بعد ذلك ينظم القرآن علاقة المسلمين ببيوت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وبنسائه - أمهات المؤمنين - في حياته وبعد وفاته كذلك . ويواجه حالة كانت واقعة ، إذ كان بعض المنافقين والذين في قلوبهم مرض يؤذون النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في بيوته وفي نسائه . فيحذرهم تحذيرا شديدا ، ويريهم شناعة جرمهم عند الله وبشاعته . و يهددهم بعلم الله لما يخفون في صدورهم من كيد وشر :
( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام - غير ناظرين إناه - ولكن إذا دعيتم فادخلوا ، فإذا طعمتم فانتشروا . ولا مستأنسين لحديث . إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق . وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب . ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن . وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ، ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا . إن ذلكم كان عند الله عظيما . إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما ) . .
روى البخاري - بإسناده - عن أنس بن مالك قال : بنى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بزينب بنت جحش بخبز ولحم . فأرسلت على الطعام داعيا . فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون . ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون . فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه . فقلت : يا رسول الله ما أجد أحدا أدعوه . قال : " ارفعوا طعامكم " . وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت . فخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فانطلق إلى حجرة عائشة - رضي الله عنها - فقال " السلام عليكم - أهل البيت - ورحمة الله وبركاته " . قالت : وعليك السلام ورحمة الله . كيف وجدت أهلك يا رسول الله ? " بارك الله لك " . فتقرى حجر نسائه ، كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن كما قالت عائشة . ثم رجع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون . وكان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] شديد الحياء . فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة . فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا . فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والأخرى خارجه . أرخى الستر بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب .
والآية تتضمن آدابا لم تكن تعرفها الجاهلية في دخول البيوت ، حتى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان الناس يدخلون البيوت بلا إذن من أصحابها - كما جاء في شرح آيات سورة النور الخاصة بالاستئذان - وربما كان هذا الحال أظهر في بيوت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بعد أن أصبحت هذه البيوت مهبط العلم والحكمة وكان بعضهم يدخل وحين يرى طعاما يوقد عليه يجلس في انتظار نضج هذا الطعام ليأكل بدون دعوة إلى الطعام ! وكان بعضهم يجلس بعد الطعام - سواء كان قد دعي إليه أو هجم هو عليه دون دعوة - ويأخذ في الحديث والسمر غير شاعر بما يسببه هذا من إزعاج للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأهله . وفي رواية أن أولئك الثلاثة الرهط الذين كانوا يسمرون كانوا يفعلون هذا وعروس النبي - زينب بنت جحش - جالسة وجهها إلى الحائط ! والنبي [ صلى الله عليه وسلم ] يستحيي أن ينبههم إلى ثقلة مقامهم عنده حياء منه ، ورغبة في ألا يواجه زواره بما يخجلهم ! حتى تولى الله - سبحانه - عنه الجهر بالحق ( والله لا يستحيي من الحق ) .
ومما يذكر أن عمر - رضي الله عنه - بحساسيته المرهفة كان يقترح على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الحجاب ؛ وكان يتمناه على ربه . حتى نزل القرآن الكريم مصدقا لاقتراحه مجيبا لحساسيته !
من رواية للبخاري - بإسناده - عن أنس بن مالك . قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله . يدخل عليك البر والفاجر . فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب . فأنزل الله آية الحجاب . . . ؛
وجاءت هذه الآية تعلم الناس ألا يدخلوا بيوت النبي بغير إذن . . فإذا دعوا إلى الطعام دخلوا . فأما إذا لميدعوا فلا يدخلون يرتقبون نضجه ! ثم إذا طعموا خرجوا ، ولم يبقوا بعد الطعام للسمر والأخذ بأطراف الحديث . وما أحوج المسلمين اليوم إلى هذا الأدب الذي يجافيه الكثيرون . فإن المدعوين إلى الطعام يتخلفون بعده ، بل إنهم ليتخلفون على المائدة ، ويطول بهم الحديث ؛ وأهل البيت - الذين يحتفظون ببقية من أمر الإسلام بالاحتجاب - متأذون محتبسون ، والأضياف ماضون في حديثهم وفي سمرهم لا يشعرون ! وفي الأدب الإسلامي غناء وكفاء لكل حالة ، لو كنا نأخذ بهذا الأدب الإلهي القويم .
ثم تقرر الآية الحجاب بين نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] والرجال :
( وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ) . .
وتقرر أن هذا الحجاب أطهر لقلوب الجميع :
( ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) . .
فلا يقل أحد غير ما قال الله . لا يقل أحد إن الاختلاط ، وإزالة الحجب ، والترخص في الحديث واللقاء والجلوس والمشاركة بين الجنسين أطهر للقلوب ، وأعف للضمائر ، وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة ، وعلى إشعار الجنسين بالأدب وترقيق المشاعر والسلوك . . إلى آخر ما يقوله نفر من خلق الله الضعاف المهازيل الجهال المحجوبين . لا يقل أحد شيئا من هذا والله يقول : ( وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) . . يقول هذا عن نساء النبي الطاهرات . أمهات المؤمنين . وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ممن لا تتطاول إليهن وإليهم الأعناق ! وحين يقول الله قولا . ويقول خلق من خلقه قولا . فالقول لله - سبحانه - وكل قول آخر هراء ، لا يردده إلا من يجرؤ على القول بأن العبيد الفانين أعلم بالنفس البشرية من الخالق الباقي الذي خلق هؤلاء العبيد !
والواقع العملي الملموس يهتف بصدق الله ، وكذب المدعين غير ما يقوله الله . والتجارب المعروضة اليوم في العالم مصدقة لما نقول . وهي في البلاد التي بلغ الاختلاط الحر فيها أقصاه أظهر في هذا وأقطع من كل دليل . [ وأمريكا أول هذه البلاد التي آتى الاختلاط فيها أبشع الثمار ] .
وقد ذكرت الآية أن مجيئهم للطعام منتظرين نضجه من غير دعوة ؛ وبقاءهم بعد الطعام مستأنسين للحديث . . كان يؤذي النبي فيستحيي منهم . وفي ختامها تقرر أنه ما يكون للمسلمين أن يؤذوا رسول الله . وكذلك ما يكون لهم أن يتزوجوا أزواجه من بعده ؛ وهن بمنزلة أمهاتهم . ومكانهن الخاص من رسول الله يحرم أن ينكحهن أحد من بعده ، احتفاظا بحرمة هذا البيت وجلاله وتفرده :
( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ، ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ) . .
وقد ورد أن بعض المنافقين قال : إنه ينتظر أن يتزوج من عائشة !
هذه الآية تضمنت قصتين إحداهما الأدب في أمر الطعام والجلوس الثانية في أمر الحجاب ، فأما الأولى فالجمهور من المفسرين على أن سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش أولم عليها فدعا الناس ، فلما طعموا ، قعد نفر في طائفة من البيت فثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم فخرج ليخرجوا لخروجه ، ومر على حجر نسائه ثم عاد فوجدهم في مكانهم وزينب في البيت معهم ، فلما دخل وراءهم انصرف فخرجوا عند ذلك ، قال أنس بن مالك : فأعلم أو أعلمته بانصرافهم فجاء ، فلما وصل الحجرة أرخى الستر بيني وبينه ودخل ، ونزلت الآية بسبب ذلك{[9558]} ، وقال قتادة ومقاتل وفي كتاب الثعلبي : إن هذا السبب جرى في بيت أم سلمة{[9559]} والأول أشهر ، وقال ابن عباس : نزلت في ناس في المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون{[9560]} ، وقال إسماعيل بن أبي حكيم : هذا أدب أدّب الله تعالى به الثقلاء ، وقال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي : بحسبك من الثقلاء إن الشرع لم يحتملهم ، وأما آية الحجاب فقال أنس بن مالك وجماعة سببها أمر العقود في بيت زينب ، القصة المذكورة آنفاً ، وقالت فرقة بل في بيت أم سلمة ، وقال مجاهد سبب آية الحجاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل معه قوم وعائشة معهم فمست يدها يد رجل منهم فنزلت آية الحجاب بسبب ذلك ، وقالت عائشة وجماعة سبب الحجاب كلام عمر وأنه كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مراراً في أن يحجب نساءه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعل وكان عمر يتابع فخرجت سودة ليلة لحاجتها وكانت امرأة تفرع النساء طولاً فناداها عمر قد عرفناك يا سودة -رصاً على الحجاب{[9561]}-
وقالت له زينب بنت جحش : عجبنا لك يا ابن الخطاب تغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فما زال عمر يتابع حتى نزلت آية الحجاب{[9562]} .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وافقت ربي في ثلاث : منها الحجاب ، ومقام إبراهيم ، و{ عسى ربه إن طلقكن }{[9563]} . الحديث{[9564]} .
وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى دار الدعوة ينتظر طبخ الطعام ونضجه في حديث أنس ، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا ، كذلك فنهى الله تعالى المؤمنين عن أمثال ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في النهي سائر المؤمنين ، والتزم الناس أدب الله تعالى لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار نضج الطعام ، و { ناظرين } معناه منتظرين و { إناه } مصدر أنى الشيء يأنى إذا فرغ وحان آناً ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
تمخضت المنون له بيوم . . . أنى ولكل خاتمة تمام{[9565]}
وقرأ الجمهور بفتح النون من «إناه » وأمالها حمزة والكسائي ، ثم أكد المنع وحصر وقت الدخول بأن يكون عن الإذن ، ثم أمر تعالى بعد الطعام بأن يفترق جمعهم وينتشر ، وقوله { ولا مستأنسين } عطف على قوله { غير ناظرين } و { غير } منصوبة على الحال من الكاف والميم في { لكم } أي ناظرين ولا مستأنسين ، وقرأ ابن أبي عبلة «غير » بكسر الراء وجوازه على تقدير «غير ناظرين إناه أنتم {[9566]} » ، وقرأ الأعمش «آناءة » على جمع «أنى » بمدة بعد النون{[9567]} ، وقرأت فرقة «فيستحيي » بإظهار الياء المكسورة قبل الساكنة ، وقرأت فرقة «فيستحيي » بسكون الياء دون ياء مكسورة قبلها ، وقوله { والله لا يستحيي } معناه لا يقع منه ترك قوله { الحق } ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفي عن الله تعالى العلة الموجبة لذلك في البشر ، وقوله تعالى : { وإذا سألتموهن متاعاً } الآية هي آية الحجاب ، و «المتاع » عام في جميع ما يمكن أن يطلب على عرف السكنى والمجاورة من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا ، وقوله { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النّساء وللنساء في أمر الرجال ، وقوله تعالى : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } الآية روي أنها نزلت بسبب أن بعض الصحابة قال : لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأذى به ، هكذا كنى عنه ابن عباس ببعض الصحابة ، وحكى مكي عن معمر أنه قال هو طلحة بن عبيد الله{[9568]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : لله در ابن عباس ، وهذا عندي لا يصح على طلحة ، الله عاصمه منه ، وروي أن رجلاً من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة وحفصة بعد خُنَيْس بن حذافة ما بال محمد يتزوج نساءنا والله لو مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت الآية في هذا ، وحرم الله تعالى نكاح أزواجه بعده وجعل لهن حكم الأمهات ، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب ثم رجعت زوج عكرمة بن أبي جهل قتيلة بنت الأشعث بن قيس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوجها ولم يبن بها{[9569]} فصعب ذلك على أبي بكر الصديق وقلق منه فقال له عمر : مهلاً يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه إنه لم يخيرها ولا أرخى عليها حجاباً وقد أبانتها منه ردتها مع قومها ، فسكن أبو بكر{[9570]} ، وذهب عمر إلى أن لا يشهد جنازة زينب بنت جحش إلا ذو محرم منها مراعاة للحجاب ، فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر ، وروي أن ذلك صنع في جنازة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم .