الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةٗ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةٗ وَلَا يَقۡطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمۡ لِيَجۡزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (121)

فيه ست مسائل :

الأولى - قوله تعالى : " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله " ظاهره خبر ومعناه أمر ، كقوله : " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله{[8374]} " [ الأحزاب : 53 ] وقد تقدم . " أن يتخلفوا " في موضع رفع اسم كان . وهذه معاتبة للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة لها ، كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم على التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك . والمعنى : ما كان لهؤلاء المذكورين أن يتخلفوا ، فإن النفير كان فيهم ، بخلاف غيرهم فإنهم لن يستنفروا في قول بعضهم . ويحتمل أن يكون الاستنفار في كل مسلم ، وخص هؤلاء بالعتاب لقربهم وجوارهم ، وأنهم أحق بذلك من غيرهم .

الثانية - قوله تعالى : " ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه " أي لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المشقة . يقال : رغبت عن كذا أي ترفعت عنه .

الثالثة – قولع تعالى : " ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ " أي عطش . وقرأ عبيد بن عمير " ظماء " بالمد . وهما لغتان مثل خطأ وخطاء . " ولا نصب " عطف ، أي تعب ، ولا زائدة للتوكيد . وكذا " ولا مخمصة " أي مجاعة . وأصله ضمور البطن ؛ ومنه رجل خميص وامرأة خمصانة . وقد تقدم{[8375]} . " في سبيل الله " أي في طاعته . " ولا يطؤون موطئا " أي أرضا . " يغيظ الكفار " أي بوطئهم إياها ، وهو في موضع نصب لأنه نعت للموطئ ، أي غائظا . " ولا ينالون من عدو نيلا " أي قتلا وهزيمة . وأصله من نلت الشيء أنال أي أصبت . قال الكسائي : هو من قولهم أمر منيل منه ، وليس هو من التناول ، إنما التناول من نلته العطية{[8376]} . قال غيره : نلت أنول من العطية ، من الواو والنيل من الياء ، تقول : نلته فأنا نائل ، أي أدركته .

" ولا يقطعون واديا " العرب تقول : واد وأودية ، على غير قياس . قال النحاس : ولا يعرف فيما علمت فاعل وأفعلة سواه ، والقياس أن يجمع ووادي ، فاستثقلوا الجمع بين واوين وهم قد يستثقلون واحدة ، حتى قالوا : أقتت في وقتت . وحكى الخليل وسيبويه في تصغير واصل اسم رجل أو يصل فلا يقولون غيره . وحكى الفراء في جمع واد أوداء . قلت : وقد جمع أوداه ، قال جرير :

عرفت ببُرقة الأودَاهِ رَسْمًا*** مُحِيلاً طال عهدك من رسوم{[8377]}

" إلا كتب لهم به عمل صالح " قال ابن عباس : بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعون ألف حسنة . وفي الصحيح : ( الخيل ثلاثة . . . - وفيه - وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج{[8378]} أو روضة فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات . . . ) . الحديث . هذا وهي في مواضعها فكيف إذا أدرب{[8379]} بها .

الرابعة - استدل بعض{[8380]} العلماء بهذه الآية على أن الغنيمة تستحق بالإدراب والكون في بلاد العدو ، فإن مات بعد ذلك فله سهمه ؛ وهو قول أشهب وعبدالملك ، وأحد قولي الشافعي . وقال مالك وابن القاسم : لا شيء له ؛ لأن الله عز وجل إنما ذكر في هذه الآية الأجر ولم يذكر السهم . قلت : الأول أصح لأن الله تعالى : جعل وطء ديار الكفار بمثابة النيل من أموالهم وإخراجهم من ديارهم ، وهو الذي يغيظهم ويدخل الذل عليهم ، فهو بمنزلة نيل الغنيمة والقتل والأسر ، وإذا كان كذلك فالغنيمة تستحق بالإدراب لا بالحيازة ، ولذلك قال علي رضي الله عنه : ما وطئ قوم في عقر دارهم إلا ذلوا . والله أعلم .

الخامسة - هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " [ التوبة : 122 ] وأن حكمها كان حين كان المسلمون في قلة ، فلما كثروا نسخت وأباح الله التخلف لمن شاء ، قاله ابن زيد . وقال مجاهد : بعث صلى الله عليه وسلم قوما إلى البوادي ليعلموا الناس فلما نزلت هذه الآية خافوا ورجعوا ، فأنزل الله : " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " . وقال قتادة : كان هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر ، فأما غيره من الأئمة الولاة فلمن شاء أن يتخلف خلفه من المسلمين إذا لم يكن بالناس حاجة إليه ولا ضرورة . وقول ثالث : أنها محكمة ، قال الوليد بن مسلم : سمعت الأوزاعي وابن المبارك والفزاري والسبيعي وسعيد بن عبدالعزيز يقولون في هذه الآية إنها لأول هذه الأمة وآخرها .

قلت : قول قتادة حسن ، بدليل غزاة تبوك ، والله أعلم .

السادسة - روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه ) قالوا : يا رسول الله ، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة . ؟ قال : ( حبسهم العذر ) . خرجه مسلم من حديث جابر قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال : ( إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض ) . فأعطى صلى الله عليه وسلم للمعذور من الأجر مثل ما أعطى للقوي العامل . وقد قال بعض الناس : إنما يكون الأجر للمعذور غير مضاعف ، ويضاعف للعامل المباشر . قال ابن العربي : وهذا تحكم على الله تعالى وتضييق لسعة رحمته ، وقد عاب بعض الناس فقال : إنهم يعطون الثواب مضاعفا قطعا ، ونحن لا نقطع بالتضعيف في موضع فإنه مبني على مقدار النيات ، وهذا أمر مغيب ، والذي يقطع به أن هناك تضعيفا وربك أعلم بمن يستحقه .

قلت : الظاهر من الأحاديث والآي المساواة في الأجر ، منها قوله عليه السلام : ( من دل على خير فله مثل أجر فاعله ) وقوله : ( من توضأ وخرج إلى الصلاة فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها ) . وهو ظاهر قوله تعالى : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله " [ النساء :100 ] وبدليل أن النية الصادقة هي أصل الأعمال ، فإذا صحت في فعل طاعة فعجز عنها صاحبها لمانع منع منها فلا بعد في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر الفاعل ويزيد عليه ؛ لقوله عليه السلام : ( نية المؤمن خير من عمله ) . والله أعلم .


[8374]:راجع ج 14 ص.
[8375]:راجع ج 6 ص 64.
[8376]:في ب و ع و ك و هـ: بالعطية. هما لغتان.
[8377]:في ديوانه ومعجم البلدان لياقوت: "ببرقة الوداء: واد أعلاه لبني العدوية والتيم، وأسفله لبني كليب وضبة.
[8378]:المرج: مرعى الدواب.
[8379]:أدرب القوم: دخلوا أرض العدو.
[8380]:سقط بعض من ب و ع و ك و هـ.