الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (39)

قوله تعالى : " فنادته الملائكة " قرأ حمزة والكسائي " فناداه " بالألف على التذكير ويميلانها ؛ لأن أصلها الياء ، ولأنها رابعة . وبالألف قراءة ابن عباس وابن مسعود ، وهو اختيار أبي عبيد . وروي عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال : كان عبد الله يذكر الملائكة في كل{[3046]} القرآن . قال أبو عبيد : نراه اختار ذلك خلافا على المشركين لأنهم قالوا : الملائكة بنات الله . قال النحاس : هذا احتجاج لا يحصل منه شيء ؛ لأن العرب تقول : قالت الرجال ، وقال الرجال ، وكذا النساء ، وكيف يحتج عليهم بالقرآن ، ولو جاز أن يحتج عليهم بالقرآن بهذا لجاز أن يحتجوا بقوله تعالى : " وإذ قالت الملائكة " ولكن الحجة عليهم في قوله عز وجل : " أشهدوا خلقهم " {[3047]} [ الزخرف : 19 ] أي فلم يشاهدوا ، فكيف يقولون إنهم إناث فقد علم أن هذا ظن وهوى . وأما " فناداه " فهو جائز على تذكير الجمع ، " ونادته " على تأنيث الجماعة . قال مكي : والملائكة ممن يعقل في التكسير فجرى في التأنيث مجرى ما لا يعقل ، تقول : هي الرجال ، وهي الجذوع ، وهي الجِمال ، وقالت الأعراب . ويقوي ذلك قوله : " وإذ قالت الملائكة " وقد ذكر في موضع آخر فقال : " والملائكة باسطو أيديهم " {[3048]} [ الأنعام : 93 ] وهذا إجماع . وقال تعالى : " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب " {[3049]} [ الرعد : 23 ] فتأنيث هذا الجمع وتذكيره حسنان . وقال السدي : ناداه جبريل وحده ، وكذا في قراءة ابن مسعود . وفي التنزيل " ينزل الملائكة بالروح من أمره " {[3050]} يعني جبريل ، والروح الوحي . وجائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع . وجاء في التنزيل " الذين قال لهم الناس " {[3051]} [ آل عمران : 173 ] يعني نعيم بن مسعود ، على ما يأتي . وقيل : ناداه جميع الملائكة ، وهو الأظهر . أي جاء النداء من قبلهم .

قوله تعالى : " وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك " " وهو قائم " ابتداء وخبر " يصلي " في موضع رفع ، وإن شئت كان نصبا على الحال من المضمر . " أن الله " أي بأن الله . وقرأ حمزة والكسائي{[3052]} " إن " أي قالت إن الله ، فالنداء بمعنى القول . " يبشرك " بالتشديد قراءة أهل المدينة . وقرأ حمزة " يَبْشُرُك " مخففا ؛ وكذلك حميد بن القيس المكي إلا أنه كسر الشين وضم الياء وخفف الباء . قال الأخفش : هي ثلاث لغات بمعنى واحد .

دليل الأولى هي قراءة الجماعة أن ما في القرآن من هذا من فعل ماض أو أمر فهو بالتثقيل ، كقوله تعالى : " فبشر عباد " {[3053]} [ الزمر : 17 ] " فبشره بمغفرة " [ يس : 11 ] " فبشرناها بإسحاق " {[3054]} [ هود : 71 ] " قالوا بشرناك بالحق " {[3055]} [ الحجر : 55 ] . وأما الثانية وهي قراءة عبدالله بن مسعود فهي من بَشَر{[3056]} يَبْشُر وهي لغة تهامة ؛ ومنه قول الشاعر :

بشرتُ عِيالي إذ رأيت صحيفة *** أتتك من الحجاج يُتْلَى كتابها

وقال آخر{[3057]} :

وإذا رأيت الباهشين{[3058]} إلى النَّدَى *** غُبْراً أكفُّهُمُ بقاعٍ مُمْحِلِ

فأعِنْهُم وابشَرْ بما بَشِروا به *** وإذا هم نزلوا بضنك فانزلِ

وأما الثالثة فهي من أبشر يُبشر إبشارا قال :

يا أم عمرو أبشري بالبشرى *** موتٌ ذريعٌ وجراد عَظْلَى{[3059]}

قوله تعالى : " بيحيى " كان اسمه في الكتاب الأول حيا ، وكان اسم سارة زوجة إبراهيم عليه السلام بسارة ، وتفسيره بالعربية لا تلد ، فلما بشرت بإسحاق قيل لها : سارة ، سماها بذلك جبريل عليه السلام . فقالت : يا إبراهيم لم نقص من اسمي حرف ؟ فقال إبراهيم ذلك لجبريل عليهما السلام . فقال : ( إن ذلك الحرف زيد في اسم ابن لها من أفضل الأنبياء اسمه حيي وسمي بيحيى ) . ذكره النقاش . وقال قتادة : سمي بيحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان والنبوة . وقال بعضهم : سمي بذلك لأن الله تعالى أحيا به الناس بالهدى . وقال مقاتل : اشتق اسمه من اسم الله تعالى حي فسمي يحيى . وقيل : لأنه أحيا به رحم أمه .

قوله تعالى : " مصدقا بكلمة من الله " يعني عيسى في قول أكثر المفسرين . وسمي عيسى كلمة لأنه كان بكلمة الله تعالى التي هي " كن " فكان من غير أب . وقرأ أبو السمال العدوي " بكِلْمة " مكسورة الكاف ساكنة اللام في جميع القرآن ، وهي لغة فصيحة مثل كِتْف وفِخْذ . وقيل : سمي كلمة ؛ لأن الناس يهتدون به كما يهتدون بكلام الله تعالى . وقال أبو عبيد : معنى " بكلمة من الله " بكتاب من الله . قال : والعرب تقول أنشدني كلمة أي قصيدة ، كما روي أن الحويدرة{[3060]} ذكر لحسان فقال : لعن الله كلمته ، يعني قصيدته . وقيل غير هذا من الأقوال . والقول الأول أشهر وعليه من العلماء الأكثر . و " يحيى " أول من آمن بعيسى عليهما السلام وصدقه ، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين ويقال بستة أشهر . وكانا ابني خالة ، فلما سمع زكريا شهادته قام إلى عيسى فضمه إليه وهو في خرقه . وذكر الطبري أن مريم لما حملت بعيسى حملت أيضا أختها بيحيى ، فجاءت أختها زائرة فقالت : يا مريم أشعرت أني حملت ؟ فقالت لها مريم : أشعرت أنت أني حملت ؟ فقالت لها : وإني لأجد ما في بطني يسجد لما في بطنك . وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم . قال السدي : فذلك قوله " مصدقا بكلمة من الله " . " ومصدقا " نصب على الحال . " وسيدا " السيد : الذي يسود قومه وينتهى إلى قوله ، وأصله سَيْوِد يقال : فلان أسود من فلان ، أفعل من السيادة ، ففيه دلالة على جواز تسمية الإنسان سيدا كما يجوز أن يسمى عزيزا أو كريما . وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لبني قريظة : ( قوموا إلى سيدكم ) . وفي البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن : ( إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) وكذلك كان ، فإنه لما قتل علي رضي الله عنه بايعه أكثر من أربعين ألفا وكثير ممن تخلف عن أبيه وممن نكث بيعته ، فبقي نحو سبعة أشهر خليفة بالعراق وما وراءها من خراسان ، ثم سار إلى معاوية في أهل الحجاز والعراق وسار إليه معاوية في أهل الشام ، فلما تراءى الجمعان بموضع يقال له " مَسْكِن " من أرض السواد بناحية الأنبار كره الحسن القتال لعلمه أن إحدى الطائفتين لا تغلب حتى تهلك أكثر الأخرى فيهلك المسلمون ، فسلم الأمر إلى معاوية على شروط شرطها عليه ، منها : أن يكون الأمر له من بعد معاوية ، فالتزم كل ذلك معاوية فصدق قوله عليه السلام : ( إن ابني هذا سيد ) ولا أسود ممن سوده الله تعالى ورسوله . قال قتادة في قوله تعالى " وسيدا " قال : في العلم والعبادة . ابن جبير والضحاك : في العلم والتقى . مجاهد : السيد الكريم . ابن زيد : الذي لا يغلبه الغضب . وقال الزجاج : السيد الذي يفوق أقرانه في كل شيء من الخير . وهذا جامع . وقال الكسائي : السيد من المَعِز المسِن . وفي الحديث ( ثني من الضأن خير من السيد المعز ) . قال :

سواءٌ عليه شاةُ عام دَنتْ له *** ليذبحها للضيف أم شاةُ سيد

قوله : " وحصورا " أصله من الحصر وهو الحبس . حصرني الشيء وأحصرني إذا حبسني . قال ابن ميادة :

وما هُجر ليلى أن تكون تباعدت *** عليك ولا أن أحصرتك شُغُولُ

وناقة حصور : ضيقة الإحليل . والحصور الذي لا يأتي النساء كأنه محجم عنهن ؛ كما يقال : رجل حصور وحصير إذا حبس رفده ولم يخرج ما يخرجه الندامى . يقال : شرب القوم فحصر عليهم فلان ، أي بخل ، عن أبي عمرو . قال الأخطل :

وشاربٍ مربحٍ بالكأس نادمني *** لا بالحَصُورِ ولا فيها بِسَوَّارِ{[3061]}

وفي التنزيل " وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا " {[3062]} [ الإسراء : 8 ] أي محبسا . والحصير الملك لأنه محجوب . وقال لبيد :

وقُمَاقِمٌ{[3063]} غُلْب الرقاب كأنهم *** جِنٌّ لدى باب الحصير قِيَام

فيحيى عليه السلام حصور ، فعول بمعنى مفعول لا يأتي النساء ، كأنه ممنوع مما يكون في الرجال ، عن ابن مسعود وغيره . وفعول بمعنى مفعول كثير في اللغة ، من ذلك حلوب بمعنى محلوبة ، قال الشاعر :

فيها اثنتان وأربعون حلوبةً *** سُوداً كخافية الغراب الأَسْحَمِ{[3064]}

وقال ابن مسعود أيضا وابن عباس وابن جبير وقتادة وعطاء وأبو الشعثاء والحسن والسدي وابن زيد : هو الذي يكف عن النساء ولا يقربهن مع القدرة . وهذا أصح الأقوال{[3065]} لوجهين : أحدهما أنه مدح وثناء عليه ، والثناء إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب . الثاني أن فعولا في اللغة من صيغ الفاعلين ، كما قال{[3066]} :

ضَروب بنصل السيف سوقَ سمانها *** إذا عدموا زادا فإنك عاقر

فالمعنى أنه يحصر نفسه عن الشهوات . ولعل هذا كان شرعه ، فأما شرعنا فالنكاح ، كما تقدم . وقيل : الحصور العِنِّين الذي لا ذكر له يتأتى له به النكاح ولا ينزل ، عن ابن عباس أيضا وسعيد بن المسيب والضحاك . وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ) - ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى قَذاةٍ{[3067]} من الأرض فأخذها وقال : ( كان ذَكَره هكذا{[3068]} مثل هذه القذاة ) . وقيل : معناه الحابس نفسه عن معاصي الله عز وجل . و " نبيا من الصالحين " قال الزجاج : الصالح الذي يؤدي لله ما افترض عليه ، وإلى الناس حقوقهم .


[3046]:- زيادة عن إعراب القرآن للنحاس.
[3047]:- راجع جـ16 ص 73.
[3048]:- راجع جت7 ص 39.
[3049]:- راجع جـ9 ص 312.
[3050]:- راجع جـ10 ص 67.
[3051]:- راجع ص 279 من هذا الجزء.
[3052]:- كذا في الأصل وإعراب القرآن للنحاس، والذي في البحر وغرائب القرآن للنيسابوري وابن عطية: وقرأ ابن عامر وحمزة "إن الله" بكسر الهمزة، وقرأ الباقون بفتح الهمزة.
[3053]:- راجع جـ15 ص 243. و ص 11 و ص 112. وفي أكثر الأصول: "عبادي" بالياء وهو رسم ورش في مصاحف المغرب.
[3054]:- راجع جـ9 ص 69.
[3055]:- راجع جـ10 ص 35.
[3056]:- كذا في الأصول والبغوي. والذي في البحر وابن عطية: "وفي قراءة عبد الله بن مسعود يبشرك بضم الياء وتخفيف الشين المكسورة من أبشر، وهكذا قرأ في كل القرآن".
[3057]:- هو عطية بن زيد، وقال ابن بري هو لعبد القيس بن خفاف البرجمي. (عن اللسان).
[3058]:- قال أبو عبيدة: يقال للإنسان إذا نظر إلى شيء فأعجبه واشتهاه فتناوله وأسرع نحوه وفرح به: بهش إليه.
[3059]:- جراد عاظلة وعظلى: لا تبرح. في اللسان: "أراد أن يقول: يا أم عامر فلم يستقم له البيت فقال: يا أم عمرو، وأم عامر كنية الضبع: ومن كلامهم للضبع: أبشري بجراد عظلى، وكم رجال قتلى".
[3060]:- الحويدرة تصغير الحادرة وهو لقب غلب عليه، واسمه قطبة بن محصن بن جرول. ويعني حسان بن ثابت رضي الله عنه قصيدته التي مطلعها: بكرت سمية غدونا فتمتعي *** وغدت غدوّ مفارق لم يربع. (راجع المفضليات ص 48 طبع أوروبا وكتاب الأغاني جـ3 ص 270 طبع دار الكتب المصرية).
[3061]:- سوار: معربد وثاب. وقد روي "سآر" بوزن سعار، أي أنه لا يسئر في الإناء سؤرا بل يشتفه كله.
[3062]:- راجع جـ10 ص 224.
[3063]:- القماقم من الرجال: السيد الكثير الخير الواسع الفضل. والقماقم العدد الكثير.
[3064]:- البيت لعنترة العبسي في معلقته. والخوافي: أواخر ريش الجناح مما يلي الظهر.
[3065]:- كذا في د. قلت: هذا هو اللائق بالعصمة النبوية.
[3066]:- البيت لأبي طالب بن عبد المطلب. مدح رجلا بالكرم فيقول: يضرب بسيفه سوق السمان من الإبل للأضياف إذا عدموا الزاد ولم يظفروا بجواد لشدة الزمان وكلبه، وكانوا إذا أرادوا نحر الناقة ضربوا ساقها بالسيف. فخرت ثم نحروها. (عن شرح الشواهد).
[3067]:- القذاة: ما يقع في العين والماء والشراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك.
[3068]:- من د.