعمة ، ومات بمصر ، وأوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق بالشام ففعل ، ثم انصرف إلى مصر . قال سعيد بن جبير : نقل يعقوب صلى الله عليه وسلم في تابوت من ساج إلى بيت المقدس ، ووافق ذلك يوم مات عيصو ، فدفنا في قبر واحد ، فمن ثم تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس ، من فعل ذلك منهم ، وولد يعقوب وعيصو في بطن واحد ، ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعا مائة وسبعا{[9289]} وأربعين سنة .