في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (4)

( يسألونك : ماذا أحل لهم ؟ قل : أحل لكم الطيبات ، وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله . فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم الله عليه . واتقوا الله ، إن الله سريع الحساب . اليوم أحل لكم الطيبات ، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ، وطعامكم حل لهم ، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم - إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان - ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ، وهو في الآخرة من الخاسرين ) . .

إن هذا السؤال من الذين آمنوا عما أحل لهم ؛ يصور حالة نفسية لتلك الجماعة المختارة ، التي سعدت بخطاب الله تعالى لها أول مرة ؛ ويشي بما خالج تلك النفوس من التحرج والتوقي من كل ما كان في الجاهلية ؛ خشية أن يكون الإسلام قد حرمه ؛ وبالحاجة إلى السؤال عن كل شيء للتثبت من أن المنهج الجديد يرتضيه ويقره .

والناظر في تاريخ هذه الفترة يلمس ذلك التغيير العميق الذي أحدثه الإسلام في النفس العربية . . لقد هزها هزا عنيفا نفض عنها كل رواسب الجاهلية . . لقد أشعر المسلمين - الذين التقطهم من سفح الجاهلية ليرتفع بهم إلى القمة السامقة - أنهم يولدون من جديد ؛ وينشأون من جديد . كما جعلهم يحسون إحساسا عميقا بضخامة النقلة ، وعظمة الوثبة ، وجلال المرتقى ، وجزالة النعمة . فأصبح همهم أن يتكيفوا وفق هذا المنهج الرباني الذي لمسوا بركتة عليهم . وأن يحذروا عن مخالفته . . وكان التحرج والتوجس من كل ما ألفوه في الجاهلية هو ثمرة هذا الشعور العميق ، وثمرة تلك الهزة العنيفة .

لذلك راحوا يسألون الرسول [ ص ] بعد ما سمعوا آيات التحريم :

( ماذا أحل لهم ؟ ) .

ليكونوا على يقين من حلة قبل أن يقربوه .

وجاءهم الجواب :

( قل : أحل لكم الطيبات . . . ) . .

وهو جواب يستحق التأمل . . إنه يلقي في حسهم هذه الحقيقة : إنهم لم يحرموا طيبا ، ولم يمنعوا عن طيب ؛ وإن كل الطيبات لهم حلال ، فلم يحرم عليهم إلا الخبائث . . والواقع أن كل ما حرمه الله هو ما تستقذره الفطرة السليمة من الناحية الحسية . كالميتة والدم ولحم الخنزير . أو ينفر منه القلب المؤمن كالذي أهل لغير الله به أو ما ذبح على النصب ، أو كان الاستقسام فيه بالأزلام . وهو نوع من الميسر .

ويضيف إلى الطيبات - وهي عامة - نوعا منها يدل على طيبته تخصيصه بالذكر بعد التعميم ؛ وهو ما تمسكه الجوارح المعلمه المدربة على الصيد كالصقر والبازي ، ومثلها كلاب الصيد ، أو الفهود والأسود . مما علمه أصحابه كيف يكلب الفريسة : أي يكبلها ويصطادها :

( وما علمتم من الجوارح مكلبين ، تعلمونهن مما علمكم الله . فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله ، إن الله سريع الحساب ) . .

وشرط الحل فيما تمسكه هذه الجوارح المكبلة المعلمة المدربة ، أن تمسك على صاحبها : أي أن تحتفظ بما تمسكه من الصيد ؛ فلا تأكل منه عند صيده ؛ إلا إذا غاب عنها صاحبها ، فجاعت . فإنها إن أكلت من الفريسة عند إمساكها لها ، لا تكون معلمة ؛ وتكون قد اصطادت لنفسها لا لصاحبها فلا يحل له صيدها . ولو تبقى منها معظم الصيد لم تأكله ؛ ولو جاءت به حيا ولكنها كانت أكلت منه ؛ فلا يذكى ؛ ولو ذبح ما كان حلالا . .

والله يذكر المؤمنين بنعمته عليهم في هذه الجوارح المكلبة ؛ فقد علموها مما علمهم الله . فالله هو الذي سخر لهم هذه الجوارح ؛ وأقدرهم على تعليمها ؛ وعلمهم هم كيف يعلمونها . . وهي لفتة قرآنية تصور أسلوب التربية القرآني ، وتشي بطبيعة المنهج الحكيم الذي لا يدع لحظة تمر ، ولا مناسبة تعرض ، حتى يوقظ في القلب البشري الإحساس بهذه الحقيقة الأولى : حقيقية أن الله هو الذي أعطى كل شيء . هو الذي خلق ، وهو الذي علم ، وهو الذي سخر ؛ وإليه يرجع الفضل كله ، في كل حركة وكل كسب وكل إمكان ، يصل إليه المخلوق . . فلا ينسى المؤمن لحظة ، أن من الله ، وإلى الله ، كل شيء في كيانه هو نفسه ؛ وفيما حوله من الأشياء والأحداث ؛ ولا يغفل المؤمن لحظة عن رؤية يد الله وفضله في كل عزمة نفس منه ، وكل هزة عصب ، وكل حركة جارحة . . ويكون بهذا كله " ربانيًا " على الاعتبار الصحيح .

والله يعلم المؤمنين أن يذكروا اسم الله على الصيد الذي تمسك به الجوارح . ويكون الذكر عند إطلاق الجارح إذ أنه قد يقتل الصيد بنابه أو ظفره ؛ فيكون هذا كالذبح له ؛ واسم الله يذكر عند الذبح ، فهو يذكر كذلك عند إطلاق الجارح سواء .

ثم يردهم في نهاية الآية إلى تقوى الله ؛ ويخوفهم حسابه السريع . . فيربط أمر الحل والحرمة كله بهذا الشعور الذي هو المحور لكل نية وكل عمل في حياة المؤمن ؛ والذي يحول الحياة كلها صلة بالله ، وشعورا بجلاله ، ومراقبة له في السر والعلانية :

( واتقوا الله إن الله سريع الحساب ) . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (4)

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } .

إن كان الناس قد سألوا عمّا أحِلّ لهم من المطعومات بعد أن سمعوا ما حرّم عليهم في الآية السابقة ، أو قبل أن يسمعوا ذلك ، وأريد جوابهم عن سؤالهم الآن ، فالمضارع مستعمل للدلالة على تجدّد السؤال ، أي تكرّره أو توقّع تكرّره . وعليه فوجه فصل جملة { يسألونك } أنّها استئناف بيانيّ ناشىء عن جملة { حرّمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] وقوله : { فمن اضطرّ في مخمصة } [ المائدة : 3 ] ؛ أو هي استئناف ابتدائي : للانتقال من بيان المحرّمات إلى بيان الحلال بالذات ، وإن كان السؤال لم يقع ، وإنَّما قصد به توقّع السؤال ، كأنَّه قيل : إن سَألوكَ ، فالإتيان بالمضارع بمعنى الاستقبال لتوقّع أن يسأل الناس عن ضبط الحلال ، لأنَّه ممّا تتوجَّه النفوس إلى الإحاطة به ، وإلى معرفة ما عسى أن يكون قد حرّم عليهم من غير ما عُدّد لهم في الآيات السابقة ، وقد بيّنّا في مواضع ممّا تقدّم ، منها قوله تعالى : { يسألونك عن الأهلّة } في سورة البقرة ( 189 ) : أنّ صيغة { يسألونك } في القرآن تحتمل الأمرين . فعلى الوجه الأوّل يكون الجواب قد حصل ببيان المحرّمات أوّلاً ثم ببيان الحلال ، أو ببيان الحلال فقط ، إذا كان بيان المحرّمات سابقاً على السؤال ، وعلى الوجه الثاني قد قصد الاهتمام ببيان الحلال بوجه جامع ، فعنون الاهتمام به بإيراده بصيغة السؤال المناسب لتقدّم ذكره .

و { الطيّبات } صفة لمحذوف معلوم من السياق ، أي الأطعمة الطيّبة ، وهي الموصوفة بالطيِّب ، أي التي طابت . وأصل معنى الطيب معنى الطّهارة والزكاء والوقع الحسن في النفس عاجلاً وآجلاً ، فالشيء المستلذّ إذا كان وخِماً لا يسمّى طيِّباً : لأنّه يعقب ألماً أو ضُرّاً ، ولذلك كان طيّب كلّ شيء أن يكون من أحسن نوعه وأنفعه . وقد أطلق الطيِّب على المباح شرعاً ؛ لأنّ إباحة الشرع الشيء علامة على حسنه وسلامته من المضرّة ، قال تعالى : { كلوا ممَّا في الأرض حلالاً طيّباً } [ البقرة : 168 ] . والمراد بالطيّبات في قوله : { أحل لكم الطيبات } معناها اللغوي ليصحّ إسناد فعل { أحِلّ } إليها . وقد تقدّم شيء من معنى الطيّب عند قوله تعالى : { يأيّها الناس كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيّباً } في سورة البقرة ( 168 ) ، ويجيء شيء منه عند قوله تعالى : { والبلد الطيّب } في سورة الأعراف ( 58 ) .

و{ الطيّبات } وصف للأطعمة قُرِن به حكم التحليل ، فدلّ على أنّ الطِّيبَ علّة التحليل ، وأفاد أنّ الحرام ضدّه وهو الخبائث ، كما قال في آية الأعراف ، في ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم { ويحلّ لهم الطيّباتِ ويحرّم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] .

وقد اختلفت أقوال السلف في ضبط وصف الطيّبات ؛ فعن مالك : الطيّبات الحلال ، ويتعيّن أن يكون مراده أنّ الحلّ هو المؤذن بتحقّق وصف الطيِّب في الطعام المباح ، لأنّ الوصف الطيّب قد يخفى ، فأخذ مالك بعلامته وهي الحلّ كيلا يكون قوله : { الطيّبات } حوالة على ما لا ينضبط بين الناس مثل الاستلذاذ ، فيتَعيّن ، إذن ، أن يكون قوله : { أحل لكم الطيبات } غيْر مراد منه ضبط الحلال ، بل أريد به الامتنان والإعلام بأنّ ما أحلّه الله لهم فهو طيّب ، إبطالاً لِما اعتقدوه في زمن الشرك : من تحريم ما لا موجب لتحريمه ، وتحليل ما هو خبيث .

ويدلّ لذلك تكرّر ذكر الطيّبات مع ذكر الحلال في القرآن ، مثل قوله : { اليومَ أحلّ لكم الطيّبات } [ المائدة : 5 ] وقولِه في الأعراف ( 157 ) : { ويُحلّ لهم الطيّبات ويحرّم عليهم الخبائث } وعن الشافعي : الطيّبات : الحلال المستلذّ ، فكلّ مستقذر كالوزغ فهو من الخبائث حرام . قال فخر الدين : العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة ، فإنّ أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات ، وتتأكّد دلالة هذه الآيات بقوله تعالى : { خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] فهذا يقتضي التمكّن من الانتفاع بكل ما في الأرض ، إلاُّ أنّه دخله التخصيص بحرمة الخبائث ، فصار هذا أصلاً كبيراً في معرفة ما يحلّ ويحرم من الأطعمة . منها أنّ لحم الخيل مباح عند الشافعي . وقال أبو حنيفة : ليس بمباح . حجّة الشافعي أنّه مستلذّ مستطاب ، والعلم بذلك ضروري ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون حلالاً ، لقوله تعالى : { أحل لكم الطيبات } . وفي « شرح الهداية » في الفقه الحنفي لمحمد الكاكي « أنّ ما استطابه العرب حلال ، لقوله تعالى : { ويحلّ لهم الطيّبات } [ الأعراف : 157 ] ، وما استخبثه العرب حرام ، لقوله : { ويحرّم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] . والذين تعتبر استطابتهم أهل الحجاز من أهل الأمصار ، لأنّ القرآن أنزل عليهم وخوطبوا به ، ولم يُعتبر أهل البوادي لأنّهم يأكلون ما يجدون للضرورة والمجاعة . وما يوجد في أمصار المسلمين ممّا لا يعرفه أهل الحجاز رُدّ إلى أقرب مَا يشبهه في الحجاز اهـ . وفيه من التحكّم في تحكيم عوائد بعض الأمّة دون بعض ما لا يناسب التشريع العامّ ، وقد استقذر أهل الحجاز لحم الضبّ بشهادة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث خالد بن الوليد : « ليس هو من أرض قومي فأجدني أعافه » ومع ذلك لم يحرّمه على خالد .

والذي يظهر لي : أنّ الله قد ناط إباحة الأطعمة بوصف الطيّب فلا جرم أن يكون ذلك منظوراً فيه إلى ذات الطعام ، وهو أن يكون غير ضارّ ولا مستقذر ولا مناف للدين ، وأمارة اجتماع هذه الأوصاف أن لا يحرّمه الدّين ، وأن يكون مقبولاً عند جمهور المُعتدلين من البشر ، من كلّ ما يعدّه البشر طعاماً غير مستقذر ، بقطع النظر عن العوائد والمألوفات ، وعن الطبائع المنحرفات ، ونحن نجد أصناف البشر يتناول بعضهم بعض المأكولات من حيوان ونبات ، ويترك بعضهم ذلك البعض . فمن العرب من يأكل الضبّ واليربوع والقنافذ ، ومنهم من لا يأكلها . ومن الأمم من يأكل الضفادع والسلاحف والزواحف ومنهم من يتقذّر ذلك . وأهل مدينة تونس يأبون أكل لحم أنثى الضأن ولحم المعز ، وأهل جزيرة شريك يستجيدون لحم المعز ، وفي أهل الصحاري تُستجاد لحوم الإبل وألبانُها ، وفي أهل الحضر من يكره ذلك ، وكذلك دوابّ البحر وسلاحفه وحيّاته .

والشريعة من ذلك كلّه فلا يقضي فيها طبعُ فريق على فريق . وَالمحرّمات فيها من الطعوم ما يضرّ تناوله بالبدن أو العقل كالسموم والخمور والمخدّرات كالأفيون والحشيشة المخدّرة ، وما هو نجسَ الذات بحكم الشرع ، وما هو مستقذر كالنخامة وذرق الطيوب وأرواث النعام ، وما عدا ذلك لا تجد فيه ضابطاً للتحريم إلاّ المحرّمات بأعيانها وما عداها فهو في قسم الحلال لمن شاء تناوله . والقول بأنّ بعضها حلال دون بعض بدون نصّ ولا قياس هو من القول على الله بما لا يعلمه القائل ، فما الذي سوّغ الظبي وحرّم الأرنب ، وما الذي سوّغ السمكة وحرّم حيّة البحر ، وما الذي سوّغ الجَمَل وحرّم الفرس ، وما الذي سوّغ الضبّ والقنفذ وحرّم السلحفاة ، وما الذي أحلّ الجراد وحرّم الحلزون ، إلاّ أن يكون له نصّ صحيح ، أو نظر رَجيح ، وما سوى ذلك فهو ريح . وغرضنا من هذا تنوير البصائر إذا اعترى التردّد لأهل النظر في إناطة حظر أو إباحة بما لا نصّ فيه أو في مواقع المتشابهات .

{ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } .

يجوز أن يكون عطفاً على { الطيّبات } عطف المفرد ، على نيّة مضاف محذوف ، والتقدير : وصيد ما علّمتم من الجوارح ، يدلّ عليه قوله : { فكلوا مما أمسكن عليكم } . فما موصولة وفاء { فكلوا } للتفريع . ويجوز أن يكون عطف جملة على جملة ، وتكون ( ما ) شرطية وجواب الشرط { فكلوا ممّا أمسكن } .

وخُصّ بالبيان من بين الطيّبات لأنّ طيبه قد يخفى من جهة خفاء معنى الذكاة في جرح الصيد ، لا سيما صيد الجوارح ، وهو محلّ التنبيه هنا الخاصّ بصيد الجوارح . وسيُذكر صيد الرماح والقنص في قوله تعالى : { ليبلونّكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } [ المائدة : 94 ] والمعنى : وما أمسك عليكم ما علّمتم بقرينة قوله بعدُ { فكلوا مما أمسكن عليكم } لظهور أن ليس المراد إباحة أكل الكلاب والطيور المعلّمة .

والجوارح : جمع الجارح ، أو الجارحة ، جرى على صيغة جمع فاعلة ، لأنّ الدوابّ مراعى فيها تأنيث جمعها ، كما قالت العرب للسباع : الكواسب ، قال لبيد :

غُبْس كواسِبُ ما يُمَنّ طعامها

ولذلك تُجمعَ جمعَ التأنيث ، كما سيأتي { فكلوا ممّا أمسكن عليكم } .

{ ومكلِّبين } حال من ضمير { علّمتم } مبيّنة لنوع التعليم وهو تعليم المكلِّب ، والمكلِّب بكسر اللام بصيغة اسم الفاعل مُعلّم الكلاب ، يقال : مكلِّب ، ويقال : كَلاَّب .

ف { مكلِّبين } وصف مشتقّ من الاسم الجامد اشتقّ من اسم الكلب جرياً على الغالب في صيد الجوارح ، ولذلك فوقوعه حالاً من ضمير { علّمتم } ليس مخصّصاً للعموم الذي أفاده قوله : { وما علّمتم } فهذا العموم يشمل غير الكلاب من فُهود وبُزَاة .

وخالف في ذلك ابن عمر ، حكى عنه ابنُ المنذر أنّه قصر إباحة أكل ما قتله الجارح على صيد الكلاب لقوله تعالى : { مكلّبين } قال : فأمّا ما يصاد به من البزاةِ وغيرها من الطير فما أدركتَ ذكاته فذكِّه فهو لك حلال وإلاّ فلا تَطْعَمْه . وهذا أيضاً قول الضحّاك والسُدّي .

فأمَّا الكلاب فلا خلاف في إباحة عموم صيد المعلَّمات منها ، إلاّ ما شذّ من قول الحسن وقتادة والنخعي بكراهة صيد الكلب الأسود البهيم ، أي عامّ السواد ، محتجّين بقول النبي صلى الله عليه وسلم " الكلب الأسود شيطان " أخرجه مسلم ، وهو احتجاج ضعيف ، مع أنّ النبي عليه السلام سمّاه كلباً ، وهل يشكّ أحد أنّ معنى كونه شيطاناً أنَّه مظنّة للعقر وسوء الطبع . على أنّ مورد الحديث في أنَّه يقطع الصلاة إذا مرّ بين يدي المصلّي . على أنّ ذلك متأوّل . وعن أحمد بن حنبل : ما أعرف أحداً يرخّص فيه ( أي في أكل صيده ) إذا كان بهيماً ، وبه قال إسحاق بن راهويه ، وكيف يصْنع بجمهور الفقهاء .

وقوله : { تعلمونهن مما علمكم الله } حال ثانية ، قصد بها الامتنان والعبرة والمواهب التي أودعها الله في الإنسان ، إذ جعله معلَّماً بالجبلّة من يومَ قال : { يا آدم أنبئهم بأسمائهم } [ البقرة : 33 ] ، والمواهب التي أودعها الله في بعض الحيوان ، إذ جعله قابلاً للتعلّم . فباعتبار كون مفاد هذه الحال هو مفاد عاملها تتنزّل منزلة الحال المؤكّدة ، وباعتبار كونها تضمّنت معنى الامتنان فهي مؤسّسة . قال صاحب « الكشاف » « وفي تكرير الحال فائدةُ أنّ على كلّ آخذ عِلماً أن لا يأخذه إلاّ من أقْتَلِ أهلِه علماً وأنْحَرِهم دِراية وأغوصِهِم على لطائفه وحقائقه وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكبادَ الإبل ، فكم من آخذ عن غير متقن قد ضيّع أيّامه وعَضّ عند لقاء النَّحارير أنامله » . اهـ .

والفاء في قوله : « فكلوا ممّا أمسكن عليكم » فاء الفصيحة في قوله : { وما علّمتم من الجوارح } إن جعلت ( ما ) من قوله { وما علّمتم } موصولة ، فإن جعلتها شرطية فالفاء رابطة للجواب .

وحرف ( من ) في قوله { ممّا أمسكن عليكم } للتبعيض ، وهذا تبعيض شائع الاستعمال في كلام العرب عند ذكر المتناوَلات ، كقوله : « كلوا من ثمره » . وليس المقصود النهي عن أكل جميع ما يصيده الصائد ، ولا أنّ ذلك احتراس عن أكل الريش ، والعظم ، والجلد ، والقرون ؛ لأنّ ذلك كلّه لا يتوهّمه السامع حتّى يحترس منه .

وحرف ( على ) في قوله { ممّا أمسكن عليكم } بمعنى لام التعليل ، كما تقول : سجن على الاعتداء ، وضُرب الصبيّ على الكذب ، وقول علقمة بن شيبان :

ونُطاعن الأعداءَ عن أبنائنا *** وعَلَى بصائرنا وإن لم نُبْصِر

أي نطاعن على حقائقنا : أي لحماية الحقيقة ، ومن هذا الباب قوله تعالى : { أمسك عليك زوجك } [ الأحزاب : 37 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم { أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك } .

ومعنى الآية إباحة أكل ما صاده الجوارح : من كلاب ، وفهود ، وسباع طير : كالبزاة ، والصقور ، إذا كانت معلّمة وأمسكت بعد إرسال الصائد . وهذا مقدار اتّفق علماء الأمّة عليه وإنَّما اختلفُوا في تحقّق هذه القيود .

فأمَّا شرط التعليم فاتّفقوا على أنّه إذا أُشلي ، فانْشلى ، فاشتدّ وراء الصيد ، وإذا دُعي فأقبل ، وإذا زجر فانزجر ، وإذا جاء بالصيد إلى ربّه ، أنّ هذا معلّم . وهذا على مراتب التعلّم . ويكتفي في سباع الطير بما دون ذلك : فيكتفي فيها بأن تؤمر فتطيع . وصفاتُ التعليم راجعة إلى عرف أهل الصيد ، وأنَّه صار له معرفة ، وبذلك قال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي : ولا حاجة إلى ضبط ذلك بمرّتيْن أو ثلاث ، خلافاً لأحمد ، وأبي يوسف ، ومحمد .

وأمّا شرط الإمساك لأجل الصائد : فهو يعرف بإمساكها الصيد بعد إشلاء الصائد إيّاها ، وهو الإرسال من يده إذا كان مشدوداً ، أو أمرُه إيّاها بلفظ اعتدات أن تفهم منه الأمر كقوله : « هذا لَكِ » لأنّ الإرسال يقوم مقام نية الذكاة . ثم الجارح ما دام في استرساله معتبر حتّى يرجع إلى ربّه بالصيد . واختلفوا في أكل الجارح من الصيد قبل الإتيان به إلى ربّه هل يبطل حكم الإمساك على ربّه : فقال جماعة من الصحابة والتابعين : إذا أكل الجارح من الصيد لم تؤكل البقية ؛ لأنّه إنَّما أمسك على نفسه ، لا على ربّه . وفي هذا المعنى حديث عديّ بن حاتم في الصحيح : أنَّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلب ، فقال : " وإذا أكَل فلا تأكل فإنَّما أمسك على نفسه " وبه أخذ الشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور ، وإسحاق . وقال جماعة من الصحابة : إذا أكل الجارح لم يضرّ أكله ، ويؤكل ما بقي . وهو قول مالك وأصحابه : لحديث أبي ثَعْلبة الخُشَني ، في « كتاب أبي داوود » : أنّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « وإن أكل منه » . ورام بعض أصحابنا أن يحتجّ لهذا بقوله تعالى : { ممّا أمسكن عليكم } حيث جاء بمن المفيدة للتبعيض ، المؤذنة بأنّه يؤكل إذا بَقي بعضه ، وهو دليل واه فقد ذكرنا آنفاً أنَّ ( مِن ) تدخل على الاسم في مِثل هذا وليس المقصود التَّبعيض ، والكلب أو الجارح ، إذا أشلاه القنّاص فانشلى ، وجاء بالصيد إلى ربّه . فهو قد أمسكه عليه وإن كان قد أكل منه ، فقد يأكل لفرط جوع أو نسيان . ونحا بعضهم في هذا إلى تحقيق أنّ أكل الجارح من الصيد هل يقدح في تعليمه ، والصواب أنّ ذلك لا يقدح في تعليمه ، إذا كانت أفعاله جارية على وفق أفعال الصيد ، وإنما هذا من الفلتة أو من التهوّر . ومَال جماعة إلى الترخيص في ذلك في سباع الطير خاصّة ، لأنّها لا تفقه من التعليم مَا يَفقه الكلب ، وروي هذا عن ابن عباس ، وحمّاد ، والنخعي ، وأبي حنيفة ، وأبي ثور .

وقد نشأ عن شرط تحقّق إمساكه على صاحبه مسألة لو أمسك الكلب أو الجارح صيداً لم يره صاحبه وتركه ورجع دونه ، ثم وجد الصائد بعد ذلك صيداً في الجهة التي كان يجوسها الجارح أو عرف أثر كلبه فيه ؛ فعن مالك : لا يؤكل ، وعن بعض أصحابه : يؤكل . وأمَّا إذا وجد الصائد سهمه في مقاتل الصيد فإنَّه يؤكل لا محالة .

وأحسب أنّ قوله تعالى : { مما أمسكن عليكم } احتراز عن أن يجد أحد صيداً لم يصده هو ، ولا رأى الجارح حين أمسكه ، لأنّ ذلك قد يكون موته على غير المعتاد فلا يكون ذكاة ، وأنَّه لا يحرم على من لم يتصدّ للصيد أن يأكل صيداً رأى كلب غيره حين صاده إذا لم يجد الصائد قريباً ، أو ابْتاعه من صائده ، أو استعطاه إيَّاه .

وقوله : { واذكروا اسم الله عليه } أمر بذكر الله على الصيد ، ومعناه أن يذكره عند الإرسال لأنه قد يموت بجرح الجارح ، وأمَّا إذا أمسكه حيّاً فقد تعيّن ذبحه فيذكر اسم الله عليه حينئذٍ . ولقد أبدع إيجازُ كلمة « عليه » ليشمل الحالتين . وحكمُ نسيان التسمية وتعمّد تركها معلوم من كتب الفقه والخلاف ، والدينُ يسر .

وقد اختلف الفقهاء : في أنّ الصيد رخصة ، أو صفة من صفات الذكاة . فالجمهور ألحقوه بالذكاة ، وهو الراجح ، ولذلك أجازوا أكل صيد الكتابي دون المَجوسي . وقال مالك : هو رخصَة للمسلمين فلا يؤكل صيد الكتابيّ ولا المجوسي ولا قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لَيَبْلُوَنَّكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } [ المائدة : 94 ] . وهو دليل ضعيف : لأنَّه وارد في غير بيان الصيد ، ولكن في حُرمة الحَرم . وخالفه أشهب ، وابن وهب ، من أصحابه . ولا خلاف في عدم أكل صيد المجوسي إلاّ رواية عن أبي ثور إذ ألحقهم بأهل الكتاب فهو اختلاف في الأصل لا في الفرع .

وقوله : { واتَّقوا الله } الآية تذييل عامّ ختمت به آية الصيد ، وهو عامّ المناسبة .