وقد كان التعجيب من أهل الكتاب عامة - وكان المفهوم أن المعنيين هم يهود المدينة - ولكن السياق لا يكتفي بهذا المفهوم . بل يمضي فيعين اليهود . ثم يصف حالهم وتصرفاتهم وسوء أدبهم مع الرسول [ ص ] في هذه الفترة التي يبدو أنها كانت في أوائل سنوات الهجرة ، قبل أن تخضد شوكتهم في المدينة :
( من الذين هادوا ، يحرفون الكلم عن مواضعه ؛ ويقولون : سمعنا وعصينا . واسمع - غير مسمع - وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين . ) . .
لقد بلغ من التوائهم ، وسوء أدبهم مع الله عز وجل : أن يحرفوا الكلام عن المقصود به . والأرجح أن ذلك يعني تأويلهم لعبارات التوراة بغير المقصود منها . وذلك كي ينفوا ما فيها من دلائل على الرسالة الأخيرة ؛ ومن أحكام كذلك وتشريعات يصدقها الكتاب الأخير ؛ وتدل وحدتها في الكتابين على المصدر الواحد ؛ وتبعا لهذا على صحة رسالة النبى [ ص ] . وتحريف الكلم عن المقصود به ، ليوافق الأهواء ، ظاهرة ملحوظة في كل رجال دين ينحرفون عن دينهم ، ويتخذونه حرفة وصناعة ، يوافقون بها أهواء ذوي السلطان في كل زمان ؛ وأهواء الجماهير التي تريد التفلت من الدين . . واليهود أبرع من يصنع ذلك . وإن كان في زماننا هذا من محترفي دين المسلمين من ينافسون - في هذه الخصلة - اليهود !
ثم بلغ من التوائهم وسوء أدبهم مع رسول الله [ ص ] أن يقولوا له : سمعنا يا محمد ما تقول . ولكننا عصينا ! فلا نؤمن ولا نتبع ولا نطيع ! - مما يدل على أن هذه الآيات نزلت في وقت مبكر ، حيث كانت لليهود هذه الجرأة على مواجهة النبي [ ص ] ثم يضيفون إلى التبجح سوء الأدب والخلق والالتواء أيضا . إذ يقولون للرسول [ ص ] :
( واسمع - غير مسمع - وراعنا ) . .
ففي ظاهر اللفظ أنهم يقولون : اسمع - غير مأمور بالسمع [ وهي صيغة تأدب ] - وراعنا : أى : انظر إلينا نظرة رعاية لحالنا أو نظرة اهتمام لوضعنا . بما أنهم أهل كتاب ، فلا ينبغي أن يدعوا إلى إلاسلام كالمشركين !
أما في اللي الذي يلوونه ، فهم يقصدون : اسمع - لا سمعت ، ولا كنت سامعا ! - [ أخزاهم الله ] . وراعنا يميلونها إلى وصف " الرعونة " !
وهكذا . . تبجح وسوء أدب ، والتواء ومداهنة ، وتحريف للكلم عن مواضعه وعن معانيه . .
وبعد أن يحكي القرآن هذا عنهم ؛ يقرر المنهج اللائق بأهل الكتاب ؛ والأدب الجدير بمن أوتوا نصيبا منه . ويطمعهم - بعد ذلك كله - في الهداية والجزاء الحسن والفضل والخير من الله . لو ثابوا إلى الطريق القويم . وذلك مع بيان حقيقة طبيعتهم . وأنها هكذا كانت وهكذا تكون :
( ولو أنهم قالوا : سمعنا وأطعنا ، واسمع وانظرنا ، لكان خيرا لهم وأقوم ، ولكن لعنهم الله بكفرهم ، فلا يؤمنون إلا قليلاً ) . .
فهم لا يواجهون الحق بهذه الصراحة وهذه النصاعة وهذه الاستقامة . ولو أنهم واجهوه هكذا بالألفاظ الصريحة التي لا التواء فيها :
( سمعنا وأطعنا ، واسمع وانظرنا ) .
لكان هذا خيرا لهم ، وأقوم لطبيعتهم وأنفسهم وحالهم . ولكن واقع الأمر أنهم - بسبب كفرهم - مطرودون من هداية الله . فلا يؤمن منهم إلا القليل .
وصدق قول الله . . فلم يدخل في الإسلام - في تاريخه الطويل - إلا القليل من اليهود . ممن قسم الله لهم الخير ، وأراد لهم الهدى ؛ باجتهادهم للخير وسعيهم للهدى . أما كتلة اليهود ، فقد ظلت طوال أربعة عشر قرنا ، حربا على الإسلام والمسلمين . منذ أن جاورهم الإسلام في المدينة إلى اللحظة الحاضرة . وكيدهم للإسلام كان هو الكيد الواصب الذي لا ينقطع ، العنيد الذي لا يكف ، المنوع الأشكال والألوان والفنون ، منذ ذلك الحين ! وما من كيد كاده أحد للإسلام في تاريخه كله - بما في ذلك كيد الصليبية العالمية والاستعمار بشتى أشكاله - إلا كان من ورائه اليهود . أو كان لليهود فيه نصيب !
{ من الذين هادوا يحرفون } بيان للذين أوتوا نصيبا فإنه يحتملهم وغيرهم ، وما بينهما اعتراض أو بيان لأعدائكم أو صلة لنصيرا . أي ينصركم من الذين هادوا ويحفظكم منهم ، أو خبر محذوف صفته يحرفون . { الكلم عن مواضعه } أي من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها بإزالته عنها وإثبات غيره فيها . أو يؤولونه على ما يشتهون فيميلونه عما أنزل الله فيه . وقرئ الكلم بكسر الكاف وسكون اللام جمع كلمة تخفيف كلمة . { ويقولون سمعنا } قولك . { عصينا } أمرك . { واسمع غير مسمع } أي مدعوا عليك بلا سمعت لصمم أو موت ، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه ، أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه ، أو اسمع كلاما غير مسمع إياك لأن أذنك تنبو عنه فيكون مفعولا به ، أو اسمع غير مسمع مكروها من قولهم أسمعه فلان إذا سبه ، وإنما قالوه نفاقا . { وراعنا } انظرنا نكلمك أو نفهم كلامك . { ليا بألسنتهم } فتلا بها وصرفا للكلام إلى ما يشبه السب ، حيث وضعوا راعنا المشابه لما يتسابون به موضع انظرنا وغير مسمع موضع لا أسمعت مكروها ، أو فتلا بها وضما لما يظهرون من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرون من السب والتحقير نفاقا . { وطعنا في الدين } استهزاء به وسخرية . { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا } ولو ثبت قولهم هذا مكان ما قالوه . { لكان خيرا لهم وأقوم } لكان قولهم ذلك خيرا لهم وأعدل ، وإنما يجب حذف الفعل بعد لو في مثل ذلك لدلالة أن عليه ووقوعه موقعه . { ولكن لعنهم الله بكفرهم } ولكن خذلهم الله وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم . { فلا يؤمنون إلا قليلا } أي إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به وهو الإيمان ببعض الآيات والرسل ، ويحتمل أن يراد بالقلة العدم كقوله :
قليل التشكي للمهم يصيبه *** أو إلا قليلا منهم آمنوا أو سيؤمنون
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.