الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ فَلَنۡ أَكُونَ ظَهِيرٗا لِّلۡمُجۡرِمِينَ} (17)

فيه مسألتان :

الأولى- قوله تعالى : " قال رب بما أنعمت علي " أي من المعرفة والحكم والتوحيد " فلن أكون ظهيرا للمجرمين " أي عونا للكافرين . قال القشيري : ولم يقل بما أنعمت علي من المغفرة ؛ لأن هذا قبل الوحي ، وما كان عالما بأن الله غفر له ذلك القتل . وقال الماوردي : " بما أنعمت علي " فيه وجهان : أحدهما : من المغفرة . وكذلك ذكر المهدوي والثعلبي . قال المهدوي : " بما أنعمت علي " من المغفرة فلم تعاقبني . الوجه الثاني : من الهداية

قلت : قوله : " فغفر له " يدل على المغفرة . والله أعلم

قال الزمخشري : قوله تعالى : " بما أنعمت علي " يجوز أن يكون قسما جوابه محذوف تقديره : أقسم بإنعامك علي بالمغفرة لأتوبن " فلن أكون ظهيرا للمجرمين " وأن يكون استعطافا كأنه قال : رب أعصمني بحق ما أنعمت علي من المغفرة ، فلن أكون إن عصمتني ظهيرا للمجرمين وأراد بمظاهرة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته ، وتكثير سواده ، حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد ، وكان يسمى ابن فرعون ، وإما بمظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم ، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلي القتل الذي لم يحل له قتله . وقيل : أراد إني وإن أسأت في هذا القتل الذي لم أومر به فلا أترك نصرة المسلمين على المجرمين ، فعلى هذا كان الإسرائيلي مؤمنا ونصرة المؤمن واجبة في جميع الشرائع . وقيل في بعض الروايات : إن ذلك الإسرائيلي كان كافرا . وإنما قيل له إنه من شيعته لأنه كان إسرائيليا ولم يرد الموافقة في الدين ، فعلى هذا ندم لأنه أعان كافر على كافر ، فقال : لا أكون بعدها ظهيرا للكافرين وقيل : ليس هذا خبرا بل هو دعاء ، أي فلا أكون بعد هذا ظهيرا ، أي فلا تجعلني يا رب ظهيرا للمجرمين . وقال الفراء : المعنى ، اللهم فلن أكون بعد ظهير للمجرمين ، وزعم أن قول هذا هو قول ابن عباس . قال النحاس : وأن يكون بمعنى الخبر أولى وأشبه بنسق الكلام كما يقال : لا أعصيك لأنك أنعمت علي ، وهذا قول ابن عباس على الحقيقة لا ما حكاه الفراء ، لأن ابن عباس قال : لم يستثن فابتلي من ثاني يوم ، والاستثناء لا يكون في الدعاء لا يقال : اللهم اغفر لي إن شئت ، وأعجب الأشياء أن الفراء روى عن ابن عباس هذا ثم حكى عنه قوله .

قلت : قد مضى هذا المعنى ملخصا مبينا في سورة " النمل " وأنه خبر لا دعاء وعن ابن عباس : لم يستثن فابتلي به مرة أخرى ، يعني لم يقل فلن أكون إن شاء الله وهذا نحو قوله : " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا " [ هود : 113 ] .

الثانية- قال سلمة بن نبيط : بعث عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك بعطاء أهل بخارى وقال : أعطهم . فقال : اعفني . فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه . فقيل له ما عليك أن تعطيهم وأنت لا ترزؤهم شيئا ؟ وقال : لا أحب أن أعين الظلمة على شيء من أمرهم . وقال عبيد الله بن الوليد الوصافي : قلت لعطاء بن أبي رباح : إن لي أخا يأخذ بقلمه ، وإنما يحسب ما يدخل ويخرج ، وله عيال ولو ترك ذلك لاحتاج وأدان ؟ فقال : من الرأس ؟ قلت : خالد بن عبد الله القسري ، قال : أما تقرأ ما قال العبد الصالح : " رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهير للمجرمين " قال ابن عباس : فلم يستثن فابتلي به ثانية فأعانه الله ، فلا يعينهم أخوك فإن الله يعينه . قال عطاء : فلا يحل لأحد أن يعين ظالما ولا يكتب له ولا يصحبه ، وأنه إن فعل شيئا من ذلك فقد صار معينا للظالمين وفي الحديث : ( ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما ، فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى به في جهنم ) ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من مشى مع مظلوم ليعينه على مظلمته ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيام يوم تزل فيه الأقدام ، ومن مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه أزل الله قدميه على الصراط يوم تدحض فيه الأقدام ) وفي الحديث : ( من مشى مع ظالم فقد أجرم ) فالمشي مع الظالم لا يكون جرما إلا إذا مشى معه ليعينه ، ولأنه ارتكب نهي الله تعالى في قول سبحانه وتعالى : " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " [ المائدة : 2 ]