في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا} (19)

وفجأة تدب فيهم الحياة . فلننظر ولنسمع :

( وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم . قال قائل منهم : كم لبثتم ? قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم . قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ، فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة ، فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا . إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ، ولن تفلحوا إذن أبدا ) . .

إن السياق يحتفظ بالمفاجأة في عرض القصة ، فيعرض هذا المشهد ، والفتية يستيقظون وهم لا يعرفون كم لبثوا منذ أن أدركهم النعاس . . إنهم يفركون أعينهم ، ويلتفت أحدهم إلى الآخرين فيسأل : كم لبثتم ? كما يسأل من يستيقظ من نوم طويل . ولا بد أنه كان يحس بآثار نوم طويل . ( قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ) !

ثم رأوا أن يتركوا هذه المسألة التي لا طائل وراء البحث فيها ، ويدعو أمرها لله - شأن المؤمن في كل ما يعرض له مما يجهله - وأن يأخذوا في شأن عملي . فهم جائعون . ولديهم نقود فضية خرجوا بها من المدينة : ( قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ، فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة ، فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه ) . . أي فليختر أطيب طعام في المدينة فليأتكم بشيء منه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا} (19)

الإشارة بذلك إلى الأمر الذي ذكر الله في جهتهم ، والعبرة التي فعلها فيهم ، و «البعث » التحريك عن سكون ، واللام في قوله { ليتساءلوا } لام الصيرورة ، لأن بعثهم لم يكن لنفس تساؤلهم ، وقول القائل { كم } لبثتم يقتضي أنه هجس في خاطره طول نومهم ، واستشعر أن أمرهم خرج عن العادة بعض الخروج ، وظاهر أمرهم أنهم انتبهوا في حال من الوقت والهواء الزمني ، لا تباين التي ناموا فيها ، وأما أن يجدد الأمر جداً فبعيد ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم «بورِقكم » بكسر الراء وقرأ أبو عمرو وحده وأبو بكر عن عاصم «بورْقكم » بسكون الراء وهما لغتان ، وحكى الزجاج قراءة «بوِرْقكم » بكسر الواو وسكون الراء دون إدغام ، وروي عن أبي عمرو الإدغام ، وإنما هو إخفاء ، لأن الإدغام مع سكون الراء متعذر ، وأدغم ابن محيصن القاف في الكاف قال أبو حاتم : وذلك إنما يجوز مع تحريك الراء ، وقرأ علي بن أبي طالب «بوارقكم » ، اسم جمع كالحامل والباقر ، وقرأ أبو رجاء ، «بورقكم » بكسر الواو والراء والإدغام ، ويروى أنهم انتبهوا جياعاً ، وأن المبعوث هو تلميخا ، وروي أنهم صلوا كأنما ناموا ليلة واحدة ، وبعثوا تلميخا في صبيحتها ، وروي أن باب الكهف انهدم بناء الكفار منه بطول السنين ، وروي أن راعياً هدمه ليدخل فيه غنمه ، فأخذ تلميخاً ثياباً رثة منكرة ولبسها ، وخرج من الكهف ، فأنكر ذلك البناء المهدوم إذ لم يعرفه ، ثم مشى فجعل ينكر الطريق والمعالم ويتحير ، وهو في ذلك لا يشعر شعوراً تاماً ، بل يكذب ظنه فيما تغير عنده حتى بلغ باب المدينة ، فرأى على بابها أمارة الإسلام ، فزادت حيرته وقال كيف هذا بلد دقيوس ، وبالأمس كنا معه تحت ما كنا ، فنهض إلى باب آخر فرأى نحواً من ذلك ، حتى مشى الأبواب كلها ، فزادت حيرته ، ولم يميز بشراً ، وسمع الناس يقسمون باسم عيسى ، فاستراب بنفسه وظن أنه جن ، أو انفسد عقله ، فبقي حيران يدعو الله تعالى ، ثم نهض إلى بائع الطعام الذي أراد شراءه فقال يا عبد الله بعني من طعامك بهذه الورق ، فدفع إليه دراهم كأخفاف الربع{[7772]} فيما ذكر ، فعجب لها البياع ، ودفعها إلى آخر بعجبه ، وتعاطاها الناس وقالوا له هذه دراهم عهد فلان الملك ، من أين أنت ، وكيف وجدت هذا الكنز ؟ فجعل يبهت ويعجب ، وقد كان بالبلد مشهوراً هو وبيته ، فقال : ما أعرف غير أني وأصحابي خرجنا بالأمس من هذه المدينة فقال الناس هذا مجنون ، اذهبوا به إلى الملك ، ففزع عند ذلك فذهب به حتى جيء به الملك ، فلما لم ير دقيوس الكافر تأنس ، وكان ذلك الملك مؤمناً فاضلاً يسمى ببدوسيس فقال له الملك أين وجدت هذا الكنز ؟ فقال له إنما خرجت أنا وأصحابي أمس من هذه المدينة فأوينا إلى الكهف الذي في جبل الجلوس ، فلما سمع الملك ذلك قال في بعض ما روي : لعل الله قد بعث لكم أيها الناس آية فلنسر إلى الكهف معه حتى نرى أصحابه ، فسار وروي أنه أو بعض جلسائه قال : هؤلاء هم الفتية الذين أرخ أمرهم على عهد دقيوس الملك ، وكتب على لوح النحاس بباب المدينة ، فسار الملك إليهم ، وسار الناس معه ، فلما انتهوا إلى الكهف قال تمليخا : أدخل عليهم لئلا يرعبوا ، فدخل عليهم ، فأعلمهم بالأمر ، وأن الأمة أمة إسلام ، فروي أنهم سُرُّوا وخرجوا إلى الملك ، وعظموه وعظمهم ، ثم رجعوا إلى كهفهم ، وأكثر الروايات على أنهم ماتوا حيث حدثهم تمليخا ، فانتظرهم الناس فلما أبطأ خروجهم ، دخل الناس إليهم فرعب كل من دخل ، ثم أقدموا فوجدوهم موتى ، فتنازعوا بحسب ما يأتي في تفسير الآية التي بعد هذه ، وفي هذا القصص من اختلاف الروايات والألفاظ ما تضيق به الصحف ، فاختصرته ، وذكرت المهم الذي به تتفسر ألفاظ هذه الآية ، واعتمدت الأصح ، والله المعين برحمته ، وفي هذه البعثة بالورق الوكالة وصحتها ، وقد وكل علي بن أبي طالب أخاه عقيلاً عند عثمان رضي الله عنهم{[7773]} ، وقرأ الجمهور «فلْينظر » بسكون لام الأمر ، وقرأ الحسن «فلِينظر » بكسرها ، و { أزكى } معناه أكثر فيما ذكر عكرمة ، وقال قتادة معناه خير ، وقال مقاتل : المراد أطيب ، وقال ابن جبير : المراد أحل .

قال أبو القاضي أبو محمد : وهو من جهة ذبائح الكفرة وغير ذلك فروي أنه أراد شراء زبيب ، وقيل بل شراء تمر ، وقوله { وليتلطف } أي في اختفائه وتحيله ، وقرأ الحسن «ولِيتلطف » بكسر اللام .


[7772]:الربع: الفصيل ينتج في الربيع، وهو أول النتاج – والفصيل هو ولد الناقة أو البقرة بعد فطامه وفصله عن أمه.
[7773]:قال بعض العلماء: في هذه الآية جواز الشركة لأن الورق كان لهم جميعا، وجواز الوكالة لأنهم بعثوا من وكلوه بالشراء، وجواز خلط الطعام وأكل الرفقاء، وإن كان بعضهم أكثر أكلا من بعض، ومثله في ذلك قوله تعالى: {وإن تخالطوهم فإخوانكم}.