وعلى هذا المشهد الحاسم في مصير الذين كفروا ، وعلى مشهد الإيمان من أبناء عالم آخر . وفي ختام السورة التي عرضت مقولات الكافرين عن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وعن القرآن الكريم . . يجيء الإيقاع الأخير . توجيها للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يصبر عليهم ، ولا يستعجل لهم ، فقد رأى ما ينتظرهم ، وهو منهم قريب :
( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، ولا تستعجل لهم ، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار . بلاغ . فهل يهلك إلا القوم الفاسقون . . )
وكل كلمة في الآية ذات رصيد ضخم ؛ وكل عبارة وراءها عالم من الصور والظلال ، والمعاني والإيحاءات ، والقضايا والقيم .
( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل . ولا تستعجل لهم . . )
توجيه يقال لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] وهو الذي احتمل ما احتمل ، وعانى من قومه ما عانى . وهو الذي نشأ يتيما ، وجرد من الولي والحامي ومن كل أسباب الأرض واحدا بعد واحد . الأب . والأم . والجد . والعم . والزوج الوفية الحنون . وخلص لله ولدعوته مجردا من كل شاغل . كما هو مجرد من كل سند أو ظهير . وهو الذي لقي من أقاربه من المشركين أشد مما لاقى من الأبعدين . وهو الذي خرج مرة ومرة ومرة يستنصر القبائل والأفراد فرد في كل مرة بلا نصرة . وفي بعض المرات باستهزاء السفهاء ورجمهم له بالحجارة حتى تدمى قدماه الطاهرتان ، فما يزيد على أن يتوجه إلى ربه بذلك الابتهال الخاشع النبيل .
وبعد ذلك كله يحتاج إلى توجيه ربه : فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم . .
ألا إنه لطريق شاق طريق هذه الدعوة . وطريق مرير . حتى لتحتاج نفس كنفس محمد [ صلى الله عليه وسلم ] في تجردها وانقطاعها للدعوة ، وفي ثباتها وصلابتها ، وفي صفائها وشفافيتها . تحتاج إلى التوجيه الرباني بالصبر وعدم الاستعجال على خصوم الدعوة المتعنتين .
نعم . وإن مشقة هذا الطريق لتحتاج إلى مواساة ، وإن صعوبته لتحتاج إلى صبر . وإن مرارته لتحتاج إلى جرعة حلوة من رحيق العطف الإلهي المختوم .
( فاصبر . كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم . .
تشجيع وتصبير وتأسية وتسلية . . ثم تطمين :
( كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ) . .
إنه أمد قصير . ساعة من نهار . وإنها حياة خاطفة تلك التي يمكثونها قبيل الآخرة . وإنها لتافهة لا تترك وراءها من الوقع والأثر في النفوس إلا مثلما تتركه ساعة من نهار . . ثم يلاقون المصير المحتوم . ثم يلبثون في الأبد الذي يدوم . وما كانت تلك الساعة إلا بلاغا قبل أن يحق الهلاك والعذاب الأليم :
( بلاغ . فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ) . .
لا . وما الله يريد ظلما للعباد . لا . وليصبر الداعية على ما يلقاه . فما هي إلا ساعة من نهار . ثم يكون ما يكون . . .
قوله تعالى : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } قال ابن عباس : ذوو الحزم . وقال الضحاك : ذوو الجد والصبر . واختلفوا فيهم ، فقال ابن زيد : كل الرسل كانوا أولي عزم ، لم يبعث الله نبياً إلا كان ذا عزم وحزم ، ورأي وكمال عقل ، وإنما أدخلت من للتجنيس لا للتبعيض ، كما يقال : اشتريت أكسية من الخز وأردية من البز . وقال بعضهم : الأنبياء كلهم أولو عزم إلا يونس بن متى ، لعجلة كانت منه ، ألا ترى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } ( الأنعام-90 ) . وقال الكلبي : هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشرة مع أعداء الدين . وقيل : هم ستة ، نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، عليهم السلام ، وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء . وقال مقاتل : هم ستة : نوح ، صبر على أذى قومه ، وإبراهيم ، صبر على النار ، وإسحاق ، صبر على الذبح ، ويعقوب ، صبر على فقد ولده وذهاب بصره ، ويوسف ، صبر على البئر والسجن ، وأيوب ، صبر على الضر . وقال ابن عباس وقتادة : هم نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، أصحاب الشرائع ، فهم مع محمد صلى الله عليه وسلم خمسة . قلت : ذكرهم الله على التخصيص في قوله : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } ( الأحزاب-7 ) ، وفي قوله تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } ( الشورى-13 ) .
أخبرنا أبو طاهر المطهر بن علي بن عبيد الله الفارسي ، حدثنا أبو ذر محمد بن إبراهيم سبط الصالحاني ، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ الحافظ ، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، أنبأنا محمد بن الحجاج ، أنبأنا السري بن حيان ، أنبأنا عباد بن عباد ، حدثنا مجاهد بن سعيد ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : قالت عائشة : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد ، يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم إلا بالصبر على مكروهها ، والصبر على مجهودها ، ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم ، وقال : فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل وإني والله لا بد لي من طاعته ، والله لأصبرن كما صبروا ، وأجهدن كما جهدوا ، ولا قوة إلا بالله " . قوله تعالى : { ولا تستعجل لهم } أي : ولا تستعجل العذاب لهم ، فإنه نازل بهم لا محالة ، كأنه ضجر بعض الضجر فأحب أن ينزل العذاب بمن أبى منهم ، فأمر بالصبر وترك الاستعجال . ثم أخبر عن قرب العذاب فقال : { كأنهم يوم يرون ما يوعدون } من العذاب في الآخرة ، { لم يلبثوا } في الدنيا ، { إلا ساعةً من نهار } أي إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من نهار ، لأن ما مضى وإن كان طويلاً كأن لم يكن . ثم قال : { بلاغ } أي هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ من الله إليكم ، والبلاغ بمعنى التبليغ ، { فهل يهلك } بالعذاب إذا نزل { إلا القوم الفاسقون } الخارجون من أمر الله . قال الزجاج : تأويله : لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون ، ولهذا قال قوم : ما في الرجاء لرحمة الله آية أقوى من هذه الآية .
{ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي : اصبر على تكذيب قومك وأولوا العزم هم نوح وإبراهيم وعيسى وموسى ، وقيل : هم الثمانية عشر المذكورون في سورة الأنعام لقوله : { فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] ، وقيل : كل من لقي من أمته شدة وقيل : الرسل كلهم أولوا عزم فمن الرسل على هذا لبيان الجنس وعلى الأقوال المتقدمة للتبعيض .
{ ولا تستعجل لهم } أي : لا تستعجل نزول العذاب بهم فإنهم صائرون إليه فإنهم إذا أهلكوا كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار لاستقصار أعمارهم .
{ بلاغ } خبر ابتداء مضمر تقديره هذا الذي وعظتم به بلاغ بمعنى كفاية في الموعظة أو بلاغ من الرسول عليه الصلاة والسلام أي : بلغ هذه المواعظ والبراهين .
قوله : { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } ذلك أمر من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالتأسي بإخوانه المرسلين الذين احتملوا المكاره والشدائد وصبروا على مساءات أقوامهم وشرورهم . وخص منهم أرباب الثبات والبأس وقوة الاحتمال وهم أولو العزم ، أي الحزم والصبر والثبات ، وهم على الراجح خمسة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام .
قوله : { ولا تستعجل لهم } أي بالدعاء عليهم أن يحيق بهم العذاب بل اصبر واحتمل كما صبر المرسلون المقربون أولو الجد والهمم العالية ، فعسى أن يؤمنوا فتنشأ عنهم أمم وأجيال على منهج الله وعقيدة الإسلام .
قوله : { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } إذا عاين الخاسرون النار وأيقنوا أنها مستقرهم ومأواهم أحسوا حينئذ كأنهم لم يلبثوا في دنياهم غير ساعة من ساعات النهار { بلاغ } مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : هذا بلاغ . ويجوز النصب على أنه مصدر{[4221]} يعني هذا الذي وعظتم به فيه كفاية لكم من الذكرى .
قوله : { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } أي هل يهلك إلا الخارجون عن أمر الله أو عن الاتعاظ بهذا البلاغ والعمل بمقتضاه . وبذلك لا يهلك بعذاب الله إلا الضالون الخارجون عن طاعة ربهم . وقيل : لا يهلك على الله إلا هالك . وقيل : هذه الآية أقوى آية في الرجاء{[4222]} .