( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) .
وليس له أن يرد بالسيئة ، فإن الحسنة لا يستوي أثرها - كما لا تستوي قيمتها - مع السيئة والصبر والتسامح ، والاستعلاء على رغبة النفس في مقابلة الشر بالشر ، يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة ، فتنقلب من الخصومة إلى الولاء ، ومن الجماح إلى اللين :
( ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) .
وتصدق هذه القاعدة في الغالبية الغالبة من الحالات . وينقلب الهياج إلى وداعة . والغضب إلى سكينة . والتبجح إلى حياء ؛ على كلمة طيبة ، ونبرة هادئة ، وبسمة حانية في وجه هائج غاضب متبجح مفلوت الزمام !
ولو قوبل بمثل فعله ازداد هياجاً وغضباً وتبجحاً ومروداً . وخلع حياءه نهائياً ، وأفلت زمامه ، وأخذته العزة بالإثم .
غير أن تلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسمح وهو قادر على الإساءة والرد . وهذه القدرة ضرورية لتؤتي السماحة أثرها . حتى لا يصور الإحسان في نفس المسيء ضعفاً . ولئن أحس أنه ضعف لم يحترمه ، ولم يكن للحسنة أثرها إطلاقاً .
وهذه السماحة كذلك قاصرة على حالات الإساءة الشخصية . لا العدوان على العقيدة وفتنة المؤمنين عنها . فأما في هذا فهو الدفع والمقاومة بكل صورة من صورها . أو الصبر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً .
وهذه الدرجة ، درجة دفع السيئة بالحسنة ، والسماحة التي تستعلي على دفعات الغيظ والغضب ، والتوازن الذي يعرف متى تكون السماحة ومتى يكون الدفع بالحسنى . . درجة عظيمة لا يلقاها كل إنسان . فهي في حاجة إلى الصبر . وهي كذلك حظ موهوب يتفضل به الله على عباده الذين يحاولون فيستحقون :
قوله عز وجل{ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } قال الفراء : " لا " هاهنا صلة معناه : ولا تستوي الحسنة والسيئة ، يعني الصبر والغضب ، والحلم والجهل ، والعفو والإساءة . { ادفع بالتي هي أحسن } قال ابن عباس : أمر بالصبر عند الغضب ، وبالحلم عند الجهل ، وبالعفو عند الإساءة . { فإذا الذي بينك وبينه عداوة } ، يعني : إذا فعلت ذلك خضع لك عدوك ، وصار الذي بينك وبينه عداوة ، { كأنه ولي حميم } كالصديق والقريب . قال مقاتل بن حيان : نزلت في أبي سفيان ابن حرب وذلك أنه لان للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أسلم فصار ولياً بالإسلام ، حميماً بالقرابة .
قوله : { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ } أي لا يستوي التوحيد والشرك ، ولا تستوي الطاعة والمعصية ، أو لا يستوي الحق والباطل ولا الهدى والضلال . وقيل : الحسنة ههنا بمعنى العفو والرفق ، والسيئة : الفحش والغلظة ؛ والأولى بالصواب أن الآية تعم كل هذه المعاني فإنه لا تستوي الحسنة بكل وجوهها ، من توحيد وعدل وفضيلة واستقامة ورحمة ، ولا السيئة بكل صورها وأجناسها من الإشراك والعصيان والضلال والظلم والفحش فهما كلاهما لا يستويان .
قوله : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } قال ابن عباس : ادفع بحلمك جهل من جهل عليك ، وقال : أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب ، والحلم والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم . وعنه أيضا : هو الرجل يسبُّ الرجل فيقول الآخر : إن كنت صادقا فغفر الله لي ، وإن كننت كاذبا فغفر الله لك ، وروي في الأثر : أن أبا بكر قال ذلك لرجل نال منع شرا . أي عفا عنه وقال له خيرا ، وقيل : التي هي أحسن ، يعني السلام إذا لقي من يعاديه . وقال ابن العربي : المراد به المصافحة ، وفي الأثر : " تصافحوا يذهب الغلُّ " وقد صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرا حين قدم من أرض الحبشة . وبذلك فإن المصافحة ثابتة ولا وجه لإنكارها ، وقد سئل أنس : هل كانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . وفي الأثر : من تمام المحبة ، الأخذ باليد ، ومن حديث محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ، فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجرُّ ثوبه ، فاعتنقه وقَبَّله .
وعن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبهما بينهما " .
قوله : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } يعني : بهذا الذي أمرتك به من دفع الإساءة بالعفو والإحسان يصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة ، كأنه قريب صديق ، وهذه معلومة لا شك فيها ، وهي أن العفو والصفح عن المسيء ثم الإحسان إليه يسوقه – طواعية – إلى الندم ومراجعة النفس ليبادر خصمه المودة والملاطفة بعد ضغينة وجفاء ، وهذه حقيقة تتجلى ظاهرة مكشوفة في المتخاصمين المتباغضين من الناس إذا بادر أحدهم الآخر ، الإحسان والصفح . لا جرم أن الإحسان للآخرين من الخصوم وملاطفتهم بالمودة والرحمة يفجِّر في أعماقهم نوازع الخير التي جُبل عليها الناس ، على تفاوت بينهم .
وتلكم هي طبيعة الإنسان المشحونة بنوازع الخير والرحمة والجنوح للندامة والحياء ، ظواهر إنسانية كريمة تثيرها وتهيجها بواعث كثيرة وفي طليعتها العفو ومقابلة الإساءة بالإحسان ؛ على أن ذلك يقال في الأسوياء من البشر أولي الطبائع السليمة والفِطر السَّوية المستقيمة ، أما الجانحون للخسَّة والإيذاء والشر ، أولو الطبائع المعوجة ، والفطر المنحرفة السقيمة ، والنفوس التي استحوذ عليها الرانُ والشذوذ والانحراف ، فإنها أبعد الخلق عن التأثر بالإحسان والاستجابة لخصال اللين والرأفة والتسامح .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.