ويمضي السياق بالقصة ، فإذا نحن أمام مشهد جديد . المشهد الثاني عشر . مشهد موسى وسبعين من قومه مختارين للقاء ربه :
( واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا . فلما أخذتهم الرجفة قال : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي . أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء . أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا ، وأنت خير الغافرين . واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ، إنا هدنا إليك . قال : عذابي أصيب به من أشاء ، ورحمتي وسعت كل شيء ، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون . الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم . فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) . .
وتختلف الروايات في سبب هذا الميقات . وربما كان لإعلان التوبة ، وطلب المغفرة لبني إسرائيل مما وقعوا فيه من الكفر والخطيئة - وفي سورة البقرة أن التكفير الذي فرض على بني إسرائيل هو : أن يقتلوا أنفسهم ، فيقتل المطيع منهم من عصى ؛ وقد فعلوا حتى أذن لهم الله بالكف عن ذلك ؛ وقبل كفارتهم - وهؤلاء السبعون كانوا من شيوخهم ومن خيرتهم . أو كانوا هم خلاصتهم التي تمثلهم ، فصيغة العبارة : ( واختار موسى قومه سبعين رجلاً . . لميقاتنا ) . تجعلهم بدلاً من القوم جميعاً في الاختيار . .
ومع هذا فما الذي كان من هؤلاء المختارين ؟ لقد أخذتهم الرجفة فصعقوا . ذلك أنهم - كما ورد في السورة الأخرى طلبوا إلى موسى أن يروا الله جهرة ، ليصدقوه فيما جاءهم به من الفرائض في الألواح . . وهي شاهدة بطبيعة بني إسرائيل ، التي تشمل خيارهم وشرارهم ، ولا يتفاوتون فيها إلا بمقدار . وأعجب شيء أن يقولوها وهم في مقام التوبة والاستغفار !
فأما موسى - عليه السلام - فقد توجه الى ربه ، يتوسل اليه ، ويطلب المغفرة والرحمة ، ويعلن الخضوع والاعتراف بالقدرة :
( فلما أخذتهم الرجفة قال : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ) . .
فهو التسليم المطلق للقدرة المطلقة من قبل ومن بعد ، يقدمه موسى بين يدي دعائه لربه أن يكشف عن القوم غضبه ؛ وأن يرد عنهم فتنته ، وألا يهلكهم بفعلة السفهاء منهم :
( أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ ) . .
وقد جاء الرجاء بصيغة الاستفهام . زيادة في طلب استبعاد الهلاك . . أي : رب إنه لمستبعد على رحمتك أن تهلكنا بما فعل السفهاء منا .
( إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ) . .
يعلن موسى - عليه السلام - إدراكه لطبيعة ما يقع ؛ ومعرفته أنها الفتنة والابتلاء ؛ فما هو بغافل عن مشيئة ربه وفعله كالغافلين ! . وهذا هو الشأن في كل فتنة : أن يهدي الله بها من يدركون طبيعتها ويأخذونها على أنها ابتلاء من ربهم وامتحان يجتازونه صاحين عارفين . وأن يضل بها من لا يدركون هذه الحقيقة ومن يمرون بها غافلين ، ويخرجون منها ضالين . . وموسى - عليه السلام - يقرر هذا الأصل تمهيداً لطلب العون من الله على اجتياز الابتلاء :
وقوله تعالى : { واختار موسى قومه } الآية ، معنى هذه الآية أن موسى عليه السلام اختار من قومه هذه العدة ليذهب بهم إلى موضع عبادة وابتهال ودعاء ليكون منه ومنهم اعتذار إلى الله عز وجل من خطأ بني إسرائيل في عبادة العجل وطلب لكمال العفو عمن بقي منهم ، وروي عن علي بن أبي طالب أن اختيارهم إنما كان بسبب قول بني إسرائيل أن موسى قتل هارون حين ذهب معه ولم يرجع ، فاختار هؤلاء ليذهبوا فيكلمهم هارون بأنه مات بأجله ، وقوله : { لميقاتنا } يؤيد القول الأول وينافر هذا القول لأنها تقتضي أن ذلك كان عن توقيت من الله عز وجل وعدة في الوقت الموضع ، وتقدير الكلام : واختار موسى من قومه ، فلما انحذف الخافض تعدى الفعل فنصب ، وهذا كثير في كلام العرب .
واختلف العلماء في سبب { الرجفة } التي حلت بهم ، فقيل كانت عقوبة لهم على سكوتهم وإغضائهم على عبادة العجل ، وقيل : كانت على عبادتهم العجل بأنفسهم وخفي ذلك عن موسى في وقت الاختيار حتى أعلمه الله ، قاله السدي ، وقيل : كانت عقوبة لهم لأنهم لما دنوا وعلموا أن موسى يسمع كلام الله قالوا له : أرنا ربك فأخذتهم الرجفة ، وقيل : كانت عقوبة لتشططهم في الدعاء بأن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ولا تعطيه أحداً بعدناً ، فأخذتهم الرجفة ، وقيل : إنما أخذتهم لما سمعوا كلام هارون وهو ميت ، وذلك أن موسى وهارون ذهبا إلى التعبد أو نحوه فمات هارون فدفنه موسى وجاء فقالت له بنو إسرائيل : أين هارون ؟ فقال : مات ، فقالوا بل أنت قتلته لأنك حسدتنا على حسن خلقه وعشرته ، فاختار السبعين ليمضوا معه حتى يروا برهان ما قال لهم ، فلما وصلوا قال له موسى : يا هارون أقتلت أم مت ؟ فناداه من القبر بل مت ، فأخذت القوم الرجفة .
قال القاضي أبو محمد : وروي أنهم ماتوا في رجفتهم هذه ، ويحتمل أن كانت كالإغماء ونحوه ، و { الرجفة } الاهتزاز والتقلقل للهول العظيم ، فلما رأى موسى ذلك أسف عليه وعلم أن أمر بني إسرائيل سيتشعب عليه إذا لم يأت بالقوم فجعل يستعطف ربه أي رب لو أهلكتهم قبل هذه الحال إياي لكان أحق عليّ ، وهذا وقت هلاكهم فيه مفسد على مؤذٍ لي ، ثم استفهم على جهة الرغبة والتضرع والتذلل ، ويحتمل قوله : { رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي } أن يريد وقت إغضائهم على عبادة العجل اي وقت عبادتهم على القول بذلك وفي نفسه هو وقت قتله القبطي ، أي فأنت قد سترت وعفوت حينئذ فكيف الآن إذا رجوعي دونهم فساد لبني إسرائيل ، فمنحى الكلام على هذا محض استعطاف ، وعلى التأويل الأول منحاه الإدلاء بالحجة في صيغة استعطاف ، وإذا قلنا إن سبب «الرجفة » كان عبادة العجل كان الضمير في قوله : { اتهلكنا } له وللسبعين ، و { السفهاء } إشارة إلى العبدة من بني إسرائيل ، وكذلك إذا كان سببها قول بني إسرائيل له قتلت هارون ، وإذا كان سبب الرجفة طلبهم الرؤية وتشطههم في الدعاء أو عبادتهم بأنفسهم العجل فالضمير في قوله : { أتهلكنا } يريد به نفسه وبني إسرائيل ، أي بالتفرق والكفر والعصيان يكون هلاكهم ، ويكون قوله : { السفهاء } إشارة إلى السبعين ، وروي أن السبعين لم يكن فيهم من زاد على الأربعين ولا من قصر عن العشرين ، وروي عن علي بن أبي طالب أنهم أحيوا وجعلوا أنبياء كلهم ، وقالت فرقة : إن موسى عليه السلام لما أعلمه الله عز وجل أن السبعين عبدوا العجل تعجب وقال : { إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء } أي الأمور بيدك تفعل ما تريد ، وقيل : إن الله تعالى لما أعلم موسى بعبادة بني إسرائيل العجل وبصفته قال موسى : أي رب ومن أخاره ؟ قال أنا ، قال موسى : فأنت أضللتهم إن هي إلا فتنتك ويحتمل أن يشير بها إلى قولهم : أرنا الله إذ كانت فتنة من الله أوجبت الرجفة ، وفي هذه الآية رد على المعتزلة ، و { اغفر } معناه ستر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لميقاتنا}، يعني لميعادنا، فانطلق بهم، فتركهم في أصل الجبل، فلما نزل موسى إليهم، قالوا: {أرنا الله جهرة}، فأخذتهم الرجفة، يعني الموت عقوبة لما قالوا، وبقى موسى وحده يبكي، {فلما أخذتهم الرجفة قال رب} ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقد أهلكت خيارهم، رب {لو شئت أهلكتهم}، يعني أمتهم، {من قبل وإياي} معهم من قبل أن يصحبوني، {أتهلكنا} عقوبة {بما فعل السفهاء منا}، وظن موسى، عليه السلام، إنما عوقبوا باتخاذ بني إسرائيل العجل، فهم السفهاء، فقال موسى: {إن هي إلا فتنتك}، يعني ما هي إلا بلاؤك، {تضل بها} بالفتنة {من تشاء وتهدي} من الفتنة {من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: واختار موسى من قومه سبعين رجلاً للوقت والأجل الذي وعده الله أن يلقاه فيه بهم للتوبة مما كان من فعل سفهائهم في أمر العجل... فاختار موسى قومه سبعين رجلاً على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا، فلما أتوا ذلك المكان، قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة، فإنك قد كلمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا. فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: ربّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم، لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي...
وقد بيّنا معنى الرجفة فيما مضى بشواهدها، وأنها ما رجف بالقوم وأرعبهم وحرّكهم وأهلكهم بعد، فأماتهم أو أصعقهم...عن مجاهد: فَلَمّا أخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ ماتوا ثم أحياهم.
"أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتهْدِي مَنْ تَشاءُ أنْتَ وَلِيّنا فاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ".
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: أتهلك هؤلاء الذين أهلكتهم بما فعل السفهاء منا: أي بعبادة من عبد العجل. قالوا: وكان الله إنما أهلكهم لأنهم كانوا ممن يعبد العجل، وقال موسى ما قال ولا علم عنده بما كان منهم من ذلك... وقال آخرون: معنى ذلك: أن إهلاكك هؤلاء الذين أهلكتهم هلاك لمن وراءهم من بني إسرائيل إذا انصرفتُ إليهم، وليسوا معي، والسفهاء على هذا القول كانوا المهلكين الذين سألوا موسى أن يريهم ربهم... وقال آخرون...: أتؤاخذنا وليس منا رجل واحد ترك عبادتك ولا استبدل بك غيرك؟
وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال: إن موسى إنما حزن على هلاك السبعين بقوله: "أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا "وأنه إنما عنى بالسفهاء: عبدة العجل، وذلك أنه محال أن يكون موسى صلى الله عليه وسلم كان تخير من قومه لمسألة ربه ما أراه أن يسأل لهم إلا الأفضل فالأفضل منهم، ومحال أن يكون الأفضل كان عنده من أشرك في عبادة العجل واتخذه دون الله إلها.
قال: فإن قال قائل: فجائز أن يكون موسى عليه السلام كان معتقدا أن الله سبحانه يعاقب قوما بذنوب غيرهم، فيقول: أتهلكنا بذنوب من عبد العجل، ونحن من ذلك برآء؟ قيل: جائز أن يكون معنى الإهلاك: قبض الأرواح على غير وجه العقوبة، كما قال جلّ ثناؤه: إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ يعني: مات، فيقول: أتميتنا بما فعل السفهاء منا.
وأما قوله: "إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ "فإنه يقول جلّ ثناؤه: ما هذه الفعلة التي فعلها قومي من عبادتهم ما عبدوا دونك، إلا فتنة منك أصابتهم. ويعني بالفتنة: الابتلاء والاختبار. يقول: ابتليتهم بها ليتبين الذي يضلّ عن الحقّ بعبادته إياه والذي يهتدي بترك عبادته. وأضاف إضلالهم وهدايتهم إلى الله، إذ كان ما كان منهم من ذلك عن سبب منه جلّ ثناؤه... عن أبي العالية: "إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ" قال: بليتك...
وقوله: "أنْتَ وَلِيّنا" يقول: أنت ناصرنا. "فاغْفِرْ لَنا" يقول: فاستر علينا ذنوبنا بتركك عقابنا عليها. "وَارْحَمْنا": تعطّف علينا برحمتك. "وأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ" يقول: خير من صفح عن جُرم وستر على ذنب.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
وفي الكلام محذوف وتقديره: واختار موسى من قومه سبعين رجلاً. وفي قوله: {لمِيقَاتِنَا} قولان: أحدهما: أنه الميقات المذكور في سؤال الرؤية. والثاني أنه ميقات غير الأول وهو ميقات التوبة من عبادة العجل. {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ} وفيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها الزلزلة، قاله الكلبي. والثاني: أنه الموت. قال مجاهد: ماتوا ثم أحياهم... {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَل السُّفَهَاءُ مِنَّآ} فيه قولان: أحدهما: أنه سؤال استفهام خوفاً من أن يكون الله قد عمهم بانتقامه كما قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]. والثاني: أنه سؤال نفي، وتقديره: إنك لا تعذب إلاَّ مذنباً فكيف تهلكنا بما فعل السفهاء منا. فحكي أن الله أمات بالرجفة السبعين الذين اختارهم موسى من قومه، لا موت فناء ولكن موت ابتلاء ليثبت به من أطاع وينتقم به ممن عصى...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الاختيار هو: إرادة ما هو خير يقال: خيره بين أمرين فاختار أحدهما: والاختيار والإيثار بمعنى واحد... وقوله "أتهلكنا بما فعل السفهاء منا "معناه النفي، وإن كان بصورة الانكار... والمعنى: إنك لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا، فبهذا نسألك رفع المحنة بالإهلاك عنا. وقوله "إن هي إلا فتنتك" معناه: إن الرجفة إلا اختبارك وابتلاؤك ومحنتك أي تشديدك تشديد التعبد علينا بالصبر على ما أنزلته بنا من هذه الرجفة والصاعقة اللتين جعلتهما عقابا لمن سأل الرؤية وزجرا لهم ولغيرهم وقوله "تضل بها من تشاء" معناه تضل بترك الصبر على فتنتك وترك الرضا بها من تشاء عن نيل ثوابك ودخول جنتك، وتهدي بالرضا بها والصبر عليها من تشاء، وإنما نسب الضلال إلى الله لأنهم ضلوا عند أمره وامتحانه، كما أضيفت زيادة الرجس إلى السورة في قوله "فزادتهم رجسا إلى رجسهم" وإن كانوا هم الذين ازدادوا عندها. والمعنى تختبر بالمحنة من تشاء لينتقل صاحبه عن الضلالة، وتهدي من تشاء معناه تبصره بدلالة المحنة ليثبت صاحبها على الهداية من تشاء...
...واعلم أن قوله: {أنت ولينا} يفيد الحصر ومعناه أنه لا ولي لنا ولا ناصر ولا هادي إلا أنت،وقوله: {وأنت خير الغافرين} معناه أن كل من سواك فإنما يتجاوز عن الذنب إما طلبا للثناء الجميل أو للثواب الجزيل، أو دفعا للربقة الخسيسة عن القلب، وبالجملة فذلك الغفران يكون لطلب نفع أو لدفع ضرر، أما أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب عوض وغرض، بل لمحض الفضل والكرم، فوجب القطع بكونه {خير الغافرين} والله أعلم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله: {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ} أي: ابتلاؤك واختبارك وامتحانك. قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبو العالية، وربيع بن أنس، وغير واحد من علماء السلف والخلف. ولا معنى له غير ذلك؛ يقول: إن الأمرُ إلا أمرُك، وإن الحكمُ إلا لك، فما شئت كان، تضل من تشاء، وتهدي من تشاء، ولا هادي لمن أضللت، ولا مُضِل لمن هَدَيت، ولا مُعطِي لما مَنَعت، ولا مانع لما أعطيت، فالملك كله لك، والحكم كله لك، لك الخلق والأمر.
وقوله: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} الغَفْر هو: الستر، وترك المؤاخذة بالذنب، والرحمة إذا قرنت مع الغفر، يراد بها ألا يوقعه في مثله في المستقبل، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} أي: لا يغفر الذنوب إلا أنت،
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ} عرض للعفو السابق لاستجلاب العفو اللاحق يعني أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم ولم تهلكهم فارحمهم الآن كما رحمتهم من قبل جرياً على مقتضى كرمك وإنما قال: {وإياي} تسليماً منه وتواضعاً...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إن هي إلّا فتنتك تضلّ بها من تشاء وتهدي من تشاء} "إن "نافية والفتنة الاختيار والامتحان مطلقا أو بالأمور الشاقة والباء في "بها" للسببية، أي ما تلك الفعلة التي كانت سببا لأخذ الرجفة إياهم إلا محنتك وابتلاؤك الذي جعلته سببا لظهور استعداد الناس وما طويت عليه سرائرهم من ضلال وهداية، وما يستحقون عليه من عقوبة ومثوبة، وسنتك في جريان مشيئتك في خلقك بالعدل والحق، والنظام الحكيم في الخلق، تضل بمقتضاها من تشاء من عبادك ولست بظالم لهم في تقديرك، وتهدي من تشاء ولست بمحاب لهم في توفيقك، بل أمر مشيئتك دائر بين العدل والفضل، ولك الخلق والأمر.
{أنت وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} أي أنت المتولي لأمورنا، والقائم علينا بما تكتسب نفوسنا، فاغفر لنا ما تترتب عليه المؤاخذة والعقاب من مخالفة سنتك، أو التقصير فيما يجب من ذكرك وشكرك وعبادتك، بأن تستر ذلك علينا، وتجعله بعفوك كأنه لم يصدر عنا، وارحمنا برحمتك الخاصة، فوق ما شملت به الخلق كلهم من رحمتك العامة، وأنت خير الغافرين حلما وكرما وجودا، فلا يتعاظمك ذنب، ولا يعارض غفرانك ما يعارض غفران سواك من عجز أو ضعف أو هوى نفس- وما ذكر في المغفرة يدل على اعتبار مثله في الرحمة لدلالته عليه- أي وأنت خير الراحمين رحمة وأوسعهم فيها فضلا وإحسانا، فإن رحمة جميع الراحمين من خلقك، نفحة مفاضة على قلوبهم من رحمتك، حذف ذكر الرحمة استغناء عنه بذكر المغفرة فإن ترتيب التذييل في الثناء عليه تعالى على طلب مغفرته ورحمته معا، يقتضي أن يكون هذا الثناء بهما معا، فاكتفى بذكر الأولى لدلالتها على الثانية قطعا، فهو من الإيجاز المسمى في علم البديع بالاكتفاء.
وقد غفل عن هذا من قال من المفسرين أنه اكتفى بذكر المغفرة لأنها الأهم، ولم لم يكتف بذكر الرحمة لأنها أعم، ولأنها قد تستلزم المغفرة دون العكس، فإن معنى المغفرة سلبي وهو عدم المؤاخذة على الذنب، والرحمة فوق ذلك فهي إحسان إلى المذنب لا يستحقه إلا بعد المغفرة ولذلك يقدم ذكر المغفرة على ذكر الرحمة، لأن التخلية كما يقولون مقدمة على التحلية، فلا يليق خلع الحلل النفسية، إلا على الأبدان النظيفة، وقد قال موسى عليه السلام في دعائه لنفسه ولأخيه {رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك} الآية، وقال نوح عند توبته من سؤاله النجاة لولده الكافر {وإلّا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} [هود: 47] وعلمنا تعالى من دعائه في خاتمة سورة البقرة {واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا} [البقرة: 286] وقلما ذكر اسم الله {الغفور} في كتابه العزيز إلا مقرونا باسمه {الرحيم} ومن غير الأكثر قرنه بالشكور وبالحليم وبالودود ويقرب معناهن من معنى الرحيم، وورد قرنه بالعفو وبالعزيز لاقتضاء المقام ذلك.
ودعاء موسى عليه السلام هنا لنفسه مع قومه بضمير الجمع قد اقتضاه مقام المناجاة والمعرفة الكاملة، ومن كان أعرف بالله وأكمل استحضارا لعظمته، كان أشد شعورا بالحاجة إلى مغفرته ورحمته، وإن كان ما يستغفر منه تقصيرا صغيرا بالنسبة إلى ذنوب الغافلين والجاهلين، أو من باب: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فإن كان هذا الدعاء عقب طلب الرؤية، فوجه طلبه للمغفرة والرحمة لنفسه أظهر، لأن طلبه ذاك كان ذنبا له، صرح بالتوبة منه، وإن كان عقب طلب السبعين رؤية الله جهرة فالأمر أظهر، لأن الذنب مشترك، وإن كان على أثر حادثة عبادة العجل، فقد علم ما كان من شدته فيها على أخيه هارون عليهما السلام، وأنه طلب لكل من نفسه وأخيه المغفرة على الانفراد، والرحمة بالاشتراك، وإن كان عقب تمرد بني إسرائيل الذي عاقبهم الله تعالى عليه بإهلاك بعضهم وتهديدهم بالاستئصال، فإدخال نفسه معهم من باب الاستعطاف، إذ لم ينقل عنه فيه شيء مما يعد من ذنوب الأنبياء عليهم السلام.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والاختيار: تمييز المرغوب من بين ما هو مخلوط من مرغوب وضده، وهو زنة افتعال من الخير صيغ الفعل من غير دلالة على مطاوعة لفعل (خار). {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} يؤذن بأنه يعني به عبادتهم العجل، وحضورَهم ذلك. وسكوتهم، وهي المعنيُ بقوله: {إن هي إلا فتنتك} وقد خشي موسى أن تلك الرجفة مقدمة عذاب كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يخشى الريح أن يكون مبدأ عذاب. والحاصل أن موضع العبرة في هذه القصة هو التوقي من غضب الله، وخوف بطشه، ومقامُ الرسل من الخشية، ودعاء موسى، إلخ {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} فالسفهاء هم الذين عبدوا العجل وسمي شركهم سفهاً؛ لأنه شرك مشوب بخسة عقل إذ جعلوا صورة صنعوها بأنفسهم إلاهاً لهم.
والخبر في قوله: {إن هي إلا فتنتك} الآية: مستعمل في إنشاء التمجيد بسعة العلم والقدرة، والتعريض بطلب استبقائهم وهدايتهم، وليس مستعملاً في الاعتذار لقومه بقرينة قوله: {تضل بها من تشاء} الذي هو في موضع الحال من {فتنتك} فالإضلال بها حال من أحْوالها.
ثم عرَّض بطلب الهداية لهم بقوله: {وتهدي من تشاء} والمجرور في قوله {بها} متعلق بفعل {تضل} وحده ولا يتنازعه معه فعل {تهدي} لأن الفتنة لا تكون سبب هداية بقرينة تسميتها فتنة، فمن قدر في التفسير: وتهدي بها أو نحوه، فقد غفل.
والباء: إما للملابسة، أي تضل من تشاء ملابساً لها، وإما للسببية، أي تضل بسبب تلك الفتنة، فهي من جهة فتنة، ومن جهة سبب ضلال.
والفتنة ما يقع به اضطراب الأحوال، ومرجها، وتشتت البال، وقد مضى تفسيرها عند قوله تعالى: {وما يعلّمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة} في سورة البقرة (102). وقوله: {وحسبوا أن لا تكون فتنة} في سورة العقود (71) وقوله: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} في سورة الأنعام (23).
والقصد من جملة: {أنت ولينا} الاعتراف بالانقطاع لعبادة الله تعالى، تمهيداً لمطلب المغفرة والرحمة، لأن شأن الولي أن يرحم مولاه وينصره.
والولي: الذي له وَلاية على أحد، والوَلايةِ حلف أو عتق يقتضي النصرة والإعانة، فإن كان من جانبين متكافئين فكلا المتعاقدين يقال له مَولى، وإن كان أحد الجانبين أقوى قيل للقوي (ولي) وللضعيف (مَولى) وإذ قد كانت الولاية غير قابلة للتعدد، لأن المرء لا يتولى غيرَ مواليه، كان قوله: {أنتَ ولينا} مقتضياً عدم الانتصار بغير الله. وفي صريحه صيغة قصر.
والتفريع عن الولاية في قوله: {فاغفر لنا} تفريع كلام على كلام وليس المراد أن الولي يتعين عليه الغفران.
وقدم المغفرة على الرحمة لأن المغفرة سبب لرحمات كثيرة، فإن المغفرة تنهية لغضب الله المترتب على الذنب، فإذا انتهى الغضب تسنى أن يخلفه الرضا. والرضا يقتضي الإحسان.
و {وخيرُ الغافرين} الذي يغفر كثيراً، وقد تقدم قريب منه في قوله تعالى: {بل الله مولاكم وهو خير الناصرين} في سورة آل عمران (150).
وإنما عطف جملة: {وأنت خير الغافرين} لأنه خبر في معنى طلب المغفرة العظيمة، فعطف على الدعاء، كانه قيل: فاغفر لنا وارحمنا واغفر لنا جميع ذنوبنا، لأن الزيادة في المغفرة من آثار الرحمة...