في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا} (109)

83

وأما الإيقاع الثاني فيصور العلم البشري المحدود بالقياس إلى العلم الإلهي الذي ليست له حدود ؛ ويقربه إلى تصور البشر القاصر بمثال محسوس على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير .

( قل : لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ، ولو جئنا بمثله مددا ) .

والبحر أوسع وأغزر ما يعرفه البشر . والبشر يكتبون بالمداد كل ما يكتبون ؛ وكل ما يسجلون به علمهم الذي يعتقدون أنه غزير !

فالسياق يعرض لهم البحر بسعته وغزارته في صورة مداد يكتبون به كلمات الله الدالة على علمه ؛ فإذا البحر ينفد وكلمات الله لا تنفد . ثم إذا هو يمدهم ببحر آخر مثله ، ثم إذا البحر الآخر ينفد كذلك وكلمات الله تنتظر المداد !

وبهذا التصوير المحسوس والحركة المجسمة يقرب إلى التصور البشري المحدود معنى غير المحدود ، ونسبة المحدود إليه مهما عظم واتسع .

والمعنى الكلي المجرد يظل حائرا في التصور البشري ومائعا حتى يتمثل في صورة محسوسة . ومهما أوتي العقل البشري من القدرة على التجريد فإنه يظل في حاجة إلى تمثل المعنى المجرد في صور وأشكال وخصائص ونماذج . . ذلك شأنه مع المعاني المجردة التي تمثل المحدود ، فكيف بغير المحدود ?

لذلك يضرب القرآن الأمثال للناس ؛ ويقرب إلى حسهم معانيه الكبرى بوضعها في صور ومشاهد ، ومحسوسات ذات مقومات وخصائص وأشكال على مثال هذا المثال .

والبحر في هذا المثال يمثل علم الإنسان الذي يظنه واسعا غزيرا . وهو - على سعته وغزارته - محدود . وكلمات الله تمثل العلم الإلهي الذي لا حدود له ، والذي لا يدرك البشر نهايته ؛ بل لا يستطيعون تلقيه وتسجيله . فضلا على محاكاته .

ولقد يدرك البشر الغرور بما يكشفونه من أسرار في أنفسهم وفي الآفاق ، فتأخذهم نشوة الظفر العلمي ، فيحسبون أنهم علموا كل شيء ، أو أنهم في الطريق !

ولكن المجهول يواجههم بآفاقه المترامية التي لا حد لها ، فإذا هم ما يزالون على خطوات من الشاطيء ، والخضم أمامهم أبعد من الأفق الذي تدركه أبصارهم !

إن ما يطيق الإنسان تلقيه وتسجيله من علم الله ضئيل قليل ، لأنه يمثل نسبة المحدود إلى غير المحدود .

فليعلم الإنسان ما يعلم ؛ وليكشف من أسرار هذا الوجود ما يكشف . . ولكن ليطامن من غروره العلمي ، فسيظل أقصى ما يبلغه علمه أن يكون البحر مدادا في يده . وسينفد البحر وكلمات الله لم تنفد ؛ ولو أمده الله ببحر مثله فسينتهي من بين يديه وكلمات الله ليست إلى نفاد . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا} (109)

{ قل لو كان البحر مدادا } ما يكتب به ، وهو اسم ما يمد الشيء كالحبر للدواة والسليط للسراج . { لكلمات ربّي } لكلمات علمه وحكمته . { لنفد البحر } لنفد جنس البحر بأمره لأن كل جسم متناه . { قبل أن تنفد كلمات ربّي } فإنها غير متناهية لا تنفد كعلمه ، وقرأ حمزة والكسائي بالياء . { ولو جئنا بمثله } بمثل البحر الموجود . { مدداً } زيادة ومعونة ، لأن مجموع المتناهين متناه بل مجموع ما يدخل في الوجود من الأجسام لا يكون إلا متناهيا للدلائل القاطعة على تناهي الأبعاد ، والمتناهي ينفذ قبل أن ينفد غير المتناهي لا محالة . وقرئ " ينفد " بالياء و{ مدداً } بكسر الميم جمع مدة وهي ما يستمده الكاتب ومداداً . وسبب نزولها أن اليهود قالوا في كتابكم { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } وتقرؤون { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا} (109)

وأما قوله { قل لو كان البحر } إلى آخر الآية ، فروي أن سبب الآية أن اليهود قالت للنبي عليه السلام كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها ، ومبعوث إليها ، وأنك أعطيت ما يحتاجه الناس من العلم ، وأنت مقصر ، قد سئلت في الروح ولم تجب فيه ، ونحو هذا من القول ، فنزلت الآية معلمة باتساع معلومات الله عز وجل ، وأنها غير متناهية ، وأن الوقوف دونها ليس ببدع ولا نكير ، فعبر عن هذا بتمثيل ما يستكثرونه ، وهو قوله { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي } و «الكلمات » : هي المعاني القائمة بالنفس ، وهي المعلومات ، ومعلومات الله سبحانه لا تناهى ، و { البحر } متناه ، ضرورة ، وقرأ الجمهور : «تنفد » بالتاء من فوق{[7910]} ، وقرأ عمرو بن عبيد «ينفد » بالياء وقرأ ابن مسعود وطلحة : قبل أن تقضي كلمات ربي ، وقوله { مداداً } أي زيادة ، وقرأ الجمهور : «مداداً » وقرأ ابن عباس وابن مسعود والأعمش ومجاهد والأعرج «مدداً » ، فالمعنى لو كان البحر { مداداً } تكتب به معلومات الله عز وجل ، لنفد قبل أن يستوفيها ، وكذلك إلى ما شئت من العدد .


[7910]:قد يسأل سائل: لماذا قال الله تبارك وتعالى في أول الآية: [مِدادا]، وقال في آخرها: [مَدادا]، والمعنى واحد، والاشتقاق غير مختلف؟ أجاب ابن الأنباري عن ذلك فقال: أواخر الآيات السابقة على فعل وفعل، كقوله: [نُزلا]، [هزوا]، [حولا]، ولهذا فإن الأشبه بها هو [مَدادا] لأنه يحقق اتفاق المقاطع، وتمام السجع مما يجعل الكلام أخف على الألسن، وأحلى في الأسماع.