ولكن المشهد لا ينتهي عند هذا المنظر الطريف اللطيف . . إن هناك المنافقين والمنافقات ، في حيرة وضلال ، وفي مهانة وإهمال . وهم يتعلقون بأذيال المؤمنين والمؤمنات : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : انظرونا نقتبس من نوركم ) . . فحيثما تتوجه أنظار المؤمنين والمؤمنات يشع ذلك النور اللطيف الشفيف . ولكن أنى للمنافقين أن يقتبسوا من هذا النور وقد عاشوا حياتهم كلها في الظلام ? إن صوتا مجهلا يناديهم : ( قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) . . ويبدو أنه صوت للتهكم ، والتذكير بما كان منهم في الدنيا من نفاق ودس في الظلام : ارجعوا وراءكم إلى الدنيا . إلى ما كنتم تعملون . ارجعوا فالنور يلتمس من هناك . من العمل في الدنيا . ارجعوا فليس اليوم يلتمس النور !
" وعلى الفور يفصل بين المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات . فهذا يوم الفصل إن كانوا في الدنيا مختلطين في الجماعة : ( فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) . . ويبدو أنه سور يمنع الرؤية ولكنه لا يمنع الصوت .
يوم يقول المنافقون والمنافقات بدل من يوم ترى للذين آمنوا انظرونا انتظرونا فإنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف أو انظروا إلينا فإنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فيستضيئون بنور بين أيديهم وقرأ حمزة أنظرونا على أن اتئادهم ليلحقوا بهم إمهال لهم نقتبس من نوركم نصب منه قيل ارجعوا وراءكم إلى الدنيا فالتمسوا نورا بتحصيل المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة فإنه يتولد منها أو إلى الموقف فإنه من ثمة يقتبس أو إلى حيث شئتم فاطلبوا نورا آخر فإنه لا سبيل لكم إلى هذا وهو تهكم بهم وتخييب من المؤمنين أو الملائكة فضرب بينهم بين المؤمنين والمنافقين بسور بحائط له باب يدخل منه المؤمنون باطنه باطن السور أو الباب فيه الرحمة لأنه يلي الجنة وظاهره من قبله العذاب من جهته لأنه يلي النار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا} وهم على الصراط {انظرونا} يعني ارقبونا {نقتبس من نوركم} فنمضي معكم {قيل} يعني قالت الملائكة: {ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا} من حيث جئتم فالتمسوا نورا من الظلمة، فرجعوا فلم يجدوا شيئا {فضرب} الله {بينهم} يعني بين أصحاب الأعراف وبين المنافقين {بسور له باب} يعني بالسور حائط بين أهل الجنة، وبين أهل النار {باطنه} يعني باطن السور {فيه الرحمة} وهو مما يلي الجنة {وظاهره} من قبل النار، وهو الحجاب ضرب بين أهل الجنة والنار، وهو السور، والأعراف ما ارتفع من السور، {الرحمة} يعني الجنة، {وظاهره من قبله العذاب}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هو الفوز العظيم في يوم يقول المنافقون والمنافقات، واليوم من صلة الفوز للذين آمنوا بالله ورسله: انظرونا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله:"انْظُرُونا"؛ فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة انْظُرُونا موصولة بمعنى: انتظرونا، وقرأته عامة قرّاء الكوفة «أنْظُرُونا» مقطوعة الألف من أنظرت بمعنى: أخرونا، وذكر الفرّاء أن العرب تقول: أنظرني وهم يريدون: انتظرني قليلاً... والصواب من القراءة في ذلك عندي الوصل، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب إذا أريد به انتظرنا، وليس للتأخير في هذا الموضع معنى، فيقال: أنظرونا، بفتح الألف وهمزها.
وقوله: "نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُم" يقول: نستصبح من نوركم، والقبس: الشعلة.
وقوله: "قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فالْتَمِسُوا نُورا" يقول جلّ ثناؤه: فيجابون بأن يقال لهم: ارجعوا من حيث جئتم، واطلبوا لأنفسكم هنالك نورا، فإنه لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا...
وقوله: "فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ" يقول تعالى ذكره: فضرب الله بين المؤمنين والمنافقين بسُور، وهو حاجز بين أهل الجنة وأهل النار...
وقوله: "لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ" يقول تعالى ذكره: لذلك السور باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبل ذلك الظاهر العذاب: يعني النار...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... ثم الآية دلت على أن أهل النفاق يكونون ببعد من المؤمنين، ولا ينتفعون بنور المؤمنين. ولكن يرون ذلك اليوم من بعد فيقولون: {انظرونا نقتبس من نوركم} ولو كانوا بقرب منهم، أو ينتفعون بنورهم لكانوا لا يطلبون منهم الانتظار لهم والاقتباس من نورهم، والله أعلم. وقوله تعالى: {قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا} من الناس من يقول: إن هذا هو الاستهزاء الذي ذكر في آية أخرى أنه يستهزئ بهم حين قال: {الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15] بقوله: {ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا} هو ذلك الاستهزاء. وجائز أن يكون قوله: {ارجعوا وراءكم} ليس على الأمر بالرجوع إلى وراء والتماس النور، ولكن على التوبيخ والتعبير، أي النور إنما يطلب من وراء هذا اليوم، أي من قبل هذا اليوم لا يطلب فيه...
جائز أن يكون السور الذي ذكر الذي ضرب بينهم ما ذكر في سورة الأعراف حين قال: {وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال} [الآية: 46] السور هو الأعراف الذي ذكر أنه يكون حجابا بين أهل النار وأهل الجنة. يرفع ذلك السور بينهم لئلا ينتفعوا بنور المؤمنين...
جائز أن يكون قوله: {له باب} ليس على حقيقة الباب [ولكن] كناية عن الطريق والسبيل؛ يقول: هو طريق وسبيل من يأخذ ذلك السبيل أفضاه إلى الرحمة. ومن سلك ظاهره أفضاه إلى العذاب. وجائز أن يفتح من النار إلى الجنة باب، فيرون ما حل بهم من العذاب، ويرى أهل النار أهل الجنة على ما هم عليه من النعيم ليزدادوا حسرة وندامة، أو يكون اطلاعا لا من باب ولكن من السور والأعراف الذي ذكر...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالتَمِسُوا نُوراً}: ارجعو فاعملوا عملاً يجعل الله بين أيديكم نوراً.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
يدل على أن الأنوار لابد وأن تتزود أصلها في الدنيا ثم يزداد في الآخرة إشراقا فأما أن يتجدد نور فلا. (نفسه: 4/342)...
... والمراد من ضرب السور، هو امتناع العود إلى الدنيا... {ارجعوا} منع المنافقين عن الاستضاءة، كقول الرجل لمن يريد القرب منه: وراءك أوسع لك، فعلى هذا القول المقصود من قوله: {ارجعوا} أن يقطعوا بأنه لا سبيل لهم إلى وجدان هذا المطلوب البتة، لا أنه أمر لهم بالرجوع.
{يوم} أي يوم القيامة يوم يرى المؤمنون نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يوصلهم إلى الجنة، في نفس هذا اليوم {يقولُ المُنافقُون والمنافقاتُ للذين آمنُوا انظرونا..} [الحديد] أي: انتظرونا {نَقْتَبِس من نُوركِم..} نأخذ منه قبساً نستضيء به ونهتدي به، فيُقال لهم: (ارجعُوا وَرَاءكُم فالتَمِسُوا نُوراً..}
أي: عودوا إلى الدنيا فاطلبوا النور الذي يهديكم الآن، لأن النور الذي نهتدي به الآن قدّمناه عملاً صالحاً في الدنيا يوم آمنّا بالله ورسوله وأطعنا، والآن نجني ثمرة ما قدّمناه، وعليكم أن تستأنفوا حياة جديدة حيث التكليف والعمل، فاليوم جزاء لا عمل.
وتأمل هنا عظمة الأداء القرآني: فالحوار يدور بين المؤمنين والمنافقين، ومع ذلك بنى الفعل (قيل) للمجهول ولم يقل قال المؤمنون للمنافقين حتى لا يكون في الموقف شماتة، ولا يريد أنْ يُوقف المؤمنين هذا الموقف، فكأن الصوت جاءهم من جهة لا يعرفونها.
وقوله تعالى: {فضُربَ بينَهُم..} بين المؤمنين والمنافقين {بسُورٍ لّهُ بابٌ..} وهكذا أنهى الحق سبحانه هذا الحوار وحجز المؤمنين عن المنافقين بسور له باب حتى لا يروْهم ولا يسمعوهم، لأن المؤمن بطبعه رقيق القلب.
فربّه عز وجل يحمي سمعه ويحمي بصره أنْ يتأذّى بما يعانيه المنافقون في جهنم والعياذ بالله {بسُورٍ لهُ بابٌ باطنُهُ فيه الرّحمَةُ..} من ناحية المؤمنين {وظاهرُهُ من قبله العذابُ} من ناحية المنافقين.
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.