الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : " سماعون للكذب " كرره تأكيدا وتفخيما ، وقد تقدم{[5608]} .

الثانية : وقوله تعالى : " أكالون للسحت " على التكثير . والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة ، قال الله تعالى : " فيسحتكم بعذاب " {[5609]} . وقال الفرزدق :

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع *** من المال إلا مُسْحَتًا{[5610]} أو مجلف{[5611]}

كذا الرواية . أو مجلف بالرفع عطفا على المعنى ؛ لأن معنى لم يدع لم يبق . ويقال للحالق : اسحت أي استأصل . وسمي المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها . وقال الفراء : أصله كلب الجوع ، يقال رجل مسحوت المعدة أي أكول ؛ فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم . وقيل : سمي الحرام سحتا لأنه يسحت مروءة الإنسان .

قلت : والقول الأول أولى ؛ لأن بذهاب الدين تذهب المروءة ، ولا مروءة لمن لا دين له . قال ابن مسعود وغيره : السحت الرشا . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : رشوة الحاكم من السحت . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به ) قالوا : يا رسول الله ، وما السحت ؟ قال : ( الرشوة في الحكم ) . وعن ابن مسعود أيضا أنه قال : السحت أن يقضي الرجل لأخيه حاجة فيهدي إليه هدية فيقبلها . وقال ابن خويز منداد : من السحت أن يأكل الرجل بجاهه ، وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها . ولا خلاف بين السلف أن أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سحت حرام . وقال أبو حنيفة : إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت وإن لم يعزل ، وبطل كل حكم حكم به بعد ذلك .

قلت : وهذا لا يجوز أن يختلف فيه إن شاء الله ؛ لأن أخذ الرشوة منه فسق ، والفاسق لا يجوز حكمه . والله أعلم .

وقال عليه الصلاة والسلام : ( لعن اله الراشي والمرتشي ) . وعن علي رضي الله عنه أنه قال : السحت الرشوة وحلوان{[5612]} الكاهن والاستجعال في القضية{[5613]} . وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له : الرشوة حرام في كل شيء ؟ فقال : لا ، إنما يكره من الرشوة أن ترشي لتعطي ما ليس لك ، أو تدفع حقا فد لزمك ، فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك فليس بحرام . قال أبو الليث السمرقندي الفقيه : وبهذا نأخذ ، لا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة . وهذا كما روي عن عبدالله بن مسعود أنه كان بالحبشة فرشا دينارين وقال : إنما الإثم على القابض دون الدافع . قال المهدوي : ومن جعل كسب الحجام ومن ذكر معه سحتا فمعناه أنه يسحت مروءة آخذه .

قلت : الصحيح في كسب الحجام أنه طيب ، ومن أخذ طيبا لا تسقط مروءته ولا تنحط مرتبته . وقد روى مالك عن حميد الطويل عن أنس أنه قال : احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حجمه أبو طيبة فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم{[5614]} بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه . قال ابن عبدالبر : هذا يدل على أن كسب الحجام طيب ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل ثمنا ولا جعلا ولا{[5615]} عوضا لشيء من الباطل . وحديث أنس هذا ناسخ لما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم من ثمن الدم ، وناسخ لما كرهه من إجارة الحجام . وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال : احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ، ولو كان سحتا لم يعطه . والسُّحُت والسُّحْت لغتان قرئ بهما ، قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي بضمتين ، والباقون بضم السين وحدها . وروى العباس بن الفضل عن خارجة بن مصعب عن نافع " أكالون للسحت " بفتح السين وإسكان الحاء وهذا مصدر من سحته ، يقال : أسحت وسحت بمعنى واحد . وقال الزجاج : سحته ذهب به قليلا قليلا .

قوله تعالى : " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " هذا تخيير من الله تعالى ، ذكره القشيري . وتقدم معناه أنهم كانوا أهل موادعة لا أهل ذمة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادع اليهود . ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة ، بل يجوز الحكم إن أردنا . فأما أهل الذمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا ؟ قولان للشافعي ، وإن ارتبطت الخصومة بمسلم يجب الحكم . قال المهدوي : أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي . واختلفوا في الذميين ، فذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة وأن الحاكم مخير ، روي ذلك عن النخعي والشعبي وغيرهما ، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما ، سوى ما روي عن مالك في ترك إقامة الحد على أهل الكتاب في الزنى ، فإنه إن زنى المسلم بالكتابية حد ولا حد عليها ، فإن كان الزانيان ذميين فلا حد عليهما ، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهما . وقد روي عن أبي حنيفة أيضا أنه قال : يجلدان ولا يرجمان . وقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وغيرهم : عليهما الحد إن أتيا راضيين بحكمنا . قال ابن خويز منداد : ولا يرسل الإمام إليهم إذا استعدى بعضهم على بعض ، ولا يحضر الخصم مجلسه إلا أن يكون فيما يتعلق بالمظالم التي ينتشر منها الفساد كالقتل ونهب المنازل وأشباه ذلك ، فأما الديون والطلاق وسائر المعاملات فلا يحكم بينهم إلا بعد التراضي ، والاختيار له ألا يحكم ويردهم إلى حكامهم . فإن حكم بينهم حكم بحكم الإسلام . وأما إجبارهم على حكم المسلم فيما ينتشر منه الفساد فليس على الفساد عاهدناهم ، وواجب قطع الفساد عنهم ، منهم ومن غيرهم ؛ لأن في ذلك حفظ أموالهم ودمائهم ، ولعل في دينهم استباحة ذلك فينتشر منه الفساد بيننا ؛ ولذلك منعناهم أن يبيعوا الخمر جهارا وأن يظهروا الزنى وغير ذلك من القاذورات ؛ لئلا يفسد بهم سفهاء المسلمين . وأما الحكم فيما يختص به دينهم من الطلاق والزنى وغيره فليس يلزمهم أن يتدينوا بديننا ، وفي الحكم بينهم بذلك{[5616]} إضرار بحكامهم وتغيير ملتهم ، وليس كذلك الديون والمعاملات ؛ لأن فيها وجها من المظالم وقطع الفساد . والله أعلم . وفي الآية قول ثان : وهو ما روي عن عمر بن عبدالعزيز والنخعي أيضا أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " وأن على الحاكم أن يحكم بينهم ، وهو مذهب عطاء الخراساني وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم . وروي عن عكرمة أنه قال : " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " نسختها آية أخرى " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " [ المائدة : 49 ] . وقال مجاهد : لم ينسخ من " المائدة " إلا آيتان ، قوله : فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " نسختها " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " ؛ وقوله : " لا تحلوا شعائر الله{[5617]} " [ المائدة : 2 ] نسختها " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم{[5618]} " [ التوبة : 5 ] . وقال الزهري : مضت السنة أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم ، إلا أن يأتوا راغبين في حكم الله فيحكم بينهم بكتاب الله . قال السمرقندي : وهذا القول يوافق قول أبي حنيفة أنه لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا . وقال النحاس في " الناسخ والمنسوخ " له قوله تعالى : " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " منسوخ ؛ لأنه إنما نزل أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود فيها يومئذ كثير ، وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم ، فلما قوي الإسلام أنزل الله عز وجل " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " . وقاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبدالعزيز والسدي ، وهو الصحيح من قول الشافعي ؛ قال في كتاب الجزية : ولا خيار له إذا تحاكموا إليه ؛ لقوله عز وجل : " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " {[5619]} [ التوبة : 29 ] . قال النحاس : وهذا من أصح الاحتجاجات ؛ لأنه إذا كان معنى قوله : " وهم صاغرون " أن تجرى عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردوا إلى أحكامهم ، فإذا وجب هذا فالآية منسوخة . وهو أيضا قول الكوفيين أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد ، لا اختلاف بينهم إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الإمام أنه ليس له أن يعرض عنهم ، غير أن أبا حنيفة قال : إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهم بالعدل ، وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم . وقال الباقون : يحكم ، فثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة مع ما ثبت فيها من توقيف ابن عباس ، ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة ؛ لأنهم قد أجمعوا أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الإمام فله أن ينظر بينهم ، وأنه إذا نظر بينهم مصيب عند الجماعة ، وألا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركا فرضا ، فاعلا ما لا يحل له ولا يسعه . قال النحاس : ولمن قال بأنها منسوخة من الكوفيين قول آخر ، منهم من يقول : على الإمام إذا لم من أهل الكتاب حدا من حدود الله عز وجل أن يقيمه وإن لم يتحاكموا إليه ويحتج بأن قول الله عز وجل : " وأن احكم بينهم " يحتمل أمرين : أحدهما : وأن احكم بينهم إذا تحاكموا إليك . والآخر : وأن احكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليك - إذا علمت ذلك منهم - قالوا : فوجدنا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يوجب إقامة الحق عليهم وإن لم يتحاكموا إلينا ، فأما ما في كتاب الله فقوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " {[5620]} [ النساء : 135 ] . وأما ما في السنة فحديث البراء بن عازب قال : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي قد جلد وحمم فقال : ( أهكذا حد الزاني عندكم ) فقالوا : نعم . فدعا رجلا من علمائهم فقال : ( سألت بالله أهكذا حد الزاني فيكم ) فقال : لا . الحديث ، وقد تقدم . قال النحاس : فاحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بينهم ولم يتحاكموا إليه في هذا الحديث . فإن قال قائل : ففي حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، قيل له : ليس في حديث مالك أيضا أن اللذين زنيا رضيا بالحكم وقد رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم . قال أبو عمر بن عبدالبر : لو تدبر من احتج بحديث البراء لم يحتج ؛ لأن في درج الحديث تفسير قوله عز وجل : " إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا " [ المائدة : 41 ] يقول : إن أفتاكم بالجلد والتحميم فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، دليل على أنهم حكموه . وذلك بين في حديث ابن عمر وغيره . فإن قال قائل : ليس في حديث ابن عمر أن الزانيين حكما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رضيا بحكمه . قيل له : حد الزاني حق من حقوق الله تعالى على الحاكم إقامته . ومعلوم أن اليهود كان لهم حاكم يحكم بينهم ، ويقيم حدودهم عليهم ، وهو الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . والله أعلم .

قوله تعالى : " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " روى النسائي عن ابن عباس قال كان قريظة والنضير ، وكان النضير أشرف من قريظة ، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به ، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودى مائة وسق{[5621]} من تمر ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا : ادفعوه إلينا لنقتله ، فقالوا : بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت : " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " النفس بالنفس ، ونزلت : " أفحكم الجاهلية يبغون " [ المائدة : 50 ] .


[5608]:راجع ج 11 ص 211.
[5609]:في ج و ز: وقد تقدم في البقرة.
[5610]:ويروى: (إلا مسحت) ومن رواه كذلك جعل (معنى لم يدع) لم يتقار. (اللسان) مادة سحت.
[5611]:المجلف: الذي بقيت منه بقية.
[5612]:هو ما يعطى على الكهانة.
[5613]:في ج، ك، ع، ز: الاستعجال في المعصية.
[5614]:من ج و ك و هـ و ع.
[5615]:من ج و ك و هـ و ع.
[5616]:من ع.
[5617]:راجع ص 37 من هذا الجزء.
[5618]:راجع ج 8 ص 72.
[5619]:راجع ج 8 ص 109.
[5620]:راجع ج 5 ص 410.
[5621]:الوسق: ستون صاعا.