ولم يكن بد من التطهير القاسي ؛ فهذه الطبيعة المنهارة الخاوية لا تقومها إلا كفارة صارمة ، وتأديب عنيف . عنيف في طريقته وفي حقيقته :
( وإذ قال موسى لقومه : يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ، فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم . ذلكم خير لكم عند بارئكم ) . .
أقتلوا أنفسكم . ليقتل الطائع منكم العاصي . ليطهره ويطهر نفسه . . هكذا وردت الروايات عن تلك الكفارة العنيفة . . وإنه لتكليف مرهق شاق ، أن يقتل الأخ أخاه ، فكأنما يقتل نفسه برضاه . ولكنه كذلك كان تربية لتلك الطبيعة المنهارة الخوارة ، التي لا تتماسك عن شر ، ولا تتناهى عن نكر . ولو تناهوا عن المنكر في غيبة نبيهم ما عبدوا العجل . وإذ لم يتناهوا بالكلام فليتناهوا بالحسام ؛ وليؤدوا الضريبة الفادحة الثقيلة التي تنفعهم وتربيهم !
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 54 )
هذا القول من موسى صلى الله عليه وسلم كان بأمر من الله تعالى ، وحذفت الياء في «يا قومي » لأن النداء موضع حذف وتخفيف ، والضمير في «اتخاذكم » في موضع خفض على اللفظ ، وفي موضع رفع بالمعنى ، «العجل » لفظة عربية ، اسم لولد البقرة .
وقال قوم : سمي عجلاً لأنه استعجل قبل مجيء موسى عليه السلام .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وليس هذا القول بشيء( {[608]} ) .
واختلف هل بقي العجل من ذهب ؟ قال ذلك الجمهور وقال الحسن بن أبي الحسن : صار لحماً ودماً ، والأول أصح .
و «توبوا » : معناه ارجعوا عن المعصية إلى الطاعة .
وقرأ الجمهور : «بارئِكم » بإظهار الهمزة وكسرها .
وقرأ أبو عمرو : «بارئْكم » بإسكان الهمزة .
وروي عن سيبويه اختلاس الحركة وهو أحسن ، وهذا التسكين يحسن في توالي الحركات .
وقال المبرد : لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب ، وقرءاة أبي عمرو «بارئكم » لحن( {[609]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : وقد روي عن العرب التسكين في حرف الأعراب ، قال الشاعر : [ الرجز ]
إذا اعوججن قلت صاحب قوم( {[610]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فاليوم أشرب غير مستحقب . . . إثماً من الله ولا واغل( {[611]} )
قالت سليمى اشتر لنا سويقا( {[612]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وقد بدا هَنْكِ مِن المِئْزَرِ( {[613]} )
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ونهر تيري فما تعرفْكُمُ العربُ( {[614]} )
وقال وضاح اليمن( {[615]} ) : [ الرجز ]
إنما شعري شهد *** قد خلط بجلجلان
ومن أنكر التسكين في حرف الإعراب فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علماً للإعراب .
قال أبو علي : وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات .
وقرأ الزهري : «باريكم » بكسر الياء من غير همز( {[616]} ) ، ورويت عن نافع .
وقرأ قتادة : «فاقتالوا أنفسكم » : وقال : «هي من الاستقالة » .
قال أبو الفتح : «اقتال » هذه افتعل ، ويحتمل أن يكون عينها واواً كاقتادوا ، ويحتمل أن يكون ياء «كاقتاس »( {[617]} ) والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة ، ولكن قتادة رحمه الله ينبغي أن يحسن الظن به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجة عنده .
وقوله تعالى : { فتاب عليكم } قبله محذوف تقديره ففعلتم .
وقوله { عليكم } معناه : على الباقين ، وجعل الله تعالى القتل لمن قتل شهادة وتاب على الباقين وعفا عنهم .
قال بعض الناس : { فاقتلوا } في هذه الآية معناه بالتوبة وإماتة عوارض النفوس من شهوة وتعنت وغضب( {[618]} ) ، واحتج بقوله عليه السلام في الثوم والبصل فلتمتهما طبخاً ، وبقول حسان :
. . . . . . . . . . . . . . . . قتلت قتلت فهاتها لم تقتل( {[619]} )
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.