و { بلى } - جواب للنفي الذي في { ألن } وقد تقدم معناه ، ثم ذكر تعالى الشرط الذي معه يقع الإمداد وهو الصبر ، والتقى . و «الفور » : النهوض المسرع إلى الشيء مأخوذ من فور القدر والماء ونحوه ، ومنه قوله تعالى : { وفار التنور }{[3507]} فالمعنى ويأتوكم في نهضتكم هذه ، قال ابن عباس : { من فورهم هذا } : معناه من سفرهم هذا ، قال الحسن والسدي : معناه ، من وجههم هذا ، وقاله قتادة ، وقال مجاهد وعكرمة وأبو صالح مولى أم هاني{[3508]} : من غضبهم هذا .
قال القاضي : وهذا تفسير لا يخص اللفظة قد يكون «الفور » لغضب ولطمع ولرغبة في أجر ، ومنه الفور في الحج والوضوء ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم : «مسوِّمين » ، بكسر الواو ، وقرأ الباقون : «مسوَّمين » بفتح الواو ، فأما من قرأ بفتح الواو فمعناه : معلمين بعلامات ، قال أبو زيد الأنصاري{[3509]} : «السومة » العلامة تكون على الشاة وغيرها يجعل عليها لون يخالف لونها لتعرف ، وروي أن الملائكة أعلمت يومئذ بعمائم بيض ، حكاه المهدوي عن الزجّاج ، إلا جبريل عليه السلام فإنه كان بعمامة صفراء على مثال عمامة الزبير بن العوام ، وقاله ابن إسحاق ، وقال مجاهد : كانت خيلهم مجزوزة الأذناب والأعراف معلمة النواصي والأذناب بالصوف والعهن ، وقال الربيع : كانت سيماهم أنهم كانوا على خيل بلق ، وقال عباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير{[3510]} : نزلت الملائكة في سيما الزبير عليهم عمائم صفر ، وقال ذلك عروة وعبد الله ابنا الزبير : وقال عبد الله : كانت ملاءة صفر فاعتم الزبير بها ، ومن قرأ : «مسوِّمين » بكسر الواو ، فيحتمل من المعنى مثل ما تقدم ، أي هم قد أعلموا أنفسهم بعلامة وأعلموا خيلهم ، ورجح الطبري وغيره هذه القراءة ، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين يوم بدر : «سوِّموا فإن الملائكة قد سوَّمت{[3511]} ، فهم على هذا مسومون » ، وقال كثير من أهل التفسير : إن معنى «مسوِّمين » ، بكسر الواو أي هم قد سوموا خيلهم : أي أعطوها سومها من الجري والقتال والإحضار فهي سائمة ، ومنه سائمة الماشية ، لأنها تركت وسومها من الرعي ، وذكر المهدوي هذا المعنى في «مسوَّمين » بفتح الواو أي أرسلوا وسومهم .
ولأجل كون الاستفهام غير حقيقي كان جوابه من قِبَل السائل بقوله : { بلى } لأنّه ممَّا لا تسع المماراة فيه كما سيأتي في قوله تعالى : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } في سورة [ الأنعام : 19 ] ، فكان ( بلى ) إبطالاً للنفي ، وإثباتاً لكون ذلك العدد كافياً ، وهو من تمام مقالة النَّبيء للمؤمنين .
وقد جاء في سورة الأنفال [ 9 ] عند ذكره وقعة بدر أن الله وعدهم بمدد من الملائكة عدده ألف بقوله : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدّكم بألف من الملائكة مردفين } .
وذكر هنا أنّ الله وعدهم بثلاثة آلاف ثُمّ صيّرهم إلى خمسة آلاف . ووجه الجمع بين الآيتين أنّ الله وعدهم بثلاثة آلاف ثُمّ صيّرهم إلى خمسة آلاف . ووجه الجمع بين الآيتين أنّ الله وعدهم بألف من الملائكة وأطمعهم بالزّيادة بقوله : { مردفين } [ الأنفال : 9 ] أي مردَفيْن بعدد آخر ، ودلّ كلامه هنا على أنَّهم لم يزالوا وجلين من كثرة عدد العدوّ ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم « ألن يكفيكم أن يمدّكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين » أراد الله بذلك زيادة تثبيتهم ثمّ زادهم ألفين إن صبروا واتَّقوا . وبهذا الوجه فسّر الجمهور ، وهو الذي يقتضيه السياق . وقد ثبت أنّ الملائكة نزلوا يوم بدر لنصرة المؤمنين ، وشاهد بعض الصّحابة طائفة منهم ، وبعضهم شهد آثار قتلهم رجالاً من المشركين .
ووصف الملائكة بمُنْزَلين للدلالة على أنَّهم يَنزلون إلى الارض في موقع القتال عناية بالمسلمين قال تعالى : { ما تَنَزَّل الملائكة إلاّ بالحق } [ الحجر : 8 ] .
وقرأ الجمهور : مُنْزلين بسكون النُّون وتخفيف الزاي وقرأه ابن عامر بفتح النُّون وتشديد الزاي . وأنزل ونزّل بمعنى واحد .
فالضميران : المرفوعُ والمجرور ، في قوله : { ويأتوكم من فورهم } عائدان إلى الملائكة الَّذين جرى الكلام عليهم ، كما هو الظاهر ، وعلى هذا حمله جمع من المفسّرين .
وعليه فموقع قوله : { ويأتوكم } موقع وعد ، فهو المعنى معطوف على { يمددكم ربكم } وكان حقّه أن يرِد بعده ، ولكنَّه قدّم على المعطوف عليه ، تعجيلاً للطمأنينة إلى نفوس المؤمنين ، فيكون تقديمه من تقديم المعطوف على المعطوف عليه ، وإذا جاز ذلك التَّقديم في عطف المفردات كما في قول صَنَّان بن عَبَّاد اليَشْكُرِي :
ثمّ اشتَكَيْتُ لأَشْكانِي وسَاكنُه *** قَبْرٌ بِسِنْجَارَ أوْ قبر على قَهَدِ
قال ابن جنّي في شرح أبيات الحماسة : قدّم المعطوف على المعطوف عليه ، وحَسَّنه شدّة الاتِّصال بين الفعل ومرفوعه ( أي فالعامل وهو الفعل آخذ حظَّه من التقديم ولا التفات لكون المعطوففِ عليه مؤخّراً عن المعطوف ) ولو قلت : ضربت وزيداً عمراً كان أضعف ، لأنّ اتّصال المفعول بالفعل ليس في قوّة اتّصال الفاعل به ، ولكن لو قلت : مررت وزيد بعمرو ، لم يجز من جهة أنَّك لم تقدم العامل ، وهو الباء ، على حرف العطف . ومن تقديم المفعول به قول زيد :
جمعتَ وعيباً غِيبةً ونَمِيمَةً *** ثلاثَ خصال لستَ عنها بمُرْعوِيْ
لعن الإلهُ وزوجَها مَعَها *** هِنْدَ الهنود طَوِيلَةَ الفعل
ولا يجوز وعيباً جمعت غيبة ونميمة . وأمَّا قوله
فممَّا قرب مأخذه عن سيبويه ، ولكن الجماعة لم تتلقّ هذا البيت إلاّ على اعتقاد التَّقديم فيه ، ووافقه المرزوقي على ذلك ، وليس في كلامهما أن تقديم المعطوف في مثل ما حسُن تقديمه فيه خاص بالضرورة في الشعر ، فلذلك خرّجنا عليه هذا الوجه في الآية وهو من عطف الجمل ، على أن عطف الجمل أوسع من عطف المفردات لأنَّه عطف صوري .
ووقع في « مغني اللبيب » في حرف الواو أنّ تقديم معطوفها على المعطوف عليه ضرورة ، وسبقه إلى ذلك ابن السِّيد في شرح أبياتِ الجمل ، والتفتزاني في شرح المفتاح ، كما نقله عنه الدماميني في « تحفة الغريب » .
وجعل جمع من المفسّرين ضميري الغيبة في قوله : { ويأتوكم من فورهم } عائديْن إلى طائفة من المشركين ، بلغ المسلمين أنَّهم سيمدّون جيش العدوّ يوم بدر ، وهم كرز بن جابر المحاربي ، ومن معه ، فشقّ ذلك على المسلمين وخافوا ، فأنزل الله تعالى : { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم } الآية ، وعليه درج « الكشاف » ومتابعوه . فيكون معادُ الضّميرين غير مذكور في الكلام ، ولكنَّه معلوم للنَّاس الَّذين حضروا يوم بدر ، وحينئذ يكون { يأتوكم } معطوفاً على الشرط : أي إن صبرتم واتّقيتم وأتاكم كرز وأصحابه يعاونون المشركين عليكم يمددكم ربّكم بأكثر من ألف ومن ثلاثة آلاف بخمسة آلاف ، قالوا فبلغت كرزاً وأصحابه هزيمة المشركين يوم بدر فعدل عن إمدادهم فلم يمدّهم الله بالملائكة ، أي بالملائكة الزائدين على الألف . وقيل : لم يمدّهم بملائكة أصلاً ، والآثار تشهد بخلاف ذلك .
وذهب بعض المفسّرين الأوّلين : مثل مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، والزهري : إلى أن القول المحكي في قوله تعالى : { إذ تقول للمؤمنين } قول صادر يوم أحُد ، قالوا وعدهم الله بالمدد من الملائكة على شرط أن يصبروا ، فلمّا لم يصبروا واستَبَقُوا إلى طلب الغنيمة لم يمددهم الله ولا بملَك واحد ، وعلى هذا التفسير يكون { إذ تقول المؤمنين } بدلاً من { وإذ غَدَوْت } وحينئذ يتعيّن أن تكون جملة { ويأتوكم } مقدمة على المعطوفة هي عليها ، للوجه المتقدّم من تحقيق سرعة النَّصر ، ويكون القول في إعراب { ويأتوكم } على ما ذكرناه آنفاً من الوجهين .
ومعنى { من فورهم هذا } المبادرة السَّريعة ، فإنّ الفور المبادرة إلى الفعل ، وإضافة الفور إلى ضمير الآتين لإفادة شدّة اختصاص الفَور بهم ، أي شدّة اتّصافهم به حتَّى صار يعرف بأنَّه فورهم ، ومن هذا القبيل قولهم خرج من فوره . و ( من ) لابتداء الغاية .
والإشارة بقوله ( هذا ) إلى الفور تنزيلاً له منزلة المشاهد القريب ، وتلك كناية أو استعادة لكونه عاجلاً .
{ ومسوّمين } قرأه الجمهور بفتح الواو على صيغة اسم المفعول من سوّمه ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، ويعقوب بكسر الواو بصيغة اسم الفاعل . وهو مشتقّ من السُّومة بضم السين وهي العلامة مقلوب سمة لأنّ أصل سمة وسمة . وتطلق السومة على علامة يجعلها البطل لنفسه في الحرب من صوف أو ريش ملوّن ، يجعلها على رأسه أو على رأس فرسه ، يرمز بها إلى أنَّه لا يتّقي أن يعرفه أعداؤه ، فيسدّدوا إليه سهامهم ، أو يحملون عليه بسيوفهم ، فهو يرمز بها إلى أنَّه واثق بحمايته نفسه بشجاعته ، وصِدققِ لقائه ، وأنَّه لا يعبأ بغيره من العدوّ .
وتقدّم الكلام عليها في تفسير قوله تعالى : { والخيل المسومة } [ آل عمران : 14 ] في أوّل هذه السورة . وصيغة التفعيل والاستفعال تكثران في اشتقاق الأفعال من الأسماء الجامدة .
ووصف الملائكة بذلك كناية على كونهم شداداً .
وأحسب أنّ الأعداد المذكورة هنا مناسبة لجيش العدوّ لأنّ جيش العدوّ يوم بدر كان ألفاً فوعدهم الله بمدد ألف من الملائكة فلمَّا خشُوا أن يلحق بالعدوّ مدد من كُرْز المحاربي . وعدهم الله بثلاثة آلاف أي بجيش له قلب .
وميمنة وميسرة كلّ ركن منها ألف ، ولمَّا لم تنقشع خشيتهم من إمداد المشركين لأعدائهم وعدهم الله بخمسة آلاف ، وهو جيش عظيم له قلب وميمنة وميسرة ومقدّمة وساقة ، وذلك هو الخميس ، وهو أعظم تركيباً وجعل كُلّ ركن منه مساوياً لجيش العدوّ كلّه .