( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه . ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل ، وجعل لله أنداداً ، ليضل عن سبيله . قل : تمتع بكفرك قليلاً ، إنك من أصحاب النار ) . .
إن فطرة الإنسان تبرز عارية حين يمسه الضر ؛ ويسقط عنها الركام ؛ وتزول عنها الحجب ، وتتكشف عنها الأوهام ؛ فتتجه إلى ربها ، وتنيب إليه وحده ؛ وهي تدرك أنه لا يكشف الضر غيره . وتعلم كذب ما تدعي من شركاء أو شفعاء .
فأما حين يذهب الضر ويأتي الرخاء ، ويخوله الله نعمة منه ، ويرفع عنه البلاء . فإن هذا الإنسان الذي تعرت فطرته عند مس الضر يعود فيضع عليها الركام ، وينسى تضرعه وإنابته وتوحيده لربه . وتطلعه إليه في المحنة وحده ، حين لم يكن غيره يملك أن يدفع عنه محنته . . ينسى هذا كله ويذهب يجعل لله أنداداً . إما آلهة يعبدها كما كان في جاهليته الأولى ؛ وإما قيماً وأشخاصاً وأوضاعاً يجعل لها في نفسه شركة مع الله ، كما يفعل في جاهلياته الكثيرة ! فإذا هو يعبد شهواته وميوله ومطامعه ومخاوفه وماله وأولاده وحكامه وكبراءه كما يعبد الله أو أخلص عبادة ؛ ويحبها كما يحب الله أو أشد حباً ! والشرك ألوان . فيها الخفي الذي لا يحسبه الناس شركاً ، لأنه لا يأخذ شكل الشرك المعروف وإنما هو من الشرك في الصميم .
وتكون العاقبة هي الضلال عن سبيل الله . فسبيل الله واحد لا يتعدد . وإفراده بالعبادة والتوجه والحب هو وحده الطريق إليه . والعقيدة في الله لا تحتمل شركة في القلب . لا تحتمل شركة من مال ولا ولد ولا وطن ولاأرض ولا صديق ولا قريب ، فأيما شركة قامت في القلب من هذا وأمثاله فهي اتخاذ أنداد لله ، وضلال عن سبيل الله ، منته إلى النار بعد قليل من المتاع في هذه الأرض :
( قل : تمتع بكفرك قليلاً : إنك من أصحاب النار ) . .
وكل متاع في هذه الأرض قليل مهما طال . وأيام الفرد على هذه الأرض معدودة مهما عمر . بل إن حياة الجنس البشري كله على الأرض لمتاع قليل ، حين يقاس إلى أيام الله !
{ وإذا مس الإِنسان } : الإِنسان أي المشرك .
{ ضر } : أي مرض أو خوف غرق ونحوه من كل مكروه لا يقدر على دفعه .
{ دعا ربه منيباً إليه } : أي سال ربّه كشف ما أصابه من ضر راجعاً إليه معرضا عمن سواه .
{ إذا خوله نعمة منه } : أي أعطاه نعمة منه بأن كشف ما به من ضر .
{ نسى ما كان يدعو إليه من قبل } : أي ترك ما كان يتضرع إليه من قبل وهو الله سبحانه وتعالى .
{ وجعل لله أنداداً } : أي شركاء .
{ ليضل عن سبيله } : أي ليضل نفسه وغيره عن الإِسلام .
{ قل تمتع بكفرك قليلا } : أي قل يا نبيّنا لهذا الكافر الضال المضل تهديداً تمتع بكفرك بقية أجلك .
{ إنك من أصحاب النار } : أي أهلها المتأهلين لها بخبث نفوسهم وظلمة أرواحهم .
ما زال السياق في تقرير التوحيد وإبطال التنديد ، فقال تعالى مخبراً عن حال المشرك بربه المتخذ له أنداداً يعبدها معه { وإذ مسّ الإِنسان ضرّ دعا ربّه منيبا إليه } أي سأل ربّه راجعا إليه رافعا إليه يديه يا رباه رباه سائلا تفريج ما به وكشف ما نزل به { ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل } حتى إذا فرَّج الله كربه ومجاه ، وترك دعاء الله ، وأقبل على عبادة غير الله ، { وجعل لله أنداداً } أي شركاء { ليضل } نفسه وغيره . وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول له نيابة عن الله تعالى قل يا رسولنا لهذا المشرك الكافر تمتع بكفرك قليلا أي مدة بقية عمرك إنك من أصحاب النار ، هكذا هدده ربّه وخوفه بعاقبة أمر الشرك والتنديد لعله ينتهي فيتوب توبة صادقة ويرجع إلى الله رجوعاً حسناً جميلا .
- تقرير التوحيد وإبطال الشرك والتنديد .
- الكشف عن داخلية الإِنسان قبل أن يؤمن ويُسلم وهو أنه إنسان متناقض لا خير فيه ولا رشد له ، فلا يرشد ولا يكمل إلا بالإِيمان والتوحيد .
قوله تعالى : " وإذا مس الإنسان " يعني الكافر " ضر " أي شدة من الفقر والبلاء " دعا ربه منيبا إليه " أي راجعا إليه مخبتا مطيعا له مستغيثا به في إزالة تلك الشدة عنه . " ثم إذا خوله نعمة منه " أي أعطاه وملكه . يقال : خولك الله الشيء أي ملكك إياه ، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد :
هنالك إن يُسْتَخْوَلُوا المالَ يُخْوِلُوا *** وإن يُسْأَلُوا يعطوا وإن يَيْسِرُوا يُغْلُوا
وخول الرجل : حشمه ، الواحد خائل . قال أبو النجم :
أعطى فلم يبخَلْ ولم يُبَخَّلِ *** كُومُ الذُّرَى من خَوَلِ المُخَوَّلِ
قوله تعالى : " نسي ما كان يدعو إليه من قبل " أي نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل في كشف الضر عنه . ف " ما " على هذا الوجه لله عز وجل وهي بمعنى الذي . وقيل : بمعنى من كقوله : " ولا أنتم عابدون ما أعبد " [ الكافرون : 3 ] والمعنى واحد . وقيل : نسي الدعاء الذي كان يتضرع به إلى الله عز وجل . أي ترك كون الدعاء منه إلى الله ، فما والفعل على هذا القول مصدر . " وجعل لله أندادا " أي أوثانا وأصناما . وقال السدي : يعني أندادا من الرجال يعتمدون عليهم في جميع أمورهم . " ليضل عن سبيله " أي ليقتدي به الجهال . " قل تمتع بكفرك قليلا " أي قل لهذا الإنسان " تمتع " وهو أمر تهديد فمتاع الدنيا قليل . " إنك من أصحاب النار " أي مصيرك إلى النار .
ولما ذكر سبحانه أنه المختص بالملك وحده ، وأتبعه بما يرضيه وما يسخطه ، أقام الدليل على ذلك الاختصاص مع أنه أوضح من الشمس بدليل وجداني لكل أحد على وجه ذمهم فيه بالتناقض الذي هم أعظم البأس ذماً له ونفرة منه وذماً به فقال : { وإذا } وهي - والله أعلم - حالية من واو { تصرفون } وكان الأصل : مسكم ، ولكنه عمم ودل بلفت القول عن الخطاب على الوصف الموجب للنسيان فقال : { مس الإنسان } أي هذا النوع الآنس بنفسه مؤمنه وكافره { ضر } أي ضر كان من جهة يتوقعها - بما أشار إليه الظرف بمطابقة لمقصود السورة مع تهديد آخر التي قبلها { دعا ربه } أي الحسن إليه الذي تقدم تنبيهكم من غفلتكم عليه بقوله " ذلكم الله ربكم " ذاكراً صفة إحسانه { منيباً } أي راجعاً رجوعاً عظيماً { إليه } بباطنه مخلصاً في ذلك عالماً أنه لا يكفيه أمره غيره ضرورة يجدها في نفسه لأن الضر أزال عنه الأموية والحظوظ ، معرضاً عما كان يزعم من الشركاء معرفاً لسان حاله أنه لا شريك له سبحانه كما هو الحق فتطابق في حال الضراء الحق والاعتقاد .
ولما كان الإنسان لما جبل عليه من الجزع واليأس إذا كان في ضر استبعد كل البعد أن يكشف عنه ، لتقيده بالجزئيات وقصوره على التعلق بالأسباب ، أشار إلى ذلك مع الإشارة إلى الوعد بتحقيق الفرج فقال : { ثم } أي بعد استبعاده جداً . ولما كان الرخاء محققاً ، وهو أكثر من الشدة ، عبر بأداة التحقق ، فقال منبهاً بالتعبير ب " خول " على أن عطاءه ابتداء فضل منه لا يستحق أحد عليه شيئاً ، لأن التخويل لا يكون جزاء بل ابتداء : { إذا خوله } أي أعطاه عطاء متمكناً ابتداء ، وجعله حسن القيام عليه قادراً على إجادة تعهده { نعمة منه } ومكنه فيها { نسي } أي مع دعائه أن يشكر على الإحسان ، فكانت مدة تخويله ظرف نسيانه ، فعلم أن صلاحه بالضراء { ما } أي الأمر الذي { كان يدعوا } ربه على وجه الإخلاص { إليه }أي إلى كشفه من ذلك الضر الذي كان ، وأعلم بتقارب وقتي النسيان والإنابة بإثبات الجار فقال : { من قبل } أي قبل حال التخويل { وجعل } زيادة على الكفران بنسيان الإحسان { لله } أي الذي لا مكافئ له بشهادة الفطرة والعقل والسمع { أنداداً } أي لكونه يتأهلهم ، فينزلهم بذلك منزلة من يكون قادراً على المعارضة والمعاندة ، فقد علم من التعبير بالنسيان أنه عالم بربه ، ولذلك دعاه في كشف ضره وأنه جعل علمه عند الإحسان إليه جهلاً ، فكان كمن لا يعلم من سائر الحيوانات العجم .
ولما كان ذلك في غاية الضلال ، لكونه - مع أنه خطأ - موجباً لقطع الإحسان وعدم الإجابة في كشف الضر مرة أخرى وكانوا يدعون أنهم أعقل الناس ، وكان هذا الضلال في غاية الظهور ، وكان العاقل لا يفعل شيئاً إلا لعلة ، عظمهم تهكماً بهم عن أن يكونوا ضلوا هذا الضلال الظاهر من غير قصد إليه ، فقال مشيراً إلى ذلك كله : { ليضل } أي بنفسه عند فتح الياء ، ويضل غيره عند من ضمها { عن سبيله } أي الطريق الموصل إلى رضوانه ، الموجب للفوز بإحسانه .
ولما كان من المعلوم المحقق المقطوع به المركوز في الفطر الأولى المستمر فيما بعدها أن الملك لا يدع من يعصيه بغير عقاب ، وكان قد ثبت بقضية الإجماع وقت الاضطرار أنه لا يلتفت إلى أحد سوى الله وكان من التفت - بعد أن أنجاه الله من ضرره وأسبغ عليه من نعمه - كافراً من غير شك عند ذي عقل ، وكان من كان بهذه المثابة في هذه الدار هم أهل النعم الكبار ، والتمتع الصافي عن الأكدار ، كان من المعلوم أنه لا بد من عقوبته في دار القرار ، فقال تعالى مبيناً لأن هذا التمتع إنما هو سبب هذا الكفران استدراجاً مع الإعراض المؤذن بالغضب { قل } أي يا أحب خلقنا إلينا المستحق للإقبال عليه بالخطاب ، لهذا الذي قد حكم بكفره مهدداً له بما يقوته بلذيذ عيشه في الدنيا من الفيض من الجناب الأقدس ويؤول إليه أمره من العذاب الأكبر : { تمتع } أي في هذه الدنيا التي هي وكل ما فيها - مع كونه زائلاً - يفيض إلى الله ، فهو من جملة المقت إلا لمن صرفه في طاعة الله .
ولما ذكر تمتيعه بالخسيس ، ذكر سببه الخسيس تعظيماً لأجور المؤمنين لانصرافهم عن الكفر مع علمهم بأنه من أسباب التمتيع وبياناً لذوي الهمم العوال من غيرهم فقال : { بكفرك } ثم أشار إلى قلة زمن الدنيا وما فيها في جنب الآخرة فقال : { قليلاً } ثم علل ذلك بما إذا غمس في عذابه أنعم أهل الدنيا غمسة واحدة قال : ما رأيت نعيماً قط ، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم بالنار ، ودفعاً لما استقر في نفوسهم أن تنعيمهم في الدنيا إنما هو لقربهم من الله ومحبته لهم ، وأن ذلك يتصل بنعيم الآخرة على تقدير كونها : { إنك } وهذا الأمر هنا يراد به الزجر ، تقديره : إن تمتعت هكذا كنت { من أصحاب النار * } أي الذين لم يخلقوا إلا لها{ ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها }[ الأعراف : 179 ] .