ولم يكن بد من التطهير القاسي ؛ فهذه الطبيعة المنهارة الخاوية لا تقومها إلا كفارة صارمة ، وتأديب عنيف . عنيف في طريقته وفي حقيقته :
( وإذ قال موسى لقومه : يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ، فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم . ذلكم خير لكم عند بارئكم ) . .
أقتلوا أنفسكم . ليقتل الطائع منكم العاصي . ليطهره ويطهر نفسه . . هكذا وردت الروايات عن تلك الكفارة العنيفة . . وإنه لتكليف مرهق شاق ، أن يقتل الأخ أخاه ، فكأنما يقتل نفسه برضاه . ولكنه كذلك كان تربية لتلك الطبيعة المنهارة الخوارة ، التي لا تتماسك عن شر ، ولا تتناهى عن نكر . ولو تناهوا عن المنكر في غيبة نبيهم ما عبدوا العجل . وإذ لم يتناهوا بالكلام فليتناهوا بالحسام ؛ وليؤدوا الضريبة الفادحة الثقيلة التي تنفعهم وتربيهم !
{ وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم } فاعزموا على التوبة والرجوع إلى من خلقكم براء من التفاوت ، ومميزا بعضكم عن بعض بصور وهيئات مختلفة ، وأصل التركيب لخلوص الشيء عن غيره ، إما على سبيل التقصي كقولهم بريء المريض من مرضه والمديون من دينه ، أو الإنشاء كقولهم برأ الله آدم من الطين أو فتوبوا . { فاقتلوا أنفسكم } إتماما لتوبتكم بالبخع ، أو قطع الشهوات كما قيل من لم يعذب نفسه لم ينعمها ومن لم يقتلها لم يحيها . وقيل أمروا أن يقتل بعضهم بعضا . وقيل أمر من لم يعبد العجل أن يقتل العبدة . روي أن الرجل كان يرى بعضه وقريبه فلم يقدر على المضي لأمر الله ، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون ، فأخذوا يقتتلون من الغداة إلى العشي حتى دعا موسى وهارون فكشفت السحابة ونزلت التوبة ، وكانت القتلى سبعين ألفا . والفاء الأولى للتسبب ، والثانية للتعقيب .
{ ذلكم خير لكم عند بارئكم } من حيث إنه طهرة من الشرك ، ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية .
{ فتاب عليكم } متعلق بمحذوف إن جعلته من كلام موسى عليه السلام لهم تقديره : إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم ، أو عطف على محذوف إن جعلته خطابا من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات ، كأنه قال : ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارئكم . وذكر البارئ وترتيب الأمر عليه إشعار بأنهم بلغوا غاية الجهالة والغباوة ، حتى تركوا عبادة خالقهم الحكيم إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة ، وأن من لم يعرف حق منعمه حقيق بأن لا يسترد منه ، ولذلك أمروا بالقتل وفك التركيب .
{ إنه هو التواب الرحيم } للذي يكثر توفيق التوبة ، أو قبولها من المذنبين ، ويبالغ في الإنعام عليهم .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 54 )
هذا القول من موسى صلى الله عليه وسلم كان بأمر من الله تعالى ، وحذفت الياء في «يا قومي » لأن النداء موضع حذف وتخفيف ، والضمير في «اتخاذكم » في موضع خفض على اللفظ ، وفي موضع رفع بالمعنى ، «العجل » لفظة عربية ، اسم لولد البقرة .
وقال قوم : سمي عجلاً لأنه استعجل قبل مجيء موسى عليه السلام .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وليس هذا القول بشيء( {[608]} ) .
واختلف هل بقي العجل من ذهب ؟ قال ذلك الجمهور وقال الحسن بن أبي الحسن : صار لحماً ودماً ، والأول أصح .
و «توبوا » : معناه ارجعوا عن المعصية إلى الطاعة .
وقرأ الجمهور : «بارئِكم » بإظهار الهمزة وكسرها .
وقرأ أبو عمرو : «بارئْكم » بإسكان الهمزة .
وروي عن سيبويه اختلاس الحركة وهو أحسن ، وهذا التسكين يحسن في توالي الحركات .
وقال المبرد : لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب ، وقرءاة أبي عمرو «بارئكم » لحن( {[609]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : وقد روي عن العرب التسكين في حرف الأعراب ، قال الشاعر : [ الرجز ]
إذا اعوججن قلت صاحب قوم( {[610]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فاليوم أشرب غير مستحقب . . . إثماً من الله ولا واغل( {[611]} )
قالت سليمى اشتر لنا سويقا( {[612]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وقد بدا هَنْكِ مِن المِئْزَرِ( {[613]} )
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ونهر تيري فما تعرفْكُمُ العربُ( {[614]} )
وقال وضاح اليمن( {[615]} ) : [ الرجز ]
إنما شعري شهد *** قد خلط بجلجلان
ومن أنكر التسكين في حرف الإعراب فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علماً للإعراب .
قال أبو علي : وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات .
وقرأ الزهري : «باريكم » بكسر الياء من غير همز( {[616]} ) ، ورويت عن نافع .
وقرأ قتادة : «فاقتالوا أنفسكم » : وقال : «هي من الاستقالة » .
قال أبو الفتح : «اقتال » هذه افتعل ، ويحتمل أن يكون عينها واواً كاقتادوا ، ويحتمل أن يكون ياء «كاقتاس »( {[617]} ) والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة ، ولكن قتادة رحمه الله ينبغي أن يحسن الظن به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجة عنده .
وقوله تعالى : { فتاب عليكم } قبله محذوف تقديره ففعلتم .
وقوله { عليكم } معناه : على الباقين ، وجعل الله تعالى القتل لمن قتل شهادة وتاب على الباقين وعفا عنهم .
قال بعض الناس : { فاقتلوا } في هذه الآية معناه بالتوبة وإماتة عوارض النفوس من شهوة وتعنت وغضب( {[618]} ) ، واحتج بقوله عليه السلام في الثوم والبصل فلتمتهما طبخاً ، وبقول حسان :
. . . . . . . . . . . . . . . . قتلت قتلت فهاتها لم تقتل( {[619]} )
هذه نعمة أخرى وهي نعمة نسخ تكليف شديد عليهم كان قد جعل جابراً لما اقترفوه من إثم عبادة الوثن فحصل العفو عنهم بدون ذلك التكليف فتمت المنة وبهذا صح جعل هذه منة مستقلة بعد المنة المتضمنة لها قوله تعالى : { ثم عفونا عنكم من بعد ذلك } [ البقرة : 51 ] لأن العفو عن المؤاخذة بالذنب في الآخرة قد يحصل مع العقوبة الدنيوية من حد ونحوه وهو حينئذ منة إذ لو شاء الله لجعل للذنب عقابين دنيوي وأخروي كما كان المذنب النفس والبدن ولكن الله برحمته جعل الحدود جوابر في الإسلام كما في الحديث الصحيح ، فلما عفا الله عن بني إسرائيل على أن يقتلوا أنفسهم فقد تفضل بإسقاط العقوبة الأخروية التي هي أثر الذنب ، ولما نسخ تكليفهم بقتل أنفسهم فقد تفضل بذلك فصارت منتان .
فقول موسى لقومه : { إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم } تشريع حكم لا يكون مثله إلا عن وحي لا عن اجتهاد وإن جاز الاجتهاد للأنبياء فإن هذا حكم مخالف لقاعدة حفظ النفوس التي قيل قد اتفق عليها شرائع الله فهو يدل على أنه كلفهم بقتل أنفسهم قتلاً حقيقة إما بأن يقتل كل من عبد العجل نفسه فيكون المراد بالأنفس الأرواح التي في الأجسام فالفاعل والمفعول واحد على هذا وإنما اختلفا بالاعتبار كقوله { ظلمتم أنفسكم } وقول ابن أذينة :
وإذا وجدت لها وساوس سلوة *** شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
وإما بأن يقتل من لم يعبدوا العجل عابديه ، وكلام التوراة في هذا الغرض في غاية الإبهام وظاهره أن موسى أمره الله أن يأمر اللاويين الذين هم من سبط لاوي الذي منه موسى وهارون أن يقتلوا من عبد العجل بالسيف وأنهم فعلوا وقتلوا ثلاثة آلاف نفس ثم استشفع لهم موسى فغفر الله لهم أي فيكون حكم قتل أنفسهم منسوخاً بعد العمل به ويكون المعنى فليقتل بعضكم بعضاً ، فالأنفس مراد بها الأشخاص كما في قوله تعالى : { فإذا دخلتهم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] أي فليسلم بعضكم على بعض وقوله : { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم } [ البقرة : 83 ] أي لا يسفك بعضكم دماء بعض وقوله عقبه : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } [ البقرة : 84 ] فالفاعل والمفعول متغايران .
ومن الناس من حمل الأمر بقتل النفس هنا على معنى القتل المجازي وهو التذليل والقهر على نحو قول امرىء القيس :
وقوله : خمر مقتلة أو مقتولة ، أي مذللة سورتها بالماء . قال بجير بن زهير :
إن التي ناولْتَني فرددتُها *** قُتِلتْ قُتِلت فهاتها لم تُقتلِ{[125]}
وفيه بعد عن اللفظ بل مخالفة لغرض الامتنان ، لأن تذليل النفس وقهرها شريعة غير منسوخة .
والظلم هنا الجناية والمعصية على حد قوله : { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] .
والفاء في قوله : { فتوبُوا } فاء التسبب لأن الظلم سبب في الأمر بالتوبة فالفاء لتفريع الأمر على الخبر وليست هنا عاطفة عند الزمخشري وابن الحاجب إِذ ليس بين الخبر والإنشاء ترتب في الوجود ، ومن النحاة من لا يرى الفاء تخرج عن العطف وهو الجاري على عبارات الجمهور مثل صاحب « مغني اللبيب » فيجعل ذلك عطف إنشاء على خبر ولا ضير في ذلك .
وذكر التوبة تقدم في قوله تعالى : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } [ البقرة : 36 ] .
والفاء في قوله : { فاقتلوا أنفسكم } ظاهرة في أن قتلهم أنفسهم بيان للتوبة المشروعة له فتكون الفاء للترتيب الذكري وهو عطف مفصل على مجمل كقوله تعالى : { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة } [ النساء : 153 ] كما في « مغني اللبيب » وهو يقتضي أنها تفيد الترتيب لا التعقيب . وأما صاحب « الكشاف » فقد جوز فيه وجهين أحدهما تأويل الفعل المعطوف عليه بالعزم على الفعل فيكون ما بعده مرتباً عليه ومعقباً وهذا الوجه لم يذكره صاحب « المغني » وهذا لا يتأتى في قوله تعالى : { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا } ، وثانيهما جعل التوبة المطلوبة شاملة لأقوال وأعمال آخرها قتلهم أنفسهم فتكون الفاء للترتيب والتعقيب أيضاً .
وعندي أنه إذا كانت الجملة الثانية منزلة منزلة البيان من الجملة الأولى وكانت الأولى معطوفة بالفاء كان الأصل في الثانية أن تقطع عن العطف فإذا قرنت بالفاء كما في هذه الآية كانت الفاء الثانية مؤكدة للأولى ، ولعل ذلك إنما يحسن في كل جملتين تكون أولاهما فعلاً غير محسوس وتكون الثانية فعلاً محسوساً مبينًا للفعل الأول فينزل منزلة حاصل عقبه فيقرن بالفاء لأنه لا يحصل تمامه إلا بعد تقرير الفعل الأول في النفس ولذلك قربه صاحب « الكشاف » بتأويل الفعل الأول بالعزم في بعض المواضع .
والبارىء هو الخالق الخلق على تناسب وتعديل فهو أخص من الخالق ولذلك أتبع به الخالق في قوله تعالى : { هو الله الخالق البارىء } [ الحشر : 24 ] .
وتعبير موسى عليه السلام في كلامه بما يدل على معنى لفظ البارىء في العربية تحريض على التوبة لأنها رجوع عن المعصية ففيها معنى الشكر وكون الخلق على مثال متناسب يزيد تحريضاً على شكر الخالق .
وقوله : { فتاب عليكم } ظاهر في أنه من كلام الله تعالى عند تذكيرهم بالنعمة وهو محل التذكير من قوله : { وإذ قال موسى لقومه } إلخ فالماضي مستعمل في بابه من الإخبار وقد جاء على طريقة الالتفات لأن المقام للتكلم فعدل عنه إلى الغيبة ورجحه هنا سبق معاد ضمير الغيبة في حكاية كلام موسى . وعطفت الفاء على محذوف إيجازاً ، أي ففعلتم فتاب عليكم أو فعزمتم فتاب عليكم ، على حد { أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] أي فضرب ، وعطف بالفاء إشارة إلى تعقيب جرمهم بتوبته تعالى عليهم وعدم تأخيرها إلى ما بعد استئصال جميع الذين عبدوا العجل بل نسخ ذلك بقرب نزوله بعد العمل به قليلاً أو دون العمل به وفي ذلك رحمة عظيمة بهم إذ حصل العفو عن ذنب عظيم بدون تكليفهم توبة شاقة بل اكتفاء بمجرد ندمهم وعزمهم على عدم العود لذلك .
ومن البعيد أن يكون { فتاب عليكم } من كلام موسى لما فيه من لزوم حذف في الكلام غير واضح القرينة ؛ لأنه يلزم تقدير شرط تقديره فإن فعلتم يتب عليكم فيكون مراداً منه الاستقبال والفاء فصيحة ، ولأنه يعرى هذه الآية عن محل النعمة المذكر به إلا تضمناً .
وجملة : { إنه هو التواب الرحيم } خبر وثناء على الله ، وتأكيده بحرف التوكيد لتنزيلهم منزلة من يشك في حصول التوبة عليهم لأن حالهم في عظم جرمهم حال من يشك في قبول التوبة عليه وإنما جمع التواب مع الرحيم لأن توبته تعالى عليهم كانت بالعفو عن زلّة اتخاذهم العجل وهي زلة عظيمة لا يغفرها إلا الغفار ، وبالنسخ لحكم قتلهم وذلك رحمة فكان للرحيم موقع عظيم هنا وليس هو لمجرد الثناء .