في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (223)

221

وفي هذا الظل يصور لونا من الوان العلاقة الزوجية يناسبه ويتسق مع خطوطه :

( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) . .

وفي هذا التعبير الدقيق ما فيه من إشارات إلى طبيعة تلك العلاقة في هذا الجانب ، وإلى أهدافها واتجاهاتها . نعم ! إن هذا الجانب لا يستغرق سائر العلاقات بين الزوج وزوجه . وقد جاء وصفها وذكرها في مواضع أخرى مناسبة للسياق في تلك المواضع . كقوله تعالى : ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) . . وقوله : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) . . فكل من هذه التعبيرات يصور جانبا من جوانب تلك العلاقة العميقة الكبيرة في موضعه المناسب . أما مناسبة السياق هنا فيتسق معها التعبير بالحرث . لأنها مناسبة إخصاب وتوالد ونماء . وما دام حرثا فأتوه بالطريقة التي تشاءون . ولكن في موضع الإخصاب الذي يحقق غاية الحرث :

( فأتوا حرثكم أنى شئتم ) . .

وفي الوقت ذاته تذكروا الغاية والهدف ، واتجهوا إلى الله فيه بالعبادة والتقوى ؛ فيكون عملا صالحا تقدمونه لأنفسكم . واستيقنوا من لقاء الله ، الذي يجزيكم بما قدمتم :

( وقدموا لأنفسكم . واتقوا الله . واعلموا أنكم ملاقوه ) . .

ثم يختم الآية بتبشير المؤمنين بالحسنى عند لقاء الله ، وفي هذا الذي يقدمونه من الحرث ، فكل عمل للمؤمن خير ، وهو يتجه فيه إلى الله :

( وبشر المؤمنين ) . .

هنا نطلع على سماحة الإسلام ، الذي يقبل الإنسان كما هو ، بميوله وضروراته ، لا يحاول أن يحطم فطرته باسم التسامي والتطهر ؛ ولا يحاول أن يستقذر ضروراته التي لا يد له فيها ؛ إنما هو مكلف إياها في الحقيقة لحساب الحياة وامتدادها ونمائها ! إنما يحاول فقط أن يقرر إنسانيته ويرفعها ، ويصله بالله وهو يلبي دوافع الجسد . يحاول أن يخلط دوافع الجسد بمشاعر إنسانية أولا ، وبمشاعر دينية أخيرا ؛ فيربط بين نزوة الجسد العارضة وغايات الإنسانية الدائمة ورفرفة الوجدان الديني اللطيف ؛ ويمزج بينها جميعا في لحظة واحدة ، وحركة واحدة ، واتجاه واحد ، ذلك المزج القائم في كيان الإنسان ذاته ، خليفة الله في أرضه ، المستحق لهذه الخلافة بما ركب في طبيعته من قوى وبما أودع في كيانه من طاقات . . وهذا المنهج في معاملة الإنسان هو الذي يلاحظ الفطرة كلها لأنه من صنع خالق هذه الفطرة . وكل منهج آخر يخالف عنه في قليل أو كثير يصطدم بالفطرة فيخفق ، ويشقى الإنسان فردا وجماعة . والله يعلم وأنتم لا تعلمون . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (223)

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 223 )

وقوله تعالى : { نساؤكم حرث لكم } الآية( {[2119]} ) ، قال جابر بن عبد الله والربيع : سببها أن اليهود قالت : إن الرجل إذا أتى المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول ، وعابت على العرب ذلك ، فنزلت الآية تتضمن الرد على قولهم( {[2120]} ) ، وقالت أم سلمة وغيرها : سببها أن قريشاً كانوا يأتون النساء في الفرج على هيئات مختلفة ، فلما قدموا المدينة وتزوجوا أنصاريات أرادوا ذلك ، فلم ترده نساء المدينة إذ لم تكن عادة رجالهم إلا الإتيان على هيئة واحدة وهي الانبطاح ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، وانتشر كلام الناس في ذلك ، فنزلت الآية مبيحة الهيئات كلها إذا كان الوطء في موضع الحرث ، و { حرث } تشبيه ، لأنهنّ مزدرع الذرية ، فلفظة «الحرث » تعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة ، إذ هو المزدرع( {[2121]} ) ، وقوله { أنى شئتم } معناه عند جمهور العلماء من صحابة وتابعين وائمة : من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة وعلى جنب ، و { أنى } إنما تجيء سؤالاً أو إخباراً عن أمر له جهات ، فهي أعم في اللغة من كيف ومن أين ومن متى ، هذا هو الاستعمال العربي( {[2122]} ) ، وقد فسر الناس { أنّى } في هذه الآية بهذه الألفاظ ، وفسرها سيبويه ب «كيف » ومن أين باجتماعهما ، وذهبت فرقة ممن فسرها ب «أين » إلى أن الوطء في الدبر جائز ، روي ذلك عن عبد الله بن عمر( {[2123]} ) ، وروي عنه خلافه وتكفير من فعله ، وهذا هو اللائق به ، ورويت الإباحة أيضاً عن ابن أبي مليكة ومحمد بن المنكدر ، ورواها مالك عن يزيد بن رومان عن سالم عن ابن عمر ، وروي عن مالك شيء في نحوه ، وهو الذي وقع في العتبية ، وقد كذب ذلك على مالك ، وروى بعضهم أن رجلاً فعل ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم الناس فيه ، فنزلت هذه الآية .

قال القاضي أبو محمد : وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصنف النسائي وفي غيره أنه قال : «إتيان النساء في أدبارهن حرام » ، وورد عنه فيه أنه قال : «ملعون من أتى امرأة في دبرها »( {[2124]} ) ، وورد عنه أنه قال : «من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على قلب محمد »( {[2125]} ) ، وهذا هو الحق المتبع ، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه ، والله المرشد لا رب غيره( {[2126]} ) .

وقال السدي : معنى قوله تعالى : { وقدموا لأنفسكم } أي الأجر في تجنب ما نهيتم عنه وامتثال ما أمرتم به ، وقال ابن عباس : «هي إشارة إلى ذكر الله على الجماع » ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال : اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فقضي بينهما ولد لم يضره »( {[2127]} ) ، وقيل : معنى { قدموا لأنفسكم } طلب الولد ، { واتقوا الله } تحذير ، { واعلموا أنكم ملاقوه } خبر يقتضي المبالغة في التحذير ، أي فهو مجازيكم على البر والإثم( {[2128]} ) ، { وبشر المؤمنين } تأنيس لفاعلي البر ومتبعي سنن الهدى .


[2119]:- مجاز على التشبيه بالمحارث فشبهت النطفة التي تلقى في أرحامهن للاستيلاد بالبذور التي تلقى في المحارث للاستنبات. وقوله: [أنّى شئتم]، أي من أي جهة شئتم بعد أن يكون المأتي واحدا. ولهذا قيل: الحرث موضع النبت.
[2120]:- روى قول اليهود هذا الشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر بن عبد الله.
[2121]:- تأتي (ازْدَرَع) بمعنى زرع، واحترث.
[2122]:- أي أنها تأتي لهذه المعاني الثلاثة، فتكون – ظرفا مكانيا بمعنى (أين) نحو: [يا مريم أنى لك هذا] أي من أين لك هذا ؟ وظرفا زمانيا بمعنى (متى) نحو: أنى جئت، أي متى جئت – واستفهامية بمعنى (كيف) نحو: [أنى يحيي هذه الله بعد موتها] أي كيف ؟ وهي في الآية لذلك كله.
[2123]:- وإنما نزلت الآية رخصة فيه، خرجه البخاري وغيره، وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري، وروي عنه خلاف ذلك وهو اللائق بمقامه رضي الله عنه، وأما ابن عباس فلم يرو عنه إلا التحريم.
[2124]:- رواه هو وما بعده أصحاب السنن: الترمذي والنسائي وأبو داود.
[2125]:- رواه أصحاب السنن، والإمام أحمد في مسنده، كما في الجامع الصغير بلفظ: (من أتى امرأة في دبرها فقد برئ مما أنزل على محمد. وأشد من هذا من أتى ذكرا في دبره، ولعل المراد الزجر والتغليظ لا حقيقة الكفر الذي هو ضد الإيمان. والله أعلم.
[2126]:- والغالب عدم صحة ما يروى من الإباحة في هذه النازلة، وإنما هو شيء مدسوس من أصحاب الأغراض والشهوات، وأيا ما يكون صح أو لم يصح فلا ينبغي للإنسان أن يعرج على مثل هذا، والآية الكريمة ظاهرة في المنع، ويكفي أنه عمل لوطي، وكلام ابن عطية يوحي بهذه المعاني.
[2127]:- (لو) للتمني بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى لهم ذلك لينتفي عنهم ضرر الشيطان، والحديث أخرجه الشيخان، وأصحاب السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[2128]:- الضمير في قوله: [مُلاقُوه] – يجوز أن يعود على الله تعالى – أو على المفعول المحذوف الذي لقوله: (وقدِّموا) – وهو في الحالية على تقدير حذف مضاف – أي: ملاقو جزاءه – ويجوز أن يعود على الجزاء الدال عليه معمول (قدموا) المحذوف، وفي كل هذه التقديرات ردّ على من ينكر العبث – قاله (ح) في البحر المحيط 2- 172.