في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱسۡتَفۡزِزۡ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتَ مِنۡهُم بِصَوۡتِكَ وَأَجۡلِبۡ عَلَيۡهِم بِخَيۡلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِ وَعِدۡهُمۡۚ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا} (64)

58

( واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ) .

وهو تجسيم لوسائل الغواية والإحاطة ، والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول . فهي المعركة الصاخبة ، تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات . يرسل فيها الصوت فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة ، أو يستدرجهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة . فإذا استدرجوا إلى العراء أخذتهم الخيل ، وأحاطت بهم الرجال !

( وشاركهم في الأموال والأولاد ) . .

وهذه الشركة تتمثل في أوهام الوثنية الجاهلية ، إذ كانوا يجعلون في أموالهم نصيبا للآلهة المدعاة - فهي للشيطان - وفي أولادهم نذورا للآلهة أو عبيدا لها - فهي للشيطان - كعبد اللات وعبد مناة . وأحيانا كانوا يجعلونها للشيطان رأسا كعبد الحارث !

كما تتمثل في كل مال يجبى من حرام ، أو يتصرف فيه بغير حق ، أو ينفق في إثم . وفي كل ولد يجيء من حرام . ففيه شركة للشيطان .

والتعبير يصور في عمومه شركة تقوم بين إبليس وأتباعه تشمل الأموال والأولاد وهما قوام الحياة !

وإبليس مأذون في أن يستخدم وسائله كلها ، ومنها الوعود المغرية المخادعة : ( وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص . والوعد بالغنى من الأسباب الحرام . والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل القذرة والأساليب الخسيسة . . .

ولعل أشد الوعود إغراء الوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة ؛ وهي الثغرة التي يدخل منها الشيطان على كثير من القلوب التي يعز عليه غزوها من ناحية المجاهرة بالمعصية والمكابرة . فيتلطف حينئذ إلى تلك النفوس المتحرجة ، ويزين لها الخطيئة وهو يلوح لها بسعة الرحمة الإلهية وشمول العفو والمغفرة !

اذهب مأذونا في إغواء من يجنحون إليك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱسۡتَفۡزِزۡ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتَ مِنۡهُم بِصَوۡتِكَ وَأَجۡلِبۡ عَلَيۡهِم بِخَيۡلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِ وَعِدۡهُمۡۚ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا} (64)

{ واستفزز } معناه استخف واخدع حتى يقع في إرادتك ، تقول استفزني فلان في كذا إذا خدعك حتى تقع في أمر أراده ، ومن الخفة قيل لولد البقرة فز ومثله قول زهير :

كما استغاث بسيىء فز غيطلة . . . خاف العيون فلم ينظر به الحشك{[7624]}

و «الصوت » هنا : هو الغناء والمزامير والملاهي ، لأنها أصوات كلها مختصة بالمعاصي ، فهي مضافة إلى { الشيطان } ، قاله مجاهد ، وقيل معناه : بدعائك إياهم إلى طاعتك ، قال ابن عباس : صوته ، كل داع إلى معصية الله ، والصواب أن يكون الصوت يعم جميع ذلك . وقوله { وأجلب } أي هول ؛ والجلبة : الصوت الكثير المختلط الهائل ، وقرأ الحسن : «واجلُب » بوصل الألف وضم اللام . وقوله { بخيلك ورجلك } قيل هذا مجاز واستعارة ، بمعنى : اسع سعيك ، وابلغ جهدك ، وقيل معناه : أن له من الجن خيلاً ورجلاً ، قاله قتادة ، وقيل المراد : فرسان الناس ورجالتهم ، المتصرفون في الباطل ، فإنهم كلهم أعوان إبليس على غيرهم ، قاله مجاهد وقرأ الجمهور «ورجْلك » بسكون الجيم ، وهو جمع راجل ، كتاجر وتجر ، وصاحب وصحب ، وشارب وشرب ، وقرأ حفص عن عاصم : «ورجِلك » بكسر الجيم على وزن فعل ، وكذلك قرأ الحسن وأبو عمرو بخلاف عنه ، وهي صفة ؛ تقول فلان يمشي رجلاً ، غير راكب ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]

أنا أقاتل عن ديني على فرسي . . . ولا كذا رجلاً إلا بأصحابي{[7625]}

وقرأ قتادة وعكرمة : «ورجالك » . { وشاركهم في الأموال } عام : لكل معصية يصنعها الناس بالمال ، فإن ذلك المصرف في المعصية ، هو خط إبليس ، فمن ذلك البحائر وشبهها ، ومن ذلك مهر البغي ، وثمن الخمر ، وحلوان الكاهن ، والربا ، وغير ذلك مما يوجد في الناس دأباً . وقوله { والأولاد } عام لكل ما يصنع في أمر الذرية من المعاصي فمن ذلك الإيلاد بالزنا ، ومن ذلك تسميتهم عبد شمس ، وعبد الجدي ، وأبا الكويفر ، وكل اسم مكروه ومن ذلك الوأد الذي كانت العرب تفعله ، ومن ذلك صنعهم في أديان الكفر ، وغير هذا ، وما أدخل النقاش من وطء الجن وأنه تحبل المرأة من الإنس فضعيف كله{[7626]} . وقوله { وعدهم } أي منّهم بما لا يتم لهم ، وبأنهم غير مبعوثين ، فهذه مشاركة في النفوس ، ثم أخبر الله تعالى أنه يعدهم { غروراً } منه ، لأنه لا يغني عنهم شيئاً .


[7624]:البيت من قصيدة قالها زهير لما أغار الحارث بن ورقاء الصيداوي - من بني أسد – على بني عبد الله بن غطفان، فغنم واستاق إبل زهير وراعيه يسارا، فقال زهير القصيدة يطالبه برد يسار ويهدده بالهجاء القبيح الفاحش. والسيء: ما يكون في الضرع من اللبن قبل نزول الدرة، والفز: ولد البقرة الوحشية، والغيطلة: البقرة، وينظر: ينظر. والحشك: دفع الدرة وامتلاؤها. وقيل: هو سرعة تجمع اللبن في الضرع. قال في اللسان (حشك): "الحشك: اسم للدرة المجتمعة، وقيل: إن الشاعر أراد الحشك فحرك للضرورة، أي: لم تنظر به أمه حشوك الدرة". أي: أعجلته بالسيء ولم تنتظر امتلاء ضرعها باللبن.
[7625]:البيت في اللسان (رجل)، وقد ذكره مع بيت بعده، وأطال في توضيح المعنى نقلا عن علماء اللغة، قال: "وقد يأتي رجل بمعنى راجل، قال الزبرقان بن بدر: آليت لله حجا حافيا رجلا *** إن جاوز النخل يمشي وهو مندفع ومثله ليحيى بن وائل، وأدرك قطري بن الفجاءة الخارجي أحد بني مازن حارثي: أما أقاتل عن ديني على فرس ***ولا كذا رجلا إلا بأصــــحـــــــــــاب؟ لقد لقيت إذا شرا وأدركنــــي *** ما كنت أرغم في جسمــي من العاب قال أبو حاتم: (أما) مخفف الميم مفتوح الألف، وقوله: (رجلا) أي: راجلا، كما تقول العرب: جاءنا فلان حافيا رجلا، أي: راجلا، كأنه قال: أما أقاتل فارسا ولا راجلا إلا ومعي أصحابي، لقد لقيت إذا شرا إن لم أقاتل وحدي. وأبو زيد مثله، وزاد: ولا كذا أقاتل راجلا، فقال: إنه خرج يقاتل السلطان، فقيل له: أتخرج راجلا تقاتل؟ فقال البيت، وقال ابن الأعرابي: قوله: (ولا كذا راجلا) أي: ما ترى رجلا كذا، وقال المفضل: (أما) خفيفة بمنزلة (ألا) و (ألا) تنبيه يكون بعدها أمر أو نهي أو إخبار، فالذي بعد (أما) هنا إخبار، كأنه قال: أما أقاتل فارسا وراجلا؟ وقال أبو علي في الحجة بعد أن نقل عن أبي زيد ما تقدم: فرجل – على ما حكاه أبو زيد – صفة، ومثله: ندس وفطن وحذر وأحرف نحوها، ومعنى البيت: كأنه يقول: اعملوا أني أقاتل عن ديني وعن حسبي، وليس تحتي فرس ولا معي أصحاب" اهـ . (اللسان – رجل).
[7626]:العلم الحديث لا يقر مسألة التزاوج بين الإنس والجن.