بعد ذلك يحكي السياق عن حال طائفة أخرى - في الصف المسلم - أم لعلها هي طائفة المنافقين يذكر عنها فعلا جديدا ، وفصلا جديدا ! ومع الحكاية التنفير من الفعلة ؛ ومع التنفير التعليم والتوجيه والتنظيم . . كل ذلك في آيات قليلة ، وعبارات معدودة :
( ويقولون : طاعة . فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول - والله يكتب ما يبيتون - فأعرض عنهم ، وتوكل على الله ، وكفى بالله وكيلا . أفلا يتدبرون القرآن ؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا ) . .
إن هذا الفريق من الناس إذا كان عند رسول الله [ ص ] يسمع منه القرآن وما فيه من التكاليف . . قالوا : ( طاعة ) . . قالوها هكذا جامعة شاملة . طاعة مطلقة . لا اعتراض ولا استفهام ولا استيضاح ولا استثناء ! ولكن ما إن يخرجوا من عند رسول الله [ ص ] حتى تبيت طائفة منهم غير الذي تقول ؛ وتروح في ما بينها تتآمر على عدم التنفيذ ؛ وعلى اتخاذ خطة للتخلص من التكليف .
أم لعل النص يصور حال الجماعة المسلمة كلها ؛ ويستثني منها هذه الطائفة ذات الشأن الخاص ، والتصرف الخاص . . ويكون المعنى أن المسلمين يقولون : طاعة . بجملتهم . ولكن طائفة منهم - وهي هذه الطائفة المنافقة - إذا خرجت بيت أفرادها غير ما قالوا . . وهي صورة ترسم تلك الخلخلة بعينها في الصف المسلم . فإن هؤلاء مندسون فيه على كل حال . وتصرفهم على هذا النحو يؤذي الصف ويخلخله ؛ والجماعة المسلمة تخوض المعركة في كل ميادينها وبكل قوتها !
والله - سبحانه - يطمئن النبي [ ص ] والمخلصين في الصف . يطمئنهم بأن عينه على هذه الطائفة التي تبيت وتمكر . وشعور المسلمين بأن عين الله على المبيتين الماكرين يثبت قلوبهم ، ويسكب فيها الطمأنينة إلى أن هذه الطائفة لن تضرهم شيئا بتآمرها وتبيتها . ثم هي تهديد ووعيد للمتآمرين المبيتين ؛ فلن يذهبوا مفلحين ، ولن يذهبوا ناجين :
وكان الخطة التي وجه الله إليها نبيه [ ص ] في معاملة المنافقين ، هي أخذهم بظاهرهم - لا بحقيقة نواياهم - والإعراض والتغاضي عما يبدر منهم . . وهي خطة فتلتهم في النهاية ، وأضعفتهم ، وجعلت بقاياهم تتوارى ضعفا وخجلا . . وهنا طرف من هذه الخطة :
ومع هذا التوجيه بالإغضاء عنهم ، التطمين بكلاءة الله وحفظة مما يبيتون :
( وتوكل على الله . . وكفى بالله وكيلاً ) . .
نعم . . وكفى بالله وكيلا . لا يضار من كان وكيله ؛ ولا يناله تآمر ولا تبيت ولا مكيدة . .
وكأنما كان الذي يدفع هذه الطائفة إلى أن تقول في حضرة الرسول [ ص ] مع القائلين : ( طاعة ) فإذا خرجت بيتت غير الذي تقول . . كأنما كان هذا بسبب شكهم في مصدر ما يأمرهم به الرسول -[ ص ] - وظنهم أن هذا القرآن من عنده ! وحين يوجد مثل هذا الشك لحظة يتوارى سلطان الأمر والتكليف جملة . فهذا السلطان مستمد كله من الاعتقاد الجازم الكامل ، بأن هذا كلام الله ، وبأنه [ ص ] لا ينطق عن الهوى . . ومن ثم كان هذا التوكيد الشديد الجازم المكرر على هذه الحقيقة . .
{ ويقولون } إذا أمرتهم بأمر . { طاعة } أي أمرنا أو منا طاعة ، وأصلها النصب على المصدر ورفعها للدلالة على الثبات . { فإذا برزوا من عندك } خرجوا . { بيت طائفة منهم غير الذي تقول } أي زورت خلاف ما قلت لها ، أو ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة ، والتبييت إما من البيتوتة لأن الأمور تدبر بالليل ، أو من بيت الشعر ، أو البيت المبني لأنه يسوي ويدبر . وقرأ أبو عمرو وحمزة { بيت طائفة } بالإدغام لقربهما في المخرج . { والله يكتب ما يبيتون } يثبته في صحائفهم للمجازاة ، أو في جملة ما يوحى إليك لتطلع على أسرارهم . { فأعرض عنهم } قلل المبالاة بهم أو تجاف عنهم . { وتوكل على الله } في الأمور كلها سيما في شأنهم . { وكفى بالله وكيلا } يكفيك مضرتهم وينتقم لك منهم .
وقوله تعالى : { ويقولون طاعة } الآية نزلت في المنافقين باتفاق من المفسرين ، المعنى يقولون لك يا محمد : أمرنا طاعة ، فإذا خرجوا من عندك اجتمعوا ليلاً وقالوا غير ما أظهروا لك . و { بيَّت } معناه فعل ليلاً ، فإما أخذ من بات ، وإما من البيت لأنه ملتزم بالليل وفي الأسرار التي يخاف شياعها ، ومن ذلك قول الشاعر [ الأسود بن يعفر ] : [ المتقارب ]
أتوني فَلَمْ أَرْضَ مَا بَيَّتُوا . . . وَكَانُوا أَتوني بِأَمْرٍ نكرْ{[4162]}
هبَّتْ لتعذلني بليل اسمعي *** سفهاً تبيتك للملامةِ فاهجعي{[4163]}
المعنى وتقول لي : اسمع ، وزيدت الياء إشباعاً لتصريع القافية واتباعاً للياء ، كقول امرىء القيس :
ألا أيُّها الليلُ الطويلُ أَلاَ انْجَلي . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4164]}
وقوله بأمثل ، وقرأ جمهور القراء { بيت } بتحريك التاء ، وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغامها في الطاء ، وقرأ ابن مسعود «بيت مبيت منهم يا محمد » وقوله : { تقول } يحتمل أن يكون معناه تقول أنت يا محمد ، ويحتمل ، تقول هي لك ، و { يكتب } معناه على وجهين ، إما يكتبه عنده حسب كتب الحفظة حتى يقع الجزاء ، وإما يكتبه في كتابه إليك ، أي ينزله في القرآن ويعلم بها ، قال هذا القول الزجّاج ، والأمر بالإعراض إنما هو عن معاقبتهم ومجازاتهم ، وأما استمرار دعوتهم وعظتهم فلازم ، قال الضحاك : معنى { أعرض عنهم } لا تخبر بأسمائهم ، وهذا أيضاً قبل نزول القتال على ما تقدم . ثم أمر الله تعالى بالتوكل عليه والتمسك بعروته الوثقى ثقة بإنجاز وعده في النصر ، و «الوكيل » القائم بالأمور المصلح لما يخاف من فسادها ، وليس ما غلب الاستعمال في الوكيل في عصرنا بأصل في كلام العرب ، وهي لفظة رفيعة وضعها الاستعمال العامي ، كالعريف والنقيب وغيره .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.