الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ} (186)

فيه أربع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " وإذا سألك " المعنى وإذا سألوك عن المعبود فأخبرهم أنه قريب يثيب على الطاعة ويجيب الداعي ، ويعلم ما يفعله العبد من صوم وصلاة وغير ذلك . واختلف في سبب نزولها ، فقال مقاتل : إن عمر رضي اللّه عنه واقع امرأته بعد ما صلى العشاء فندم على ذلك وبكى ، وجاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبره بذلك ورجع مغتما ، وكان ذلك قبل نزول الرخصة ، فنزلت هذه الآية : " إذا سألك عبادي عني فإني قريب " . وقيل : لما وجب عليهم في الابتداء ترك الأكل بعد النوم فأكل بعضهم ثم ندم ، فنزلت هذه الآية في قبول التوبة ونسخ ذلك الحكم ، على ما يأتي بيانه{[1598]} . وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : قالت اليهود كيف يسمع ربنا دعاءنا ، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام ، وغلظ كل سماء مثل ذلك ؟ فنزلت هذه الآية . وقال الحسن : سببها أن قوما قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ فنزلت . وقال عطاء وقتادة : لما نزلت : " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم{[1599]} " [ غافر : 60 ] قال قوم : في أي ساعة ندعوه ؟ فنزلت .

الثانية : قوله تعالى : " فإني قريب " أي بالإجابة . وقيل بالعلم . وقيل : قريب من أوليائي بالإفضال والإنعام .

الثالثة : قوله تعالى : " أجيب دعوة الداعي إذا دعان " أي أقبل عبادة من عبدني ، فالدعاء بمعنى العبادة ، والإجابة بمعنى القبول . دليله ما رواه أبو داود عن النعمان بن بشير عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : ( الدعاء هو العبادة قال ربكم ادعوني أستجب لكم ) فسمي الدعاء عبادة ، ومنه قوله تعالى : " إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين{[1600]} " [ غافر : 60 ] أي دعائي . فأمر تعالى بالدعاء وحض عليه وسماه عبادة ، ووعد بأن يستجيب لهم . روى ليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : ( أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء ، كان اللّه إذا بعث نبيا قال : ادعني أستجب لك ، وقال لهذه الأمة : ادعوني أستجب لكم ، وكان اللّه إذا بعث النبي قال له : ما جعل عليك في الدين من حرج ، وقال لهذه الأمة : ما جعل عليكم في الدين من حرج ، وكان اللّه إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه ، وجعل هذه الأمة شهداء على الناس ) . وكان خالد الربعي يقول : عجبت لهذه الأمة في " ادعوني أستجب لكم " [ غافر : 60 ] أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة ، وليس بينهما شرط . قال له قائل : مثل ماذا ؟ قال مثل قوله : " وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات{[1601]} " [ البقرة : 25 ] فههنا شرط ، وقوله : " وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق{[1602]} " [ يونس : 2 ] فليس فيه شرط العمل ، ومثل قوله : " فادعوا الله مخلصين له الدين{[1603]} " [ غافر : 14 ] فههنا شرط ، وقوله : " ادعوني أستجب لكم " ليس فيه شرط . وكانت الأمم تفزع إلى أنبيائها في حوائجهم حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك . فإن قيل : فما للداعي قد يدعو فلا يجاب ؟ فالجواب أن يعلم أن قوله الحق في الآيتين " أجيب " " أستجب " لا يقتضي الاستجابة مطلقا لكل داع على التفصيل ، ولا بكل مطلوب على التفصيل ، فقد قال ربنا تبارك وتعالى في آية أخرى : " ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين{[1604]} " [ الأعراف : 55 ] وكل مصر على كبيرة عالما بها أو جاهلا فهو معتد ، وقد أخبر أنه لا يحب المعتدين فكيف يستجيب له . وأنواع الاعتداء كثيرة ، يأتي بيانها هنا وفي " الأعراف " إن شاء اللّه تعالى . وقال بعض العلماء : أجيب إن شئت ، كما قال : " فيكشف ما تدعون إليه إن شاء{[1605]} " [ الأنعام : 41 ] فيكون هذا من باب المطلق والمقيد . وقد دعا النبي صلى اللّه عليه وسلم في ثلاث فأعطي اثنتين ومنع واحدة ، على ما يأتي بيانه في " الأنعام " إن شاء اللّه تعالى . وقيل : إنما مقصود هذا الإخبار تعريف جميع المؤمنين أن هذا وصف ربهم سبحانه أن يجيب دعاء الداعين في الجملة ، وأنه قريب من العبد يسمع دعاءه ويعلم اضطراره فيجيبه بما شاء وكيف شاء " ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له " [ الأحقاف : 5 ] الآية . وقد يجيب السيد{[1606]} عبده والوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله . فالإجابة كانت حاصلة لا محالة عند وجود الدعوة ؛ لأن أجيب وأستجب خبر لا ينسخ فيصير المخبر كذابا . يدل على هذا التأويل ما روى ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : ( من فتح له في الدعاء فتحت له أبواب الإجابة ) . وأوحى اللّه تعالى إلى داود : أن قل للظلمة من عبادي لا يدعوني فإني أوجبت على نفسي أن أجيب من دعاني وإني إذا أجبت الظلمة لعنتهم . وقال قوم : إن اللّه يجيب كل الدعاء ، فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا ، وإما أن يكفر عنه ، وإما أن يدخر له في الآخرة ، لما رواه أبو سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ( ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه اللّه بها إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها ) . قالوا : إذن نكثر ؟ قال : ( لله أكثر ) . خرجه أبو عمر بن عبد البر ، وصححه أبو محمد عبد الحق ، وهو في الموطأ منقطع السند . قال أبو عمر : وهذا الحديث يخرج في التفسير المسند لقول اللّه تعالى " ادعوني أستجب لكم " [ غافر : 60 ] فهذا كله من الإجابة . وقال ابن عباس : كل عبد دعا استجيب له ، فإن كان الذي يدعو به رزقا له في الدنيا أعطيه ، وإن لم يكن رزقا له في الدنيا ذخر له . قلت : وحديث أبي سعيد الخدري وإن كان إذنا بالإجابة في إحدى ثلاث فقد دلك على صحة ما تقدم من اجتناب الاعتداء المانع من الإجابة حيث قال فيه : ( ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ) وزاد مسلم : ( ما لم يستعجل ) . رواه عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : ( لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل - قيل : يا رسول اللّه ، ما الاستعجال ؟ قال - يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر{[1607]} عند ذلك ويدع الدعاء ) . وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عيه وسلم قال : ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي ) . قال علماؤنا رحمة اللّه عليهم : يحتمل قوله ( يستجاب لأحدكم ) الإخبار عن [ وجوب ]{[1608]} وقوع الإجابة ، والإخبار عن جواز وقوعها ، فإذا كان بمعنى الإخبار عن الوجوب والوقوع فإن الإجابة تكون بمعنى الثلاثة الأشياء المتقدمة . فإذا قال : قد دعوت فلم يستجب لي ، بطل وقوع أحد هذه الثلاثة الأشياء ، وعري الدعاء من جميعها . وإن كان بمعنى جواز الإجابة فإن الإجابة حينئذ تكون بفعل ما دعا به خاصة ، ويمنع من ذلك قول الداعي : قد دعوت فلم يستجب لي ؛ لأن ذلك من باب القنوط وضعف اليقين والسخط .

قلت : ويمنع من إجابة الدعاء أيضا أكل الحرام وما كان في معناه ، قال صلى اللّه عليه وسلم : ( الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنَّى يستجاب لذلك ) وهذا استفهام على جهة الاستبعاد من قبول دعاء من هذه صفته ، فإن إجابة الدعاء لا بد لها من شروط في الداعي وفي الدعاء وفي الشيء المدعو به . فمن شرط الداعي أن يكون عالما بأن لا قادر على حاجته إلا اللّه ، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره ، وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب ، فإن اللّه لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه ، وأن يكون مجتنبا لأكل الحرام ، وألا يمل من الدعاء . ومن شرط المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا ، كما قال : ( ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ) فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب ، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم . وقال سهل بن عبدالله التستري : شروط الدعاء سبعة : أولها التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال . وقال ابن عطاء : إن للدعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا ، فإن وافق أركانه قوي ، وإن وافق أجنحته طار في السماء ، وإن وافق مواقيته فاز ، وإن وافق أسبابه أنجح . فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع ، وأجنحته الصدق ، ومواقيته الأسحار ، وأسبابه الصلاة على محمد صلى اللّه عليه وسلم . وقيل : شرائطه أربع : أولها حفظ القلب عند الوحدة ، وحفظ اللسان مع الخلق ، وحفظ العين عن النظر إلى ما لا يحل ، وحفظ البطن من الحرام . وقد قيل : إن من بين شرط الدعاء أن يكون سليما من اللحن ، كما أنشد بعضهم :

ينادي ربه باللحن ليثٌ *** كذاك إذا دعاه لا يجيب

وقيل لإبراهيم بن أدهم : ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا ؟ قال : لأنكم عرفتم اللّه فلم تطيعوه ، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته ، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به ، وأكلتم نعم اللّه فلم تؤدوا شكرها ، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها ، وعرفتم النار فلم تهربوا منها ، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه ، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له ، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا ، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس . قال علي رضي اللّه عنه لنوف البكالي : يا نوف ، إن اللّه أوحى إلى داود أن مر بني إسرائيل ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب طاهرة ، وأبصار خاشعة ، وأيد نقية ، فإني لا أستجيب لأحد منهم ، ما دام لأحد من خلقي مظلمة . يا نوف ، لا تكونن شاعرا ولا عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا عشارا{[1609]} ، فإن داود قام في ساعة من الليل فقال : إنها ساعة لا يدعو عبد إلا استجيب له فيها ، إلا أن يكون عريفا أو شرطيا أو جابيا أو عشارا ، أو صاحب عرطبة ، وهي الطنبور ، أو صاحب كوبة ، وهي الطبل . قال علماؤنا : ولا يقل الداعي : اللهم اعطني إن شئت ، اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ، بل يعري سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة ، ويسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا أن يشاء . وأيضا فإن في قوله : " إن شئت " نوع من الاستغناء عن مغفرته وعطائه ورحمته ، كقول القائل : إن شئت أن تعطيني كذا فافعل ، لا يستعمل هذا إلا مع الغني عنه ، وأما المضطر إليه فإنه يعزم في مسألته ويسأل سؤال فقير مضطر إلى ما سأله . روى الأئمة واللفظ للبخاري عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ( إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له ) . وفي الموطأ : ( اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ) . قال علماؤنا : قوله ( فليعزم المسألة ) دليل على أنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء من الإجابة ، ولا يقنط من رحمة اللّه ، لأنه يدعو كريما . قال سفيان بن عيينة : لا يمنعن أحدا من الدعاء ما يعلمه من نفسه فإن اللّه قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس ، قال : رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ، قال فإنك من المنظرين . وللدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة ، وذلك كالسحر ووقت الفطر ، وما بين الأذان والإقامة ، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء ، وأوقات الاضطرار وحالة السفر والمرض ، وعند نزول المطر والصف في سبيل اللّه . كل هذا جاءت به الآثار ، ويأتي بيانها في مواضعها . وروى شهر بن حوشب أن أم الدرداء قالت له : يا شهر ، ألا تجد القشعريرة ؟ قلت : نعم . قالت : فادع اللّه فإن الدعاء مستجاب عند ذلك . وقال جابر بن عبد الله : دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مسجد الفتح ثلاثا يوم الاثنين ويوم الثلاثاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرفت السرور في وجهه . قال جابر : ما نزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة .

الرابعة : قوله تعالى : " فليستجيبوا لي " قال أبو رجاء الخراساني : فليدعوا لي . وقال ابن عطية : المعنى فليطلبوا أن أجيبهم . وهذا هو باب استفعل أي طلب الشيء إلا ما شذ مثل استغنى اللّه . وقال مجاهد وغيره : المعنى فليجيبوا إليّ فيما دعوتهم إليه من الإيمان ، أي الطاعة والعمل ويقال : أجاب واستجاب بمعنى ، ومنه قول الشاعر :

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي لم يجبه والسين زائدة واللام لام الأمر . وكذا " وليؤمنوا " وجزمت لام الأمر لأنها تجعل الفعل مستقبلا لا غير فأشبهت إن التي للشرط . وقيل : لأنها لا تقع إلا على الفعل .

قوله تعالى : " وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون " اللام لام الأمر وجزمت لأنها تجعل الفعل مستقبلا لا غير ، فأشبهت إن التي للشرط . وقيل : لأنها لا تقع إلا على الفعل . والرشاد خلاف الغي . وقد رشد يرشد رشدا . ورشد بالكسر يرشد رشدا ، لغة فيه . وأرشده اللّه . والمراشد : مقاصد الطرق . والطريق الأرشد : نحو الأقصد . وتقول : هو لرشدة{[1610]} . خلاف قولك : لزنية . وأم راشد كنية للفأرة وبنو رشدان : بطن من العرب ، عن الجوهري . وقال الهروي : الرُّشد والرَّشد والرشاد : الهدى والاستقامة ، ومنه قوله : " لعلهم يرشدون " .


[1598]:راجع ص 314 من هذا الجزء.
[1599]:راجع ج 15 ص 326.
[1600]:راجع ج 15 ص 326
[1601]:راجع ج 1 ص 238
[1602]:راجع ج 8 ص 306
[1603]:راجع ج 15 ص 299
[1604]:راجع ج 7 ص 222
[1605]:راجع ج 6 ص 423
[1606]:راجع ج 16 ص 183
[1607]:يستحسر: ينقطع عن الدعاء ويمله.
[1608]:زيادة عن الموطأ يقتضها السياق.
[1609]:العريف: الذي يلي أمور طائفة من الناس ويتعرف أمورهم ويبلغها للأمير. والشرطي (كتركى وكجهني): هم أعوان الحاكم. والعشار: من يتولى أخذ أعشار الأموال.
[1610]:بكسر الراء وقد تفتح، ومعناه: إذا كان لنكاح صحيح.