قوله تعالى : " فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما "
الأولى- قوله تعالى : { حتى إذا أتيا أهل قرية } في صحيح مسلم عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم : لئاما ، فطافا في المجالس ف " استطعما أهلها فأبوا أن يضيقوهما فوجدا فيها جدار يريد أن ينقض " يقول : مائل قال : " فأقامه " الخضر بيده قال له موسى : قوم أتيناهم فلم يضيفونا ، ولم يطعمونا " لو شئت لاتخذت عليه أجرا ، قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطيع عليه صبرا " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهما ) .
الثانية- واختلف العلماء في القرية فقيل : هي أبلة ، قاله قتادة ، وكذلك قال محمد بن سيرين ، وهى أبخل قرية وأبعدها من السماء وقيل : أنطاكية وقيل : بجزيرة الأندلس ، روي ذلك عن أبي هريرة وغيره ، ويذكر أنها الجزيرة الخضراء وقالت فرقة : هي باجروان وهي بناحية أذربيجان ، وحكى السهيلي وقال : إنها برقة . الثعلبي : هي قرية من قرى الروم يقال لها ناصرة ، وإليها تنسب النصارى ، وهذا كله بحسب الخلاف في أي ناحية من الأرض كانت قصة موسى ، والله أعلم بحقيقة ذلك .
الثالثة : كان موسى عليه السلام حين سقى لبنتي شعيب أحوج منه حين أتى القرية مع الخضر ، ولم يسأل قوتا بل سقى ابتداء ، وفي القرية سألا القوت ، وفي ذلك للعلماء انفصالات كثيرة ، منها أن موسى كان في حديث مدين منفردا وفي قصة الخضر تبعا{[10641]} لغيره .
قلت : وعلى هذا المعنى يتمشى قوله في أول الآية لفتاه " آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا " فأصابه الجوع مراعاة لصاحبه يوشع ، والله أعلم .
وقيل : لما كان هذا سفر تأديب وكل إلى تكلف المشقة ، وكان ذلك سفر هجرة فوكل إلى العون والنصرة بالقوت{[10642]} .
الرابعة-في هذه الآية دليل على سؤال القوت ، وأن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يرد جوعه ، خلافا لجهال{[10643]} المتصوفة والاستطعام سؤال الطعام ، والمراد به هنا سؤال الضيافة . بدليل قوله : " فأبوا أن يضيفوهما " فاستحق أهل القرية لذلك أن يذموا ، وينسبوا إلى اللؤم والبخل ، كما وصفهم بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام قال قتادة في هذه الآية : شر القرى التي لا تضيف الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقه . ويظهر من ذلك أن الضيافة كانت عليهم واجبة ، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما وجب لهما من الضيافة ، وهذا هو الأليق بحال الأنبياء ، ومنصب الفضلاء والأولياء وقد تقدم القول في الضيافة في " هود " {[10644]} والحمد لله .
ويعفو الله عن الحريري{[10645]} حيث استخف في هذه الآية وتمجن ، وأتى بخطل من القول وزل ، فاستدل بها على الكدية{[10646]} والإلحاح فيها ، وأن ذلك ليس بمعيب على فاعله ، ولا منقصة عليه ، فقال :
وإن رُدِدْتَ فما في الرد منقصة*** عليك قد رُدَّ موسى قبلُ والخضرُ
قلت : وهذا لعب بالدين ، وانسلال عن احترام النبيين ، وهي شنشنة أدبية ، وهفوة سخافية ، ويرحم الله السلف الصالح ، فلقد بالغوا في وصية كل ذي عقل راجح ، فقالوا : مهما كنت لاعبا بشيء فإياك أن تلعب بدينك .
الخامسة-قوله تعالى : " فوجدا فيها جدارا " الجدار والجدْر بمعنى واحد ، وفي الخبر : ( حتى يبلغ الماء الجدر{[10647]} ) . ومكان جدير بُني حواليه جدار ، وأصله الرفع وأجدرت الشجرة طلعت ، ومنه الجدري .
السادسة-قوله تعالى : " يريد أن ينقض " أي قرب أن يسقط ، وهذا مجاز وتوسع وقد فسره في الحديث بقوله : ( مائل ) فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن ، وهو مذهب الجمهور . وجميع الأفعال التي حقها أن تكون للحي الناطق متى أسندت إلى جماد أو بهيمة فإنما هي استعارة ، أي لو كان مكانهما إنسان لكان متمثلا لذلك الفعل ، هذا كلام العرب وأشعارها كثير ، فمن ذلك قول الأعشى :
أتنتهون ولا يَنْهَى ذوي شَطَطٍ{[10648]} *** كالطعن يذهب فيه الزيتُ والفُتُلُ
فأضاف النهي إلى الطعن . ومن ذلك قول الآخر :
يريدُ الرمحُ صدرَ أبي براء *** ويرغب عن دماء بني عقيل
إن دهرا يَلُفُّ شملي بِجُمْلِ *** لَزَمَانٌ يَهُمُّ بالإحسان
في مهمه فُلِقَت به هاماتُها *** فَلَقَ الفُؤس إذا أردن نُصُولا
أي ثبوتا في الأرض ، من قولهم : نصل السيف إذا ثبت في الرمية ، فشبه وقع السيوف على رؤوسهم بوقع الفؤوس في الأرض فإن الفأس يقع فيها ويثبت لا يكاد يخرج . وقال حسان بن ثابت :
لو أن اللوم يُنْسَبُ كان عبدا *** قبيحَ الوجه أعورَ من ثقيفِ
فازْوَرَّ من وَقْعِ القَنَا بِلَبَانِهِ *** وشَكَا إليّ بعَبْرَةٍ وتَحَمْحُمِ
وقد فسر{[10649]} هذا المعنى بقوله :
لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى
وهذا في هذا المعنى كثير جدا ومنه قول الناس : إن داري تنظر إلى دار فلان وفي الحديث : ( اشتكت النار إلى ربها ) وذهب قوم إلى منع المجاز في القرآن ، منهم أبو إسحاق الإسفرايني وأبو بكر محمد بن داود الأصبهاني وغيرهما ، فإن كلام الله عز وجل وكلام رسوله حمله على الحقيقة أولى بذي الفضل والدين ؛ لأنه الحق كما أخبر الله تعالى في كتابه .
ومما احتجوا به أن قالوا : لو خاطبنا الله تعالى بالمجاز لزم وصفه بأنه متجوز أيضا ، فإن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة ، وهو على الله تعالى محال ، قال الله تعالى : " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون{[10650]} " [ النور : 24 ] وقال تعالى : " وتقول هل من مزيد " {[10651]}[ ق : 30 ] وقال تعالى : " إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا " {[10652]} [ الفرقان : 12 ] وقال تعالى : " تدعو من أدبر وتولى " {[10653]} [ المعارج : 17 ] و( اشتكت النار إلى ربها ) ( واحتجت النار والجنة ) وما كان مثلها حقيقة ، وأن خالقها الذي أنطق كل شيء أنطقها . وفي صحيح مسلم من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر{[10654]} من نفسه ، وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه ) . هذا في الآخرة .
وأما في الدنيا ، ففي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنسان ، وحتى تكلم الرجل عَذَبَةُ سوطه وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده ) [ قال أبو عيسى ]{[10655]} : وفي الباب عن أبي هريرة ، وهذا حديث حسن غريب .
السابعة-قوله تعالى : " فأقامه " قيل : هدمه ثم قعد يبنيه . " قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا " فقال موسى للخضر : " قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا " لأنه فعل يستحق أجرا ، وذكر أبو بكر الأنباري عن ابن عباس عن أبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ " فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه " قال أبو بكر : وهذا الحديث إن صح سنده فهو جار من الرسول عليه الصلاة والسلام مجرى التفسير للقرآن ، وأن بعض الناقلين أدخل [ تفسير ]{[10656]} قرآن في موضع فسرى أن ذلك قرآن نقص من مصحف عثمان ، على ما قاله بعض الطاعنين ، وقال سعيد بن جبير : مسحه بيده وأقامه فقام ، وهذا القول هو الصحيح ، وهو الأشبه بأفعال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، بل والأولياء ، وفي بعض الأخبار : إن سمك ذلك الحائط كان ثلاثين ذراعا بذراع ذلك القرن ، وطوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع ، وعرضه خمسون ذراعا ، فأقامه الخضر عليه السلام أي سواه بيده فاستقام ؛ قال الثعلبي في كتاب العرائس : فقال موسى للخضر " لو شئت لاتخذت عليه أجرا " أي طعاما تأكله ، ففي هذا دليل على كرامات الأولياء ، وكذلك ما وصف من أحوال الخضر عليه السلام في هذا الباب كلها أمور خارقة للعادة ، هذا إذا تنزلنا على أنه ولي لا نبي . وقوله تعالى : " وما فعلته عن أمري " [ الكهف : 82 ] يدل علي نبوته وأنه يوحى إليه بالتكليف والأحكام ، كما أوحى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير أنه ليس برسول ، والله أعلم .
الثامنة-واجب على الإنسان ألا يتعرض للجلوس تحث جدار مائل يخاف سقوطه ، بل يسرع في المشي إذا كان مارا عليه ؛ لأن في حديث النبي عليه الصلاة والسلام ( إذا مر أحدكم بطربال مائل فليسرع المشي ) . قال أبو عبيد القاسم بن سلام : كان أبو عبيدة يقول : الطربال شبيه بالمنظرة من مناظر العجم كهيئة الصومعة ، والبناء المرتفع ، قال جرير :
ألوَى{[10657]} بها شَذْبُ العروق مُشَذَّبٌ *** فكأنما وَكَنَتْ على طِرْبَالِ
يقال منه : وكَنَ يكِنُ إذا جلس ، وفي الصحاح : الطربال القطعة العالية من الجدار ، والصخرة العظيمة المشرفة من الجبل ، وطرابيل الشام صوامعها . ويقال : طَرْبَلَ بولَه إذا مده إلى فوق .
التاسعة-كرامات الأولياء ثابتة ، على ما دلت عليه الأخبار الثابتة ، والآيات المتواترة ، ولا ينكرها إلا المبتدع الجاحد ، أو الفاسق الحائد ، فالآيات ما أخبر الله تعالى في حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية في الصيف ، والصيفية في الشتاء - على ما تقدم - وما ظهر على يدها حيث أمرت النخلة وكانت يابسة فأثمرت ، وهي ليست بنبية ، على الخلاف ويدل عليها ما ظهر على يد الخضر عليه السلام من خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإقامة الجدار . قال بعض العلماء : ولا يجوز أن يقال كان نبيا ؛ لأن إثبات النبوة لا يجوز بأخبار الآحاد ، لا سيما وقد روي من طريق التواتر - من غير أن يحتمل تأويلا - بإجماع الأمة قوله عليه الصلاة والسلام : ( لا نبي بعدي ) وقال تعالى : " وخاتم النبيين " {[10658]} [ الأحزاب : 40 ] والخضر وإلياس{[10659]} جميعا باقيان مع هذه الكرامة ، فوجب أن يكونا غير نبيين ؛ لأنهما لو كانا نبيين لوجب أن يكون بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي ، إلا ما قامت الدلالة في حديث عيسى أنه ينزل بعده .
قلت : الخضر كان نبيا على ما تقدم وليس بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي ، أي يدعي النبوة بعده أبدا والله أعلم . .
العاشرة-اختلف الناس هل يجوز أن يعلم الولي أنه ولي أم لا ؟ على قولين : [ أحدهما ] أنه لا يجوز ، وأن ما يظهر على يديه يجب أ ن يلاحظه بعين خوف المكر ؛ لأنه لا يأمن أن يكون مكرا واستدراجا له ، وقد حكي عن السري أنه كان يقول : لو أن رجلا دخل بستانا فكلمه من رأس كل شجرة طير بلسان فصيح : السلام عليك يا ولي الله فلو لم يخف أن يكون ذلك مكرا لكان ممكورا به ، ولأنه لو علم أنه ولي لزال عنه الخوف ، وحصل له الأمن . ومن شرط الولي أن يستديم الخوف إلى أن تتنزل عليه الملائكة ، كما قال عز وجل : " تنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا " {[10660]} [ فصلت : 30 ] ولأن الولي من كان مختوما له بالسعادة ، والعواقب مستورة ولا يدري أحد ما يختم له به ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( إنما الأعمال بالخواتيم ) . [ القول الثاني ] أنه يجوز للولي أن يعلم أنه ولي ، ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام يجوز أن يعلم أنه ولي ، ولا خلاف أنه يجوز لغيره أن يعلم{[10661]} أنه ولي الله تعالى ، فجاز أن يعلم ذلك . وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام من حال العشرة من أصحابه أنهم من أهل الجنة ، ثم لم يكن في ذلك زوال خوفهم ، بل كانوا أكثر تعظيما لله سبحانه وتعالى ، وأشد خوفا وهيبة ، فإذا جاز للعشرة ذلك ولم يخرجهم عن الخوف فكذلك غيرهم . وكان الشبلي يقول : أنا أمان هذا الجانب ، فلما مات ودفن عبر الديلم دجلة ذلك اليوم ، واستولوا على بغداد ، ويقول الناس : مصيبتان موت الشبلي وعبور الديلم . ولا يقال : إنه يحتمل أن يكون ذلك استدراجا لأنه لو جاز ذلك لجاز ألا يعرف النبي أنه نبي وولي الله ، لجواز أن يكون ذلك استدراجا ، فلما لم يجز ذلك لأن فيه إبطال المعجزات لم يجز هذا ، لأن فيه إبطال الكرامات . وما روي من ظهور الكرامات على يدي بلعام وانسلاخه عن الدين بعدها لقوله : " فانسلخ منها . . . " {[10662]} [ الأعراف : 175 ] فليس في الآية أنه كان وليا ثم انسلخت عنه الولاية . وما نقل أنه ظهر على يديه ما يجري مجرى الكرامات هو أخبار آحاد لا توجب العلم ، والله أعلم .
والفرق بين المعجزة والكرامة أن الكرامة من شرطها الاستتار ، والمعجزة من شرطها الإظهار . وقيل : الكرامة ما تظهر من غير دعوى والمعجزة ما تظهر عند دعوى الأنبياء فيطالبون بالبرهان فيظهر أثر ذلك . وقد تقدم في مقدمة الكتاب شرائط المعجزة ، والحمد لله تعالى وحده لا شريك له . وأما الأحاديث الواردة في الدلالة على ثبوت الكرامات ، فمن ذلك ما خرجه البخاري من حديث أبي هريرة قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية عيناً وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري{[10663]} وهو جد{[10664]} عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهَدْأَة وهي بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فنفروا إليهم قريبا من مائتي راجل كلهم رام ، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة ، فقالوا هذا تمر يثرب ، فاقتصوا آثارهم ، فلما رآهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد{[10665]} وأحاط بهم القوم ، فقالوا لهم : انزلوا فأعطونا أيديكم ولكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم أحدا ، فقال عاصم بن ثابت أمير السرية : أما فوالله لا أنزل اليوم في ذمة الكافر ، اللهم أخبر عنا نبيك ، فرموا بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة ، فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق ، وهم خبيب الأنصاري وابن الدثنة ورجل آخر{[10666]} ، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم ، فقال الرجل الثالث : هذا أول الغدر والله لا أصحبكم ، إن لي في هؤلاء لأسوة - يريد القتلى - فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه ، فانطلقوا بخبيب وابن الدثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر ، فابتاع خبيبا بنو الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ، وكان خبيب هو الذي قتل الحرث بن عامر يوم بدر ، فلبث خبيب عندهم أسيرا ، فأخبر عبيد الله بن عياض أن بنت الحرث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته ، فأخذ ابن لي وأنا غافلة حتى أتاه ، قالت : فوجدته مُجْلِسَه على فخذه والموسى بيده ، ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي ، فقال : أتخشين أن أقتله ؟ ما كنت لأفعل ذلك . قالت : والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خيب ، والله لقد وجدته يوما يأكل قطف عنب في يده ، وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمر ، وكانت تقول : إنه لرزق رزقه الله تعالى خبيبا ، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب : دعوني أركع ركعتين ، فتركوه فركع ركعتين ثم قال : لولا أن تظنوا أن ما بي جزع من الموت لزدت{[10667]} ، ثم قال : اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تبق منهم أحدا ، ثم قال :
ولست أبالي حين أقتل مسلما *** على أي شِقٍّ كان لله مصرعي
وذلك في ذات إلاله وإن يشأ *** يبارك على أوصال شِلْوٍ مُمَزَّعِ
فقتله بنو الحرث ، وكان خبيب هو الذي سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا ، فاستجاب الله تعالى لعاصم يوم أصيب ، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه خبرهم وما أصيبوا . وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل ليؤتوا بشيء منه يعرفونه ، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر ، فبعث الله على عاصم مثل الظلة من الدَّبْر{[10668]} فحمته من رسلهم ، فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا . وقال ابن إسحاق في هذه القصة : وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد{[10669]} ، وقد كانت نذرت حين أصاب ابنيها بأحد لئن قدرت على رأسه لتشربن في قَحْفِه{[10670]} الخمر فمنعهم الدَّبْر ، فلما حالت بينه وبينهم قالوا : دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه ، فبعث الله تعالى الوادي فاحتمل عاصما فذهب ، وقد كان عاصم أعطى الله تعالى عهدا ألا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا في حياته ، فمنعه الله تعالى بعد وفاته مما امتنع منه في حياته . وعن عمرو بن أمية الضمري : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه عينا وحده فقال : جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون فأطلقته ، فوقع في الأرض ، ثم اقتحمت فانتبذت قليلا ، ثم التفت فكأنما ابتلعته الأرض . وفي رواية أخرى زيادة : فلم نذكر لخبيب رِمَّةً حتى الساعة ، ذكره البيهقي .
الحادية عشرة-ولا ينكر أن يكون للولي مال وضيعة يصون بها ماله وعياله ، وحسبك بالصحابة وأموالهم مع ولايتهم وفضلهم ، وهم الحجة على غيرهم . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بينما رجل بفلاة من أرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان ، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة{[10671]} فإذا شَرْجَةٌ من تلك الشِّرَاج قد استوعبت ذلك الماء كله ، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمِسْحَاتِه{[10672]} فقال : يا عبد الله ما اسمك ؟ قال : فلان الاسم الذي سمعه في السحابة فقال له : يا عبد الله لم سألتني عن اسمي قال : إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك ، فما فيها ؟ قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه ، وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثه ) وفي رواية ( وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل ) .
قلت : وهذا الحديث لا يناقضه قوله عليه الصلاة والسلام : ( لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا ) خرجه الترمذي من حديث ابن مسعود وقال فيه حديث حسن ، فإنه محمول على من اتخذها مستكثرا أو متنعما ومتمتعا بزهرتها ، وأما من اتخذها معاشا يصون بها دينه وعياله فاتخاذها بهذه النية من أفضل الأعمال ، وهي من أفضل الأموال ، قال عليه الصلاة والسلام : ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) ، قد أكثر الناس في كرامات الأولياء وما ذكرناه فيه كفاية ، والله الموفق للهداية .
الثانية عشرة-قوله تعالى : " لاتخذت عليه أجرا " فيه دليل على صحة جواز الإجارة ، وهى سنة الأنبياء والأولياء على ما يأتي بيانه في سورة " القصص{[10673]} " إن شاء الله تعالى . وقرأ الجمهور " لاتخذت " وأبو عمرو " لتخذت " وهي قراءة ابن مسعود والحسن وقتادة ، وهما لغتان بمعنى واحد من الأخذ ، مثل قولك : تبع واتبع ، وتقى واتقى وأدغم بعض القراء الذال في التاء ، ولم يدغمها بعضهم وفي حديث أبي بن كعب :( لو شئت لأوتيت أجرا ) وهذه صدرت من موسى سؤالا على جهة العرض لا الاعتراض .