في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ أَيُّ شَيۡءٍ أَكۡبَرُ شَهَٰدَةٗۖ قُلِ ٱللَّهُۖ شَهِيدُۢ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۚ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَۚ أَئِنَّكُمۡ لَتَشۡهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخۡرَىٰۚ قُل لَّآ أَشۡهَدُۚ قُلۡ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ وَإِنَّنِي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ} (19)

12

وأخيرا تجيء قمة المد في هذه الموجة ؛ ويجيء الإيقاع المدوي العميق ؛ في موقف الإشهاد والإنذار والمفاصلة والتبرؤ من المشاركة في الشرك . . كل ذلك في رنة عالية ، وفي حسم رهيب :

( قل : أي شيء أكبر شهادة ؟ قل الله . شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ، أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ؟ قل : لا أشهد ، قل : إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون ) . .

إن تتابع المقاطع والإيقاعات في الآية الواحدة عجيب ؛ وإن هذا التتابع ليرسم الموقف لحظة لحظة ، ومشهدا مشهدا ، ويكاد ينطق بملامح الوجوه فيه وخلجات الصدور . .

فها هو ذا رسول الله [ ص ] يؤمر من ربه هذا الأمر . . ثم ها هو ذا يواجه المشركين الذين يتخذون من دون الله أولياء ؛ يجعلون لهم بعض خصائص الألوهية مع الله ؛ ويدعون رسول الله [ ص ] أن يقرهم على هذا الذي هم فيه ليدخلوا هم فيما جاءهم به ! كأن ذلك يمكن أن يكون ! وكأنه يمكن أن يجتمع الإسلام والشرك في قلب واحد على هذا النحو الذي كانوا يتصورونه ؛ والذي لا يزال يتصوره ناس في هذا الزمان ، من أنه يمكن أن يكون الإنسان مسلما لله ؛ بينما هو يتلقى من غير الله في شؤون الحياة ؛ وبينما هو يخضع لغير الله ويستنصر بغير الله ، ويتولى غير الله !

ها هو ذا رسول الله [ ص ] يواجه هؤلاء المشركين ؛ ليبين لهم مفرق الطريق بين دينه ودينهم ، وبين توحيده وشركهم ، وبين إسلامه وجاهليتهم . وليقرر لهم : أنه لا موضع للقاء بينه وبينهم ، إلا أن يتخلصوا هم من دينهم ويدخلوا في دينه . وأنه لا وجه للمصالحة في هذا الأمر ؛ لأنه يفترق معهم في أول الطريق !

وها هو ذا يبدأ معهم مشهد الإشهاد العلني المفتوح المكشوف :

( قل : أي شيء أكبر شهادة ؟ ) . .

أي شاهد في هذا الوجود كله هو أكبر شهادة ؟ أي شاهد تعلو شهادته كل شهادة ؟ أي شاهد تحسم شهادته في القضية فلا يبقى بعد شهادته شهادة ؟

وللتعميم المطلق ، حتى لا يبقى في الوجود كله ( شيء ) لا يستقصى وزنه في مقام الشهادة : يكون السؤال : ( أي شيء أكبر شهادة ؟ ) .

وكما يؤمر رسول الله [ ص ] بالسؤال ، فهو يؤمر كذلك بالجواب . ذلك أنه لا جواب غيره باعتراف المخاطبين أنفسهم . ولا جواب غيره في حقيقة الأمر والواقع :

ل : الله . .

نعم ! فالله - سبحانه وتعالى - هو أكبر شهادة . . هو الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين . . هو الذي لا شهادة بعد شهادته ، ولا قول بعد قوله . فإذا قال فقد انتهى القول ، وقد قضي الأمر .

فإذا أعلن هذه الحقيقة : حقيقة أن الله سبحانه هو أكبر شهادة ، أعلن لهم أنه - سبحانه - هو الشهيد بينه وبينهم في القضية :

( شهيد بيني وبينكم ) . .

على تقدير : هو شهيد بيني وبينكم - فهذا التقطيع في العبارة هو الأنسب في جو المشهد : وهو أولى من الوصل على تقدير : ( قل الله شهيد بيني وبينكم ) .

فإذا تقرر المبدأ : مبدأ تحكيم الله سبحانه في القضية ، أعلن إليهم أن شهادة الله سبحانه ، تضمنها هذا القرآن ، الذي أوحاه إليه لينذرهم به ؛ وينذر به كل من يبلغه في حياته [ ص ] أو من بعد . فهو حجة عليهم وعلى من يبلغه غيرهم ؛ لأنه يتضمن شهادة الله في هذه القضية الأساسية ؛ التي تقوم عليها الدنيا والآخرة ، ويقوم عليها الوجود كله والوجود الإنساني ضمنا :

( وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) . .

فكل من بلغه هذا القرآن من الناس ، بلغة يفهمها ، ويحصل منها محتواه ، فقد قامت عليه الحجة به ، وبلغه الإنذار ، وحق عليه العذاب ، إن كذب بعد البلاغ . . [ فأما من يحول عدم فهمه للغة القرآن دون فهمه لفحواه ، فلا تقوم عليه الحجة به ؛ ويبقى إثمه على أهل هذا الدين الذين لم يبلغوه بلغته التي يفهم بها مضمون هذا الشهادة . . هذا إذا كان مضمون القرآن لم يترجم إلى لغته ] . .

فإذا أعلن إليهم أن شهادة الله - سبحانه - متضمنة في هذا القرآن ، أعلن إليهم مضمون هذه الشهادة في صورة التحدي والاستنكار لشهادتهم هم ، المختلفة في أساسها عن شهادة الله سبحانه . وعالنهم بأنه ينكر شهادتهم هذه ويرفضها ؛ وأنه يعلن غيرها ويقرر عكسها ويشهد لربه بالوحدانية المطلقة والألوهية المتفردة ؛ وأنه يفاصلهم على هذا عند مفرق الطريق ؛ وأنه يتبرأ من شركهم في صيغة التشديد والتوكيد :

( أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ؟ قل : لا أشهد ، قل : إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون ) . .

والنصوص القرآنية بمقاطعها هذه ، وبإيقاعاتها هذه ، تهز القلوب بما لا يملك البيان البشري أن يفعل فلا أريد أن أوقف تدفقها وانسكابها في القلب بأي تعليق .

تعقيب على الوحدة - الولاء والتوحيد والمفاصلة

ولكني أريد أن أتحدث عن القضية التي تضمنها هذا المقطع ، وجرت بها هذه الموجة . . إن هذه القضية التي عرضها السياق القرآني في هذه الآيات . . قضية الولاء والتوحيد والمفاصلة . . هي قضية هذه العقيدة ؛ وهي الحقيقية الكبرى فيها . وان العصبة المؤمنة اليوم لخليقة بأن تقف أمام هذا الدرس الرباني فيها وقفة طويلة . .

إن هذه العصبة تواجه اليوم من الجاهلية الشاملة في الأرض ، نفس ما كانت تواجهه العصبة التي تنزلت عليها هذه الآيات ، لتحدد على ضوئها موقفها ، ولتسير على هذا الضوء في طريقها ؛ وتحتاج - من ثم - أن تقف وقفة طويلة أمام هذه الآيات ، لترسم طريقها على هداها .

لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية ؛ وعادت البشرية إلى مثل الموقف الذي كانت فيه يوم تنزل هذا القرآن على رسول الله [ ص ] ويوم جاءها الإسلام مبينا على قاعدته الكبرى : " شهادة أن لا إله إلا الله " . . شهادة أن لا إله إلا الله بمعناها الذي عبر عنه ربعي بن عامر رسول قائد المسلمين إلى رستم قائد الفرس ، وهو يسأله : " ما الذي جاء بكم ؟ " فيقول : " الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام " . .

وهو يعلم أن رستم وقومه لا يعبدون كسرى بوصفه إلها خالقا للكون ؛ ولا يقدمون له شعائر العبادة المعروفة ؛ ولكنهم إنما يتلقون منه الشرائع ، فيعبدونه بهذا المعنى الذي يناقض الإسلام وينفيه ؛ فأخبره أن الله ابتعثهم ليخرجوا الناس من الأنظمة والأوضاع التي يعبد العباد فيها العباد ، ويقرون لهم بخصائص الألوهية - وهي الحاكمية والتشريع والخضوع لهذه الحاكمية والطاعة لهذا التشريع - [ وهي الأديان ] . . إلى عبادة الله وحده وإلى عدل الإسلام .

لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله . فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد ، وإلى جور الأديان ؛ ونكصت عن لا إله إلا الله ، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن : " لا إله إلا الله " ؛ دون أن يدرك مدلولها ، ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها ، ودون أن يرفض شرعية " الحاكمية " التي يدعيها العباد لأنفسهم - وهي مرادف الألوهية - سواء ادعوها كأفراد ، أو كتشكيلات تشريعية ، أو كشعوب . فالأفراد ، كالتشكيلات ، كالشعوب ، ليست آلهة ، فليس لها إذن حق الحاكمية . . إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية ، وارتدت عن لا إله إلا الله . فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية . ولم تعد توحد الله ، وتخلص له الولاء . .

البشرية بجملتها ، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات : " لا إله إلا الله " بلا مدلول ولا واقع . . وهؤلاء أثقل إثما وأشد عذابا يوم القيامة ، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد - من بعدما تبين لهم الهدى - ومن بعد أن كانوا في دين الله !

فما أحوج العصبة المسلمة اليوم أن تقف طويلا أمام هذه الآيات البينات !

ما أحوجها أن تقف أمام آية الولاء :

( قل : أغبر الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض ، وهو يطعم ولا يطعم ؟ قل : إني أمرت أن أكون أول من أسلم ، ولا تكونن من المشركين ) . .

ذلك لتعلم أن اتخاذ غير الله وليا - بكل معاني " الولي " . . وهي الخضوع والطاعة ، والاستنصار والاستعانة . . يتعارض مع الإسلام ، لأنه هو الشرك الذي جاء الإسلام ليخرج منه الناس . . ولتعلم أن أول ما يتمثل فيه الولاء لغير الله هو تقبل حاكمية غير الله في الضمير أو في الحياة . . الأمر الذي تزاوله البشرية كلها بدون استثناء . ولتعمل أنها تستهدف اليوم إخراج الناس جميعا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ؛ وأنها تواجه جاهلية كالتي واجهها رسول الله [ ص ] والجماعة المسلمة حين تلقي هذه الآيات . .

وما أحوجها أن تستصحب في مواجهتها للجاهلية تلك الحقائق والمشاعر التي تسكبها في القلب المؤمن الآيات التالية :

( قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه ، وذلك الفوز المبين . وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ) . .

فما أحوج من يواجه الجاهلية بطاغوتها وجبروتها ، وبإعراضها وعنادها ، وبالتوائها وكيدها ، وبفسادها وانحلالها . . ما أحوج من يواجه هذا الشر كله ، أن يستصحب في قلبه هذه الحقائق وهذا المشاعر . . مخافة المعصية والولاء لغير الله . ومخافة العذاب الرعيب الذي يترقب العصاة . . واليقين بأن الضار والنافع هو الله . وأن الله هو القاهر فوق عباده فلا معقب على حكمه ولا راد لما قضاه . إن قلبا لا يستصحب هذه الحقائق وهذه المشاعر لن يقوى على تكاليف " إنشاء " الإسلام من جديد في وجه الجاهلية الطاغية . . وهي تكاليف هائلة تنوء بها الجبال !

ثم ما أحوج العصبة المؤمنة - بعد أن تستيقن حقيقة مهمتها في الأرض اليوم ؛ وبعد أن تستوضح حقيقة العقيدة التي تدعو إليها ومقتضياتها من إفراد الله سبحانه بالولاء بكل مدلولاته ؛ وبعد أن تستصحب معها في مهمتها الشاقة تلك الحقائق والمشاعر . ما أحوجها بعد ذلك كله إلى موقف الإشهاد والقطع والمفاصلة والتبرؤ من الشرك الذي تزاوله الجاهلية البشرية اليوم كما كانت تزاوله جاهلية البشرية الأولى . وأن تقول ما أمر رسول الله [ ص ] أن يقوله ؛ وأن تقذف في وجه الجاهلية ، بما قذف به في وجهها الرسول الكريم ، تنفيذا لأمر به العظيم :

( قل : أي شيء أكبر شهادة ؟ قل : الله ، شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ . أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ؟ قل : لا أشهد . قل : إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون ) . .

إنه لا بد أن تقف العصبة المسلمة في الأرض ، من الجاهلية التي تغمر الأرض ، هذا الموقف . لا بد أن تقذف في وجهها بكلمة الحق هذه عالية مدوية ، قاطعة فاصلة ، مزلزلة رهيبة . . ثم تتجه إلى الله تعلم أنه على كل شيء قدير ، وأنه هو القاهر فوق عباده . وأن هؤلاء العباد - بما فيهم الطواغيت المتجبرون - أضعف من الذباب ، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ! وأنهم ليسوا بضارين من أحد إلا بإذن الله ؛ وليسوا بنافعين أحدا إلا بإذن الله ، وأن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

ولا بد أن تستيقن العصبة المسلمة كذلك أنها لن تنصر ولن يتحقق لها وعد الله بالتكمين في الأرض ، قبل أن تفاصل الجاهلية على الحق عند مفترق الطريق . وقبل أن تعلن كلمة الحق في وجه الطاغوت ، وقبل أنتشهد على الجاهلية هذا الإشهاد ، وتنذرها هذه النذارة ، وتعلنها هذا الإعلان ، وتفاصلها هذه المفاصلة ، وتتبرأ منها هذه البراءة . .

إن هذا القرآن لم يأت لمواجهة موقف تاريخي ؛ إنما جاء منهجا مطلقا خارجا عن قيود الزمان والمكان . منهجا تتخذه الجماعة المسلمة حيثما كانت في مثل الموقف الذي تنزل فيه هذا القرآن . وهي اليوم في مثل هذا الموقف تماما ؛ وقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا القرآن لينشيء الإسلام في الأرض إنشاء . . فليكن اليقين الجازم بحقيقة هذا الدين . والشعور الواضح بحقيقة قدرة الله وقهره . والمفاصلة الحاسمة مع الباطل وأهله . . لتكن هذه عدة الجماعة المسلمة . . والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُلۡ أَيُّ شَيۡءٍ أَكۡبَرُ شَهَٰدَةٗۖ قُلِ ٱللَّهُۖ شَهِيدُۢ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۚ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَۚ أَئِنَّكُمۡ لَتَشۡهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخۡرَىٰۚ قُل لَّآ أَشۡهَدُۚ قُلۡ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ وَإِنَّنِي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ} (19)

{ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لنذركم به ومن بلغ }

انتقال من الاستدلال على إثبات ما يليق بالله من الصفات ، إلى إثبات صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإلى جعْلِ الله حكماً بينه وبين مكذّبيه ، فالجملة استئناف ابتدائي ، ومناسبة الانتقال ظاهرة .

روى الواحدي في « أسباب النزول » عن الكلبي : أنّ رؤساء مكّة قالوا : يا محمد ما نرى أحداً مصدّقَك بما تقول ، وقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرُك ولا صفتك فأرِنا من يشهد أنّك رسول الله . فنزلت هذه الآية .

وقد ابتدئت المحاورة بأسلوب إلقاء استفهام مستعمل في التقرير على نحو ما بيّنته عند قوله تعالى : { قل لمن ما في السماوات والأرض } [ الأنعام : 12 ] ومثل هذا الأسلوب لإعداد السامعين لتلقّي ما يرد بعد الاستفهام .

و ( أي ) اسم استفهام يطلب به بيان أحد المشتركات فيما أضيف إليه هذا الاستفهام ، والمضاف إليه هنا هو { شيء } المفسّر بأنَّه من نوع الشهادة .

و { شَيء } اسم عامّ من الأجناس العالية ذات العموم الكثير ، قيل : هو الموجود ، وقيل : هو ما يعلم ويصحّ وجوده . والأظهر في تعريفه أنّه الأمر الذي يعلم . ويجري عليه الإخبار سواء كان موجوداً أو صفة موجود أو معنى يتعقّل ويتحاور فيه ، ومنه قوله تعالى : { فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا متنا وكنّا تراباً ذلك رجْع بعيد } [ ق : 2 ، 3 ] .

وقد تقدّم الكلام على مواقع حسن استعمال كلمة ( شيء ) ومواقع ضعفها عند قوله تعالى : { ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع } في سورة [ البقرة : 155 ] .

( { وأكبَرُ } هنا بمعنى أقوى وأعدل في جنس الشهادات ، وهو من إطلاق ما مدلوله عظم الذات على عظم المعنى ، كقوله تعالى : { ورضوان من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] وقوله : { قل قتال فيه كبير } وقد تقدّم في سورة [ البقرة : 217 ] .

وقوة الشهادة بقوة اطمئنان النفس إليها وتصديق مضمونها .

وقوله : { شهادة } تمييز لنسبة الأكبرية إلى الشيء فصار ماصْدق الشيء بهذا التمييز هو الشهادة . فالمعنى : أيّة شهادة هي أصدق الشهادات ، فالمستفهم عنه بِ { أي } فرد من أفراد الشهادات يطلب عِلم أنَّه أصدق أفراد جنسه .

والشهادة تقدّم بيانها عند قوله تعالى : { شهادة بينكم } في سورة [ المائدة : 106 ] .

ولمّا كانت شهادة الله على صدق الرسول غير معلومة للمخاطبين المكذّبين بأنّه رسول الله ، صارت شهادة الله عليهم في معنى القسم على نحو قوله تعالى : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنّه لمن الكاذبين } [ النور : 8 ] أي أن تُشهد الله على كذب الزوج ، أي أن تحلف على ذلك بسم الله ، فإنّ لفظ ( أشهد الله ) من صيغ القسم إلاّ أنّه إن لم يكن معه معنى الإشهاد يكون مجازاً مرسلاً ، وإن كان معه معنى الإشهاد كما هنا فهو كناية عن القسم مراد منه معنى إشهاد الله عليهم ، وبذلك يظهر موقع قوله : { الله شهيد بيني وبينكم } ، أي أشهده عليكم .

وقريب منه ما حكاه الله عن هود { قال إنّي أشهد الله } [ هود : 54 ] .

وقوله : { قل الله شهيد بيني وبينكم } جواب للسؤال ، ولذلك فصلت جملته المصدّرة ب { قل } . وهذا جواب أمر به المأمور بالسؤال على معنى أن يسأل ثم يبادر هو بالجواب لكون المراد بالسؤال التقرير وكون الجواب ممّا لا يسع المقرّر إنكاره ، على نحو ما بيّنّاه في قوله : { قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله } [ الأنعام : 12 ] ووقع قوله : { الله شهيد بيني وبينكم } جواباً على لسانهم لأنّه مرتّب على السؤال وهو المقصود منه فالتقدير : قل شهادة الله أكبر شهادة ، فالله شهيد بيني وبينكم ، فحذف المرتّب عليه لدلالة المرتّب إيجازاً كما هو مقتضى جزالة أسلوب الإلجاء والجدل . والمعنى : أنّي أشهد الله الذي شهادته أعظم شهادة أنّني أبلغتكم أنّه لا يرضى بأن تشركوا به وأنذرتكم .

وفي هذه الآية ما يقتضي صحة إطلاق اسم ( شيء ) على الله تعالى لأنّ قوله : { الله شهيد } وقع جواباً عن قوله : { أي شيء } فاقتضى إطلاق اسم ( شيء ) خبراً عن الله تعالى وإن لم يدلّ صريحاً . وعليه فلو أطلقه المؤمن على الله تعالى لما كان في إطلاقه تجاوز للأدب ولا إثم . وهذا قول الأشعرية خلافاً لجهم بن صفوان وأصحابه .

ومعنى : { شهيد بيني وبينكم } أنّه لمّا لم تنفعهم الآيات والنذر فيرجعوا عن التكذيب والمكابرة لم يبق إلاّ أن يكلهم إلى حساب الله تعالى . والمقصود : إنذارهم بعذاب الله في الدنيا والآخرة . ووجه ذكر { بيني وبينكم } أنّ الله شهيد له ، كما هو مقتضى السياق . فمعنى البيْن أنّ الله شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق لردّ إنكارهم رسالته كما هو شأن الشاهد في الخصومات .

وقوله : { وأوحي إليّ هذا القرآن } عطف على جملة { الله شهيد بيني وبينكم } ، وهو الأهمّ فيما أقسم عليه من إثبات الرسالة . وينطوي في ذلك جميع ما أبلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما أقامه من الدلائل . فعطف { وأوحي إلي هذا القرآن } من عطف الخاصّ على العامّ ، وحُذف فاعل الوحي وبني فعله للمجهول للعلم بالفاعل الذي أوحاه إليه وهو الله تعالى .

والإشارة ب { هذا القرآن } إلى ما هو في ذهن المتكلّم والسامع . وعطف البيان بعد اسم الإشارة بيَّن المقصود بالإشارة .

واقتصر على جعل علّة نزول القرآن للنذارة دون ذكر البشارة لأنّ المخاطبين في حال مكابرتهم التي هي مقام الكلام لا يناسبهم إلاّ الإنذار ، فغاية القرآن بالنسبة إلى حالهم هي الإنذار ، ولذلك قال { لأنذركم به } مصرَّحاً بضمير المخاطبين . ولم يقل : لأنذر به ، وهم المقصود ابتداء من هذا الخطاب وإن كان المعطوف على ضميرهم ينذر ويبشّر . على أنّ لام العلّة لا تؤذن بانحصار العلّة في مدخولها إذ قد تكون للفعل المعدّى بها علل كثيرة .

{ ومن بلغ } عطف على ضمير المخاطبين ، أي ولأنذر به من بلغه القرآن وسمعه ولو لم أشافهه بالدعوة ، فحذف ضمير النصب الرابط للصلة لأنّ حذفه كثير حسن ، كما قال أبو علي الفارسي .

وعموم { مَن } وصلتها يشمل كلّ من يبلغه القرآن في جميع العصور .

{ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله ءَالِهَةً أخرى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله واحد وَإِنَّنِى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } .

جملة مستأنفة من جملة القول المأمور بأن يقوله لهم . فهي استئناف بعد جملة { أيّ شيء أكبر شهادة } . خصّ هذا بالذكر لأنّ نفي الشريك لله في الإلهية هو أصل الدعوة الإسلامية فبعد أن قرّرهم أنّ شهادة الله أكبر شهادة وأشهد الله على نفسه فيما بلّغ ، وعليهم فيما أعرضوا وكابروا ؛ استأنف استفهاماً على طريقة الإنكار استقصاء في الإعذار لهم فقال : أتشهدون أنتم على ما أصررتم عليه أنّ مع الله آلهة أخرى كما شهدت أنا على ما دعوتكم إليه ، والمقرّر عليه هنا أمر ينكرونه بدلالة المقام .

وإنّما جعل الاستفهام المستعمل في الإنكار عن الخبر الموكّد ب ( إنّ ) ولام الابتداء ليفيد أنّ شهادتهم هذه ممَّا لا يكاد يصدَّق السامعون أنّهم يشهدونها لاستبعاد صدورها من عقلاء ، فيحتاج المخبر عنهم بها إلى تأكيد خبره بمؤكّديْن فيقول : إنّهم ليشهدون أنّ مع الله آلهة أخرى ، فهنالك يحتاج مخاطبهم بالإنكار إلى إدخال أداة الاستفهام الإنكاري على الجملة التي من شأنها أن يحكى بها خبرهم ، فيفيد مثلُ هذا التركيب إنكارين : أحدهما صريح بأداة الإنكار ، والآخر كنائي بلازم تأكيد الإخبار لغرابة هذا الزعم بحيث يشكّ السامع في صدوره منهم .

ومعنى { لتشهدون } لتدّعونا دعوى تحقَّقونها تحقيقاً يشبه الشهادة على أمر محقّق الوقوع ، فإطلاق { تشهدون } مشاكلة لقوله { قل الله شهيد بيني وبينكم } .

والآلهة جمع إله ، وأجري عليه الوصف بالتأنيث تنبيهاً على أنّها لا تعقل فإنّ جمع غير العاقل يكون وصفه كوصف الواحدة المؤنّثة .

وقوله : { قل لا أشهد } جواب للاستفهام الذي في قوله : { أإنّكم لتشهدون } لأنّه بتقدير : قل أإنّكم ، ووقعت المبادرة بالجواب بتبرّىء المتكلّم من أن يشهد بذلك لأنّ جواب المخاطبين عن هذا السؤال معلوم من حالهم أنّهم مقرّون به فأعرض عنهم بعد سؤالهم كأنّه يقول : دعْنا من شهادتكم وخذوا شهادتي فإنّي لا أشهد بذلك . ونظير هذا قوله تعالى : { فإن شهدوا فلا تشهد معهم } [ الأنعام : 15 ] .

وجملة : { قل إنّما هو إله واحد } بيان لجملة { لا أشهد } فلذلك فصلت لأنّها بمنزلة عطف البيان ، لأنّ معنى لا أشهد بأنّ معه آلهة هو معنى أنّه إله واحد ، وأعيد فعل القول لتأكيد التبليغ .

وكلمة { إنّما } أفادت الحصر ، أي هو المخصوص بالوحدانية : ثم بالغ في إثبات ذلك بالتبرّىء من ضدّه بقوله : { وإنّني بريء ممَّا تشركون } . وفيه قطع للمجادلة معهم على طريقة المتاركة .

و ( ما ) في قوله : { ممّا تشركون } يجوز كونها مصدرية ، أي من إشراككم . ويجوز كونها موصولة ، وهو الأظهر ، أي من أصنامكم التي تشركون بها ، وفيه حذف العائد المجرور لأنّ حرف الجرّ المحذوف مع العائد متعيّن تقديره بلا لبس ، وذلك هو ضابط جواز حذف العائد المجرور ، كقوله تعالى : { أنسجد لما تأمرنا } [ الفرقان : 60 ] أي بتعظيمه ، وقوله تعالى : { فاصدع بما تؤمر } أي بالجهر به . وظاهر كلام « التسهيل » أنّ هذا ممنوع ، وهو غفلة من مؤلّفه اغترّ بها بعض شرّاح كتبه .