في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (140)

121

( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا ، ويتخذ منكم شهداء . والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ) . .

وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله ، قد يكون إشارة إلى غزوة بدر . وقد مس القرح فيها المشركين وسلم المسلمون . وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد . وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر . حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون ، وتابعهم المسلمون يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد . حتى رفعته لهم امرأة فلاثوا بها وتجمعوا عليها . . ثم كانت الدولة للمشركين ، حينما خرج الرماة على أمر رسول الله [ ص ] واختلفوا فيما بينهم . فأصاب المسلمين ما أصابهم في نهاية المعركة . جزاء وفاقا لهذا الاختلاف وذلك الخروج ، وتحقيقا لسنة من سنن الله التي لا تتخلف ، إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة . والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله ، لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد . وتحقيقا كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض ، وهي مداولة الأيام بين الناس - وفقا لما يبدو من عمل الناس ونيتهم - فتكون لهؤلاء يوما ولأولئك يوما . ومن ثم يتبين المؤمنون ويتبين المنافقون . كما تتكشف الأخطاء . وينجلي الغبش .

( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . . وليعلم الله الذين آمنوا ) . .

إن الشدة بعد الرخاء ، والرخاء بعد الشدة ، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس ، وطبائع القلوب ، ودرجة الغبش فيها والصفاء ، ودرجة الهلع فيها والصبر ، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط ، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح !

عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن : مؤمنين ومنافقين ، ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم ، وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم . ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده ، وهم مختلطون مبهمون !

والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين . والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور . ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء ، وتجعله واقعا في حياة الناس ، وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر ، وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر ، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء . فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم .

ومداولة الأيام ، وتعاقب الشدة والرخاء ، محك لا يخطىء ، وميزان لا يظلم . والرخاء في هذا كالشدة . وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك ، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل . والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء ، وتتجه إلى الله في الحالين ، وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله .

وقد كان الله يربي هذه الجماعة - وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية - فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء ، والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب - وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة . لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة . ولتزيد طاعة لله ، وتوكلا عليه ، والتصاقا بركنه . ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين .

ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة ، وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس ، وفيما بعد تمييز الصفوف ، وعلم الله للمؤمنين :

( ويتخذ منكم شهداء ) . .

وهو تعبير عجيب عن معنى عميق - إن الشهداء لمختارون . يختارهم الله من بين المجاهدين ، ويتخذهم لنفسه - سبحانه - فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد . إنما هو اختيار وانتقاء ، وتكريم واختصاص . . إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة ، ليستخلصهم لنفسه - سبحانه - ويخصهم بقربه .

ثم هم شهداء يتخذهم الله ، ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس . يستشهدهم فيؤدون الشهادة . يؤدونها أداء لا شبهة فيه ، ولا مطعن عليه ، ولا جدال حوله . يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق ، وتقريره في دنيا الناس . يطلب الله - سبحانه - منهم أداء هذه الشهادة ، على أن ما جاءهم من عنده الحق ؛ وعلى أنهم آمنوا به ، وتجردوا له ، وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه ؛ وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق ؛ وعلى أنهم هم استيقنوا هذا ، فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس ، وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس . . يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون . وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت . وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال !

وكل من ينطق بالشهادتين : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لا يقال له أنه شهد ، إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها . ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلها . ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا منالله . فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد ؛ وأخص خصائص العبودية التلقي من الله . . ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله . ولا يعتمد مصدرا آخر للتلقي إلا هذا المصدر . .

ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض ، كما بلغها محمد [ ص ] فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس ، والذي بلغه عنه محمد [ ص ] هو المنهج السائد والغالب والمطاع ، وهو النظام الذي يصرف حياة الناس كلها بلا استثاء .

فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله ، فهو إذن شهيد . أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها . واتخذه الله شهيدا . . ورزقه هذا المقام .

هذا فقه ذلك التعبير العجيب :

( ويتخذ منكم شهداء . . ) . .

وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ومقتضاه . . لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع !

( والله لا يحب الظالمين ) . .

والظلم كثيرا ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك . بوصفه أظلم الظلم وأقبحه . وفي القرآن ( إن الشرك لظلم عظيم ) . . وفي الصحيحين عن ابن مسعود : أنه قال : قلت : يا رسول الله . أي الذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك . . . " . .

وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين ؛ فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين . فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم الله . والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين ، يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين . وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد ، لها مناسبتها الحاضرة . فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه الله ومن يكرهه . وهذا هو مقام الاستشهاد ، وفي هذا تكون الشهادة ؛ ومن هؤلاء يتخذ الله الشهداء . .

/خ179

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (140)

{ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } : قرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم بضم القاف ، والباقون بالفتح وهما لغتان كالضعف والضعف . وقيل هو بالفتح الجراح وبالضم ألمها ، والمعنى إن أصابوا منكم يوم أحد فقد أصبتم منهم يوم بدر مثله ، ثم إنهم لم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى بأن لا تضعفوا ، فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون . وقيل كلا المسينّ كان يوم أحد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم . { وتلك الأيام نداولها بين الناس } نصرفها بينهم تدليل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى كقوله :

فيوما علينا ويوما لنا *** ويوم نساء ويوم نسر

والمداولة كالمعاودة يقال داولت الشيء بينهم فتداولوه ، والأيام تحتمل الوصف والخبر ، و{ نداولها } يحتمل الخبر والحال ، والمراد بها : أوقات النصر والغلبة . { وليعلم الله الذين آمنوا } : عطف على علة محذوفة أي نداولها ليكون كيت وكيت ، { وليعلم الله } إيذانا بأن العلة فيه غير واحدة ، وإن ما يصيب المؤمن فيه من المصالح ما لا يعلم ، أو الفعل المعلل به محذوف تقديره : وليتميز الثابتون على الإيمان من الذين على حرف فعلنا ذلك ، والقصد في أمثاله ونقائضه ليس إلى إثبات علمه تعالى ونفيه بل إلى إثبات المعلوم ونفيه على طريق البرهان . وقيل معناه ليعلمهم علما يتعلق به الجزاء وهو العلم بالشيء موجودا . { ويتخذ منكم شهداء } : ويكرم ناسا منكم بالشهادة يريد شهداء أحد ، أو يتخذ منكم شهودا معدلين بما صودف منهم من الثبات والصبر على الشدائد . { والله لا يحب الظالمين } : الذين يضمرون خلاف ما يظهرون ، أو الكافرين وهو اعتراض ، وفيه تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة وإنما يغلبهم أحيانا استدراجا لهم وابتلاء للمؤمنين .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (140)

{ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس }

تسلية عمَّا أصاب المسلمين يوم أُحُد من الهزيمة بأن ذلك غير عجيب في الحرب ، إذ لا يخلو جيش من أن يغلب في بعض مواقع الحرب ، وقد سبق أنّ العدوّ غُلب . والمسّ هنا الإصابة كقوله في سورة [ البقرة : 214 ] { مستهم البأساء والضراء } والقَرح بفتح القاف في لغة قريش الجرح ، وبضمِّها في لغة غيرهم ، وقرأه الجمهور : بفتح القاف ، وقرأه حمزة والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف : بضمّ القاف ، وهو هنا مستعمل في غير حقيقته ، بل هو استعارة للهزيمة الَّتي أصابتهم ، فإنّ الهزيمة تشبّه بالثلمة وبالانكسار ، فشبّهت هنا بالقرح حين يصيب الجسد ، ولا يصحّ أن يراد به الحقيقة لأنّ الجراح الَّتي تصيب الجيش لا يعبأ بها إذا كان معها النصر ، فلا شكّ أنّ التسلية وقعت عمّا أصابهم من الهزيمة .

والقوم هم مشركو مكة ومن معهم .

والمعنى إن هُزِمتم يوم أُحُد فقد هزم المشركون يوم بدر وكنتم كفافاً . ولذلك أعقبه بقوله : { وتلك الأيام نداولها بين الناس } . والتَّعبير عمَّا أصاب المسلمين بصيغة المضارع في { يمسسكم } لقُربه من زمن الحال ، وعمّا أصاب المشركين بصيغة الماضِي لبعده لأنَّه حصل يوم بدر .

فقوله : { فقد مس القوم قرح } ليس هو جواب الشرط في المعنى ولكنّه دليل عليه أغنى عنه على طريقة الإيجاز ، والمعنى : إن يمسكم قرح فلا تحْزنوا أو فلا تهنوا وهَناً بالشكّ في وعد الله بنصر دينه إذ قد مسّ القومَ قرح مثله فلم تكونوا مهزومين ولكنّكم كنتم كفافاً ، وذلك بالنِّسبة لقلّة المؤمنين نصر مبين . وهذه المقابلة بما أصاب العدوّ يوم بدر تعيِّن أن يكون الكلام تسلية وليس إعلاماً بالعقوبة كما قاله جمع من المفسّرين . وقد سأل هرقل أبا سفيان : كيف كان قتالكم له قال « الحرب بيننا سِجَال يَنَالُ مِنَّا وننال منه ، فقال هرقل : وكذلك الرسل تبتلَى وتكون لهم العاقبة » .

وقوله : { وتلك الأيام نداولها بين الناس } الواو اعتراضية ، والإشارة بتلك إلى ما سيُذكر بعدُ ، فالإشارة هنا بمنزلة ضمير الشأن لقصد الاهتمام بالخبر وهذا الخبر مكنّى به عن تعليل للجواب المحذوف المدلول عليه بجملة : { فقد مس القوم قرح مثله } .

و { الأيَّام } يجوز أن تكون جمع يوم مراد به يوم الحرب ، كقولهم : يوم بدر ويوم بُعاث ويوم الشَّعْثَمَيْن ، ومنه أيّام العرب ، ويجوز أن يكون أطلق على الزّمان كقول طرفة :

وما تَنْقُصِ الأيَّامُ والدهرُ يَنْفَدِ

أي الأزمان .

والمداولة تصريفها غريب إذ هي مصدر دَاول فلان فلاناً الشيء إذا جعله عنده دُولة ودوُلة عند الآخر أي يَدُولُه كُلٌّ منهما أي يلزمه حتَّى يشتهر به ، ومنه دال يَدُول دَوْلاً اشتهر ، لأنّ الملازمة تقتضِي الشهرة بالشيء ، فالتداول في الأصل تفاعل من دال ، ويكون ذلك في الأشياء والكلام ، يقال : كلام مُدَاوَل ، ثُمّ استعملوا داولت الشيء مجازاً ، إذا جعلت غيرك يتداولونه ، وقرينة هذا الاستعمال أن تقول : بينهم .

فالفاعل في هذا الإطلاق لا حظّ له من الفعل ، ولكن له الحظّ في الجعل ، وقريب منه قولهم : اضطررته إلى كذا ، أي جعلته مضطرّاً مع أنّ أصل اضطرّ أنَّه مطاوع ضَرّه .

و { النَّاس } البشر كلهم لأنّ هذا من السنن الكونية ، فلا يختصّ بالقوم المتحدّث عنهم .

{ وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء ، والله لا يهدي القوم الظالمين }

عطف على جملة { وتلك الأيام نداولها بين الناس } ، فمضمون هذه علّة ثانية لجواب الشرط المحذوف المدلول عليه بقوله : { فقد مس القوم قرح مثله } وعلم الله بأنّهم مؤمنون متحقق من قبل أن يمسهم القرح .

فإن كان المراد من { الَّذين آمنوا } هنا معنى الَّذين آمنوا إيماناً راسخاً كاملاً فقد صار المعنى : أنّ علم الله برسوخ إيمانهم يحصل بعد مَسِّ القرح إيّاهم ، وهو معنى غير مستقيم ، فلذلك اختلف المفسّرون في المراد من هذا التَّعليل على اختلاف مذاهبهم في صفة العِلم ، وقد تقرّر في أصول الدّين أن الفلاسفة قالوا : إنّ الله عالم بالكلّيات بأسرها ، أي حقائق الأشياء على ما هي عليه ، علماً كالعِلم المبحوث عنه في الفلسفة لأنّ ذلك العلم صفة كمال ، وأنَّه يعلم الجزئيات من الجواهر والأعراض علماً بوجه كلّي . ومعنى ذلك أنَّه يعلمها من حيث إنَّها غير متعلّقة بزمان ، مِثالُه : أن يعلم أنّ القمر جسم يوجد في وقت تكوينه ، وأنّ صفته تكون كذا وكذا ، وأنّ عوارضه النورانية المكتسبة من الشَّمس والخسوف والسَّير في أمد كذا . أمَّا حصوله في زمانه عندما يقع تكوينه ، وكذلك حصول عوارضه ، فغير معلوم لله تعالى ، قالوا : لأنّ الله لو علم الجزئيات عند حصولها في أزمنتها للزم تغيّر علمه فيقتضي ذلك تغيّر القديم ، أو لزم جهل العالِم ، مثاله : أنَّه إذا علم أنّ القمر سيخسف ساعة كذا علماً أزلياً ، فإذا خسف بالفعل فلا يخلو إمّا أن يزول ذلك العلم فيلزم تغيّر العلم السابق فيلزم من ذلك تغيّر الذات الموصوفةِ به من صفة إلى صفة ، وهذا يستلزم الحدوث إذ حدوث الصّفة يستلزم حدوث الموصوف ، وإمّا أن لا يزول العلم الأول فينقلب العلمُ جهلاً ، لأنّ الله إنَّما علم أنّ القمر سيخسف في المستقبل والقمر الآن قد خسف بالفعل . ولأجل هذا قالوا : إنّ علم الله تعالى غير زماني . وقال المسلمون كلّهم : إنّ الله يعلم الكلّيات والجزئيات قبل حصولها ، وعند حصولها . وأجابوا عن شبهة الفلاسفة بأن العلم صفة من قبيل الإضافة أي نسبة بين العالِم والمعلوم ، والإضافات اعتباريات ، والاعتباريات عدميات ، أو هو من قبيل الصّفة ذات الإضافة : أي صفة وجودية لها تعلّق ، أي نسبة بينها وبين معلومها .

فإن كان العلم إضافة فتغيّرها لا يستلزم تغيّر موصوفها وهو العالم ، ونظَّروا ذلك بالقديم يوصف بأنَّه قبل الحادث ومعه وبعده ، من غير تغيّر في ذات القديم ، وإن كان العلم صفة ذات إضافة أي ذات تعلّق ، فالتغيّر يعتري تعلّقها ولا تتغيّر الصّفة فضلاً عن تغيّر الموصوف ، فعلمُ اللَّهِ بأن القمر سيخسف ، وعلمُه بأنَّه خاسف الآن ، وعلمُه بأنَّه كان خاسفاً بالأمس ، علم واحد لا يتغيّر موصوفة ، وإن تغيّرت الصّفة ، أو تغيّر متعلّقها على الوجهين ، إلاّ أن سلف أهل السنّة والمعتزلة أبوا التَّصريح بتغيّر التعلُّق ولذلك لم يقع في كلامهم ذكر تعلقين للعلم الإلهي أحدهما قديم والآخر حادث ، كما ذكروا ذلك في الإرادة والقدرة ، نظراً لكون صفة العلم لا تتجاوز غيرَ ذات العالم تجاوزاً محسوساً . فلذلك قال سلفهم : إنّ الله يعلم في الأزل أنّ القمر سيخسف في سنتنا هذه في بلد كذا ساعة كذا ، فعند خسوف القمر كذلك عَلِم اللَّه أنَّه خسف بذلك العلم الأوّل لأنّ ذلك العلم مجموع من كون الفعل لم يحصل في الأزل ، ومن كونه يحصل في وقته فيما لا يزال ، قالوا : ولا يقاس ذلك على علمنا حين نعلم أنّ القمر سيخسف بمقتضى الحساب ثمّ عند خسوفه نعلم أنَّه تحقّق خسوفه بعلم جديد ، لأنّ احتياجنا لعلم متجدّد إنَّما هو لطريان الغفلة عن الأول . وقال بعض المعتزلة مثل جَهْم بن صَفْوَان وهِشام بن الحَكم : إنّ الله عالم في الأزل بالكلّيات والحقائق ، وأمَّا علمه بالجزئيات والأشخاص والأحوال فحاصل بعد حدوثها لأنّ هذا العلم من التصديقات ، ويلزمه عَدم سبق العلم .

وقال أبو الحُسين البصري من المعتزلة ، رادّاً على السلف : لا يجوز أن يكون علم الله بأنّ القمر سيخسف عين علمه بعد ذلك بأنَّه خسف لأمور ثلاثة : الأوّل التغايُر بينهما في الحقيقة لأنّ حقيقة كونه سيقع غيرُ حقيقة كونه وقع ، فالعلمُ بأحدهما يغاير العلم بالآخر ، لأنّ اختلاف المتعلّقين يستدعي اختلاف العالم بهما . الثَّاني التغاير بينهما في الشرط فإنّ شرط العلم بكون الشيء سيقع هو عدم الوقوع ، وشرط العلم بكونه وقَع الوقوعُ ، فلو كان العلمان شيئاً واحداً لم يختلف شرطاهُما . الثَّالث أنّه يمكن العلم بأنَّه وقع الجهل بأنَّه سيقع وبالعكس وغير المعلوم غير المعلوم ( هكذا عبّر أبو الحسين أي الأمر الغير المعلوم مغاير للمعلوم ) ولذلك قال أبو الحسين بالتزام وقوع التَّغير في علم الله تعالى بالمتغيِّرات ، وأنّ ذاته تعالى تقتضي اتّصافه بكونه عالماً بالمعلومات الَّتي ستقع ، بشرط وقوعها ، فيحدث العلم بأنَّها وجدت عند وجودها ، ويزول عند زوالها ، ويحصل علم آخر ، وهذا عين مذهب جهم وهشام . ورُدّ عليه بأنَّه يلزم أن لا يكون الله تعالى في الأزل عالماً بأحوال الحوادث ، وهذا تجهيل . وأجاب عنه عبد الحكيم في « حاشية المواقف » بأنّ أبا الحسين ذهب إلى أنَّه تعالى يعلم في الأزل أنّ الحادث سيقع على الوصف الفلاني ، فلا جهل فيه ، وأنّ عدم شهوده تعالى للحوادث قبل حدوثها ليس بجهل ، إذ هي معدومة في الواقع ، بل لو علمها تعالى شهودياً حينَ عدمها لكان ذلك العلم هو الجهل ، لأنّ شهود المعدوم مخالف للواقع ، فالعلم المتغيّر الحادث هو العلم الشهودي .

فالحاصل أنّ ثمة علمين : أحدهما قديم وهو العلم المشروط بالشروط ، والآخر حادث وهو العلوم الحاصلة عند حصول الشروط وليست بصفة مستقلّة ، وإنَّما هي تعلّقات وإضافات ، ولذلك جرى في كلام المتأخّرين ، من علمائنا وعلماء المعتزلة ، إطلاق إثباتِ تعلّقٍ حادثٍ لعلم الله تعالى بالحوادث . وقد ذكر ذلك الشَّيخ عبد الحكيم في « الرسالة الخاقانية » الَّتي جعلها لِتحقيق علم الله تعالى غير منسوب لقائل ، بل عبّر عنه بقيل ، وقد رأيت التفتزاني جرى على ذلك في « حاشية الكشّاف » في هذه الآية فلعل الشَّيخ عبد الحكيم نسي أن ينسبه .

وتأويل الآية على اختلاف المذاهب : فأمَّا الّذين أبو إطلاق الحدوث على تعلّق العلم فقالوا في قوله : { وليعلم الله الذين آمنوا } أطلق العلم على لازمه وهو ثبوت المعلوم أي تميّزه على طريقة الكناية لأنَّها كإثبات الشيء بالبرهان ، وهذا كقول إياس بن قبيصة الطائي :

وأقبلت والخطيّ يخطِر بينا *** لأَعْلَمَ مَن جَبَانَها مِنْ شجاعها

أي ليظهر الجبان والشُّجاع فأطلق العلم وأريد ملزومه .

ومنهم من جعل قوله : { وليعلم الله } تمثيلاً أي فعل ذلك فِعْلَ من يريد أن يعلم وإليه مال في « الكشاف » ، ومنهم من قال : العلّة هي تعلّق علم الله بالحادث وهو تعلّق حادث ، أي ليعلم الله الَّذين آمنوا موجودين . قاله البيضاوي والتفتزاني في « حاشية الكشّاف » . وإن كان المراد من قوله : { الذين آمنوا } ظاهرَهُ أي ليعلم من اتَّصف بالإيمان ، تعيّن التأويل في هذه الآية لاَ لأجل لزوم حدوث علم الله تعالى ، بل لأنّ علم الله بالمؤمنين من أهل أُحُد حاصل من قبلِ أن يمسّهم القرح ، فقال الزجاج : أراد العِلمَ الَّذي يترتّب عليه الجزاء وهو ثباتهم على الإيمان ، وعدم تزلزلهم في حال الشدّة ، وأشار التفتزاني إلى أنّ تأويل صاحب « الكشاف » ذلك بأنَّه وارد مورد التمثيل ، ناظر إلى كون العلم بالمؤمنين حاصلاً من قبل ، لا لأجل التحرّز عن لزوم حدوث العلم .

وقوله : { ويتخذ منكم شهداء } عطف على العلّة السابقة . وجعل القتل في ذلك اليوم الَّذي هو سبب اتِّخاذ القتلى شهداء علَّة من علل الهزيمة ، لأنّ كثرة القتلى هي الَّتي أوقعت الهزيمة .

والشهداء هم الَّذين قُتلوا يوم أُحُد ، وعبّر عن تقدير الشهادة لهم بالاتّخاذ لأنّ الشهادة فضيلة من الله ، واقتراب من رضوانه ، ولذلك قوبل بقوله : { والله لا يحب الظالمين } أي الكافرين فهو في جانب الكفّار ، أي فقتلاكم في الجنَّة ، وقتلاهم في النَّار ، فهو كقوله : { قل هل تربّصون بنا إلاّ إحدى الحسنيين } [ التوبة : 52 ] .