ولكن المشهد لا ينتهي عند هذا المنظر الطريف اللطيف . . إن هناك المنافقين والمنافقات ، في حيرة وضلال ، وفي مهانة وإهمال . وهم يتعلقون بأذيال المؤمنين والمؤمنات : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : انظرونا نقتبس من نوركم ) . . فحيثما تتوجه أنظار المؤمنين والمؤمنات يشع ذلك النور اللطيف الشفيف . ولكن أنى للمنافقين أن يقتبسوا من هذا النور وقد عاشوا حياتهم كلها في الظلام ? إن صوتا مجهلا يناديهم : ( قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) . . ويبدو أنه صوت للتهكم ، والتذكير بما كان منهم في الدنيا من نفاق ودس في الظلام : ارجعوا وراءكم إلى الدنيا . إلى ما كنتم تعملون . ارجعوا فالنور يلتمس من هناك . من العمل في الدنيا . ارجعوا فليس اليوم يلتمس النور !
" وعلى الفور يفصل بين المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات . فهذا يوم الفصل إن كانوا في الدنيا مختلطين في الجماعة : ( فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) . . ويبدو أنه سور يمنع الرؤية ولكنه لا يمنع الصوت .
{ يوم يقول } بدل من { يوم ترى المؤمنين } [ الحديد : 12 ] بدلاً مطابقاً إذا اليوم هو عين اليوم المعرف في قوله : { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم } [ الحديد : 12 ] .
والقول في فتحة { يوم } تقدم في نظره قريباً .
وعطف { المنافقات } على { المنافقون } كعطف { المؤمنات على المؤمنين } في الآية ( 12 ) قبل هذه .
والذين آمنوا تغليب للذكور لأن المخاطبين هم أصحاب النور وهو للمؤمنين والمؤمنات .
و { انظرونا } بهمزة وصل مضموماً ، من نظره ، إذا انتظره مثل نظر ، إذا أبصر ، إلا أن نظر بمعنى الانتظار يتعدّى إلى المفعول ، ونظر بمعنى أبصر يتعدى بحرف ( إلى ) قال تعالى : { وانظر إلى العظام كيف ننشرها } [ البقرة : 259 ] .
والانتظار : التريث بفعل مَّا ، أي تريثوا في سيركم حتى نلحق بكم فنستضيءَ بالنور الذي بين أيديكم وبجانبكم وذلك يقتضي أن الله يأذن للمؤمنين الأولين بالسيْر إلى الجنة فَوجا ، ويجعلُ المنافقين الذين كانوا بينهم في المدينة سائرين وراءهم كما ورد في حديث الشفاعة « وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها » والمعنى : أنهم يسيرون في ظلمات فيسأل المنافقون المؤمنين أن ينتظروهم .
وقرأ الجمهور { انظرونا } بهمزة وصل وضم الظاء ، وقرأه حمزة وحده بهمزة قطع وكسر الظاء ، من أنظرهُ ، إذا أمهله ، أي أمهلونا حتى نلحق بكم ولا تعجلوا السير فينأى نوركم عنا وهم يحسبون أن بُعدهم عنهم من جراء السرعة .
والاقتباس حقيقته : أخذ القَبَس بفتحتين وهو الجذوة من الحَمْر . قال أبو علي الفارسي : ومَجيء فَعلت وافتعلت بمعنىً واحد كثير كقولهم : شويتُ واشتويت ، وحقَرت واحتقرت . قلت : وكذلك حفرت واحتفرت ، فيجوز أن يكون إطلاق تقتبس هنا حقيقة بأن يكونوا ظنّوا أن النور الذي كان مع المؤمنين نور شُعلة وحسبوا أنهم يستطيعون أن يأخذوا قبساً منه يُلقى ذلك في ظنهم لتكون خيبتهم أشدَّ حسرة عليهم .
ويجوز أن يستعار الاقتباس لانتفاع أحد بضوء آخر لأنه يشبه الاقتباس في الانتفاع بالضوء بدون علاج فمعنى { نقتبس من نوركم } نُصِب منه ونلتحق به فنستبرْ به .
ويظهر من إسناد { قيل } بصيغة المجهول أن قائله غير المؤمنين المخاطبين وإنما هو من كلام الملائكة السائقين للمنافقين .
وتكون مقالة الملائكة للمنافقين تهكما إذ لا نور وراءهم وإنما أرادوا إطماعهم ثم تخييبهم بضرب السور بينهم وبين المؤمنين ، لأن الخيبة بعد الطمع أشد حسرة . وهذا استهزاء كان جزاء على استهزائهم بالمؤمنين واستسخارهم بهم ، فهو من معنى قوله تعالى : { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم } [ التوبة : 79 ] .
و { وراءكم } : تأكيد لمعنى { ارجعوا } إذ الرجوع يستلزم الوراء ، وهذا كما يقال : رجع القهقرى . ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل { التمسوا نوراً } ، أي في المكان الذي خَلفكم .
وتقديمه على عامله للاهتمام فيكون فيه معنى الإِغراء بالتماس النور هناك وهو أشد في الإِطماع ، لأنه يوهم أن النور يُتناول من ذلك المكان الذي صدر منه المؤمنون ، وبذلك الإِيهام لا يكون الكلام كذباً لأنه من المعاريض لاسيما مع احتمال أن يكون { وراءكم } تأكيداً لمعنى { ارجعوا } .
وضمير { بينهم } عائد إلى المؤمنين والمنافقين .
وضرب السور : وضعه ، يقال : ضرب خيمة ، قال عبدة بن الطيِّب :
إن التي ضربتْ بيتاً مُهاجَرة *** بكوفةِ الجُند غالتْ ودَّها غُولُ
وضمن { ضُرب } في الآية معنى الحجْز فعدي بالباء ، أي ضرب بينهم سورٌ للحجز به بين المنافقين والمؤمنين ، خلقه الله ساعتئذٍ قطعاً لأطماعهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، فَحَق بذلك التمثيل الذي مثّل الله به حالهم في الدنيا بقوله : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون } في سورة البقرة ( 17 ) . وأن الحيرة وعدم رؤية المصير عذاب أليم .
ولعل ضرب السور بينهم وجعْلَ العذاببِ بظاهره والنعيم بباطنه قصد منه التمثيل لهم بأن الفاصل بين النعيم والعذاب هو الأعمال في الدنيا وأن الأعمال التي يعملها الناس في الدنيا منها ما يفضي بعامله إلى النعيم ومنها ما يفضي بصاحبه إلى العذاب فأحد طرفي السور مثال لأحد العملين وطرفه الآخر مثال لضده . و الباب واحد وهو الموت ، وهو الذي يسلك بالناس إلى أحد الجانبين .
ولعل جعل الباب في سور واحد فيه مع ذلك ليمر منه أفواج المؤمنين الخالصين من وجود منافقين بينهم بمرأى من المنافقين المحبوسين وراء ذلك السور تنكيلاً بهم وحسرة حين يشاهدون أفواج المؤمنين يفتح لهم الباب الذي في السور ليجتازوا منه إلى النعيم الذي بباطن السور .
وركَّب القصَّاصُون على هذه الآية تأويلات موضوعة في فضائل بلاد القُدس بفلسطين عَزوها إلى كعببٍ الأحْبارِ فسموا بعض أبواب مدينة القدس باب الرحمة ، وسموا مكاناً منها وادي جهنم ، وهو خارج سور بلاد القدس ، ثم ركبوا تأويل الآية عليها وهي أوهام على أوهام .
واعلم أن هذا السور المذكور في هذه الآية غير الحجاب الذي ذكر في سورة الأعراف .
وضمائر له باب } و { باطنه } و { ظاهره } عائدة إلى السور ، والجملتان صفتان ل { سور } . وإنما عطفت الجملة الثالثة بالواو لأن المقصود من الصفة مجموع الجملتين المتعاطفتين كقوله تعالى : { ثيبات وأبكاراً } [ التحريم : 5 ] .
والباطن : هو داخل الشيء ، والظاهر : خارجه .
فالباطن : هو داخل السور الحاجز بين المسلمين والمنافقين وهو مكان المسلمين .
والبطون والظهور هنا نسبيان ، أي باعتبار مكان المسلمين ومكان المنافقين ، فالظاهر هو الجهة التي نحو المنافقين ، أي ضُرب بينهم بسور يشاهِد المنافقون العذاب من ظاهره الذي يواجههم ، وأن الرحمة وراء ما يليهم .
و ( قبل ) بكسر ففتح ، الجهةُ المقابلة ، وقوله : { من قلبه } خبر مقدم ، و { العذاب } مبتدأ والجملة خبر عن { ظاهره } .
و { مِنْ } بمعنى ( في ) كالتي في قوله تعالى : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } [ الجمعة : 9 ] فتكون نظير قوله : { باطنه فيه الرحمة } .
والعذاب : هو حرق جهنم فإن جهنم دار عذاب ، قال تعالى : { إن عذابها كان غَراماً } [ الفرقان : 65 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا} وهم على الصراط {انظرونا} يعني ارقبونا {نقتبس من نوركم} فنمضي معكم {قيل} يعني قالت الملائكة: {ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا} من حيث جئتم فالتمسوا نورا من الظلمة، فرجعوا فلم يجدوا شيئا {فضرب} الله {بينهم} يعني بين أصحاب الأعراف وبين المنافقين {بسور له باب} يعني بالسور حائط بين أهل الجنة، وبين أهل النار {باطنه} يعني باطن السور {فيه الرحمة} وهو مما يلي الجنة {وظاهره} من قبل النار، وهو الحجاب ضرب بين أهل الجنة والنار، وهو السور، والأعراف ما ارتفع من السور، {الرحمة} يعني الجنة، {وظاهره من قبله العذاب}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هو الفوز العظيم في يوم يقول المنافقون والمنافقات، واليوم من صلة الفوز للذين آمنوا بالله ورسله: انظرونا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله:"انْظُرُونا"؛ فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة انْظُرُونا موصولة بمعنى: انتظرونا، وقرأته عامة قرّاء الكوفة «أنْظُرُونا» مقطوعة الألف من أنظرت بمعنى: أخرونا، وذكر الفرّاء أن العرب تقول: أنظرني وهم يريدون: انتظرني قليلاً... والصواب من القراءة في ذلك عندي الوصل، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب إذا أريد به انتظرنا، وليس للتأخير في هذا الموضع معنى، فيقال: أنظرونا، بفتح الألف وهمزها.
وقوله: "نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُم" يقول: نستصبح من نوركم، والقبس: الشعلة.
وقوله: "قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فالْتَمِسُوا نُورا" يقول جلّ ثناؤه: فيجابون بأن يقال لهم: ارجعوا من حيث جئتم، واطلبوا لأنفسكم هنالك نورا، فإنه لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا...
وقوله: "فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ" يقول تعالى ذكره: فضرب الله بين المؤمنين والمنافقين بسُور، وهو حاجز بين أهل الجنة وأهل النار...
وقوله: "لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ" يقول تعالى ذكره: لذلك السور باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبل ذلك الظاهر العذاب: يعني النار...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... ثم الآية دلت على أن أهل النفاق يكونون ببعد من المؤمنين، ولا ينتفعون بنور المؤمنين. ولكن يرون ذلك اليوم من بعد فيقولون: {انظرونا نقتبس من نوركم} ولو كانوا بقرب منهم، أو ينتفعون بنورهم لكانوا لا يطلبون منهم الانتظار لهم والاقتباس من نورهم، والله أعلم. وقوله تعالى: {قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا} من الناس من يقول: إن هذا هو الاستهزاء الذي ذكر في آية أخرى أنه يستهزئ بهم حين قال: {الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15] بقوله: {ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا} هو ذلك الاستهزاء. وجائز أن يكون قوله: {ارجعوا وراءكم} ليس على الأمر بالرجوع إلى وراء والتماس النور، ولكن على التوبيخ والتعبير، أي النور إنما يطلب من وراء هذا اليوم، أي من قبل هذا اليوم لا يطلب فيه...
جائز أن يكون السور الذي ذكر الذي ضرب بينهم ما ذكر في سورة الأعراف حين قال: {وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال} [الآية: 46] السور هو الأعراف الذي ذكر أنه يكون حجابا بين أهل النار وأهل الجنة. يرفع ذلك السور بينهم لئلا ينتفعوا بنور المؤمنين...
جائز أن يكون قوله: {له باب} ليس على حقيقة الباب [ولكن] كناية عن الطريق والسبيل؛ يقول: هو طريق وسبيل من يأخذ ذلك السبيل أفضاه إلى الرحمة. ومن سلك ظاهره أفضاه إلى العذاب. وجائز أن يفتح من النار إلى الجنة باب، فيرون ما حل بهم من العذاب، ويرى أهل النار أهل الجنة على ما هم عليه من النعيم ليزدادوا حسرة وندامة، أو يكون اطلاعا لا من باب ولكن من السور والأعراف الذي ذكر...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالتَمِسُوا نُوراً}: ارجعو فاعملوا عملاً يجعل الله بين أيديكم نوراً.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
يدل على أن الأنوار لابد وأن تتزود أصلها في الدنيا ثم يزداد في الآخرة إشراقا فأما أن يتجدد نور فلا. (نفسه: 4/342)...
... والمراد من ضرب السور، هو امتناع العود إلى الدنيا... {ارجعوا} منع المنافقين عن الاستضاءة، كقول الرجل لمن يريد القرب منه: وراءك أوسع لك، فعلى هذا القول المقصود من قوله: {ارجعوا} أن يقطعوا بأنه لا سبيل لهم إلى وجدان هذا المطلوب البتة، لا أنه أمر لهم بالرجوع.
{يوم} أي يوم القيامة يوم يرى المؤمنون نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يوصلهم إلى الجنة، في نفس هذا اليوم {يقولُ المُنافقُون والمنافقاتُ للذين آمنُوا انظرونا..} [الحديد] أي: انتظرونا {نَقْتَبِس من نُوركِم..} نأخذ منه قبساً نستضيء به ونهتدي به، فيُقال لهم: (ارجعُوا وَرَاءكُم فالتَمِسُوا نُوراً..}
أي: عودوا إلى الدنيا فاطلبوا النور الذي يهديكم الآن، لأن النور الذي نهتدي به الآن قدّمناه عملاً صالحاً في الدنيا يوم آمنّا بالله ورسوله وأطعنا، والآن نجني ثمرة ما قدّمناه، وعليكم أن تستأنفوا حياة جديدة حيث التكليف والعمل، فاليوم جزاء لا عمل.
وتأمل هنا عظمة الأداء القرآني: فالحوار يدور بين المؤمنين والمنافقين، ومع ذلك بنى الفعل (قيل) للمجهول ولم يقل قال المؤمنون للمنافقين حتى لا يكون في الموقف شماتة، ولا يريد أنْ يُوقف المؤمنين هذا الموقف، فكأن الصوت جاءهم من جهة لا يعرفونها.
وقوله تعالى: {فضُربَ بينَهُم..} بين المؤمنين والمنافقين {بسُورٍ لّهُ بابٌ..} وهكذا أنهى الحق سبحانه هذا الحوار وحجز المؤمنين عن المنافقين بسور له باب حتى لا يروْهم ولا يسمعوهم، لأن المؤمن بطبعه رقيق القلب.
فربّه عز وجل يحمي سمعه ويحمي بصره أنْ يتأذّى بما يعانيه المنافقون في جهنم والعياذ بالله {بسُورٍ لهُ بابٌ باطنُهُ فيه الرّحمَةُ..} من ناحية المؤمنين {وظاهرُهُ من قبله العذابُ} من ناحية المنافقين.