شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ، والذي أوحينا إليك ، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه . كبر على المشركين ما تدعوهم إليه . الله يجتبي إليه من يشاء ، ويهدي إليه من ينيب . وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم - بغياً بينهم - ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب . فلذلك فادع واستقم كما أمرت ، ولا تتبع أهواءهم ، وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب ؛ وأمرت لأعدل بينكم ، الله ربنا وربكم ، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، لا حجة بيننا وبينكم ، الله يجمع بيننا وإليه المصير . والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد . .
لقد جاء في مطلع السورة : ( كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ) . . فكانت هذه إشارة إجمالية إلى وحدة المصدر ، ووحدة المنهج ، ووحدة الاتجاه . فالآن يفصل هذه الإشارة ؛ ويقرر أن ما شرعه الله للمسلمين هو - في عمومه - ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى . وهو أن يقيموا دين الله الواحد ، ولا يتفرقوا فيه . ويرتب عليها نتائجها من وجوب الثبات على المنهج الإلهي القديم ، دون التفات إلى أهواء المختلفين . ومن هيمنة هذا الدين الواضح المستقيم ، ودحض حجة الذين يحاجون في الله ، وإنذارهم بالغضب والعذاب الشديد .
ويبدو من التماسك والتناسق في هذه الفقرة كالذي بدا في سابقتها بشكل ملحوظ :
( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ، والذي أوحينا إليك ، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) . .
وبذلك يقرر الحقيقة التي فصلناها في مطلع السورة . حقيقة الأصل الواحد ، والنشأة الضاربة في أصول الزمان ويضيف إليها لمحة لطيفة الوقع في حس المؤمن . وهو ينظر إلى سلفه في الطريق الممتدة من بعيد . فإذا هم على التتابع هؤلاء الكرام . . نوح . إبراهيم . موسى عيسى ، محمد - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - ويستشعر أنه امتداد لهؤلاء الكرام وأنه على دربهم يسير . إنه سيستروح السير في الطريق ، مهما يجد فيه من شوك ونصب ، وحرمان من أعراض كثيرة . وهو برفقة هذا الموكب الكريم على الله . الكريم على الكون كله منذ فجر التاريخ .
ثم إنه السلام العميق بين المؤمنين بدين الله الواحد ، السائرين على شرعه الثابت ؛ وانتفاء الخلاف والشقاق ؛ والشعور بالقربى الوثيقة ، التي تدعو إلى التعاون والتفاهم ، ووصل الحاضر بالماضي ، والماضي بالحاضر ، والسير جملة في الطريق .
وإذا كان الذي شرعه الله من الدين للمسلمين المؤمنين بمحمد هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى . ففيم يتقاتل أتباع موسى وأتباع عيسى ? وفيم يتقاتل أصحاب المذاهب المختلفة من أتباع عيسى ؛ وفيم يتقاتل أتباع موسى وعيسى مع أتباع محمد ? وفيم يتقاتل من يزعمون أنهم على ملة إبراهيم من المشركين مع المسلمين ? ولم لا يتضام الجميع ليقفوا تحت الراية الواحدة التي يحملها رسولهم الأخير ? والوصية الواحدة الصادرة للجميع : ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )? فيقيموا الدين ، ويقوموا بتكاليفه ، ولا ينحرفوا عنه ولا يلتووا به ؛ ويقفوا تحت رايته صفا ، وهي راية واحدة ، رفعها على التوالي نوح وإبراهيم وموسى وعيسى - صلوات الله عليهم - حتى انتهت إلى محمد [ صلى الله عليه وسلم ] في العهد الأخير .
ولكن المشركين في أم القرى ومن حولها - وهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم - كانوا يقفون من الدعوة القديمة الجديدة موقفاً آخر :
( كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ) . .
كبر عليهم أن يتنزل الوحي على محمد من بينهم ؛ وكانوا يريدون أن يتنزل ( على رجل من القريتين عظيم )أي صاحب سلطان من كبرائهم . ولم تكن صفات محمد الذاتية وهو بإقرارهم الصادق الأمين ، ولا كان نسبه وهو من أوسط بيت في قريش . ما كان هذا كله يعدل في نظرهم أن يكون سيد قبيلة ذا سلطان !
وكبر عليهم أن ينتهي سلطانهم الديني بانتهاء عهد الوثنية والأصنام والأساطير التي يقوم عليها هذا السلطان ؛ وتعتمد عليها مصالحهم الاقتصادية والشخصية . فتشبثوا بالشرك وكبر عليهم التوحيد الخالص الواضح الذي دعاهم إليه الرسول الكريم .
وكبر عليهم أن يقال : إن آباءهم الذين ماتوا على الشرك ماتوا على ضلالة وعلى جاهلية ؛ فتشبثوا بالحماقة ، وأخذتهم العزة بالإثم ، واختاروا أن يلقوا بأنفسهم إلى الجحيم ، على أن يوصم آباؤهم بأنهم ماتوا ضالين .
والقرآن يعقب على موقفهم هذا بأن الله هو الذي يصطفي ويختار من يشاء ؛ وأنه كذلك يهدي إليه من يرغب في كنفه ، ويتوب إلى ظله من الشاردين :
( الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ) . .
وقد اجتبى محمداً [ صلى الله عليه وسلم ] للرسالة . وهو يفتح الطريق لمن ينيب إليه ويثوب .
{ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا } اتفق دين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مع جميع الأنبياء في أصول الاعتقادات ، وذلك هو المراد هنا ، ولذلك فسره بقوله : { أن أقيموا الدين } يعني : إقامة الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته ، والإيمان برسله وكتبه وبالدار الآخرة ، وأما الأحكام الفروعية فاختلفت فيها الشرائع فليست تراد هنا .
{ أن أقيموا } يحتمل أن تكون أن في موضع نصب بدلا من قوله : { ما وصى } أوفى موضع خفض بدلا من به أوفى موضع رفع على خبر ابتداء مضمر أو تكون مفسرة لا موضع لها من الإعراب .
{ كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } أي : صعب الإسلام على المشركين .
{ الله يجتبي إليه من يشاء } الضمير في إليه يعود على الله تعالى وقيل : على الدين .
ولما ثبت أن له كل شيء وأنه لا متصرف في الوجود سواه ، أنتج ذلك أنه لا ناهج لطرق الأديان التي هي أعظم الرزق وأعظم قاسمة للرزق غيره ، فأعلمهم أنه لم يشرع ديناً قديماً وحديثاً غير ما اتفقوا عليه وقت الشدائد . فقال دالاً على ما ختم به الآية التي قبلها من شمول علمه ومرغباً في لزوم ما هدى إليه ودل عليه : { شرع } أي طرق وسن طريقاً ظاهراً بيناً واضحاً { لكم } أيتها الأمة الخاتمة من الطرق الظاهرة المستقيمة { من الدين } وهو ما يعمل فيجازي عليه . ولما كان السياق للدين ، وكانوا هم المقصودين في هذا السياق بالأمر به ، لأن الشارع لهم قد أنتجه ، وكانوا لتقليدهم الآباء يرون أن ما كان منه أقدم كان أعظم وأحكم ، ذكر لهم أول الآباء المرسلين إلى المخالفين فقال : { ما } أي الذي { وصى به } توصية عظيمة بعد إعلامه بانه شرعه { نوحاً } في الزمان الأقدم كما ختم به على لسان الخاتم ، وأرسل به من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير لأنه لا يرضيه سواه ، فإن كنتم إنما تأنفون من الدخول في هذا الدين لحدوثه فإنه أقدم الأديان وكل ما سواه حادث مع أنه ما بعث نبياً من أنبيائكم ولا من غيرهم إلا به ومع أنه توفرت على الشهادة به الفطر الأولى دائماً والفطر اللاحقة حتى من القلوب العاتية في أوقات الشدائد أبداً فأدخلوا فيه على بصيرة .
ولما كان الإعجاز خاصاً بنا ، أبرزه في مظهر العظمة معبراً بالوحي ، وبالأصل في الموصلات ، ودالاً على زيادة عظمته بتقديمه على من كانوا قبله مع ترتيبهم عند ذكرهم على ترتيبهم في الوجود فقال : { والذي أوحينا إليك } وأفرد الضمير زيادة في عظمته دلالة على أنه لا يفهمه حق فهمه غيره صلى الله عليه وسلم ، ودل على عظمه ما كان لإبراهيم وبنيه بما ظهر من آثاره بمظهر العظمة ، وعلى نقصه عما إلى نبينا صلى الله عليه وسلم بالتعبير بالوصية فقال : { وما وصينا } أي على ما لنا من العظمة الباهرة التي ظهرت بها تلك المعجزات { به إبراهيم } الذي نجيناه من كيد نمرود بالنار وغيرها ووهبنا له على الكبر إسماعيل وإسحاق ، وهو أعظم آباء العرب وهم يدعون أكبر بالآباء فليكونوا على ما وصيناه به { وموسى } الذي أنزلنا عليه التوراة موعظة وتفصيلاً لكل شيء { وعيسى } الذي أنزلنا عليه الإنجيل فيه هدى ونور وموعظة ، ودخرناه في سمائنا لتأييد شريعة الخاتم الفاتح .
ولما اشتد تشوف السامع إلى الموحى الموصى به ، أبرزه في أسلوب الأمر فقال مبدلاً من معمول " شرع " أو مستأنفاً : { أن أقيموا } أي أيها المشروع لهم من هذه الأمة الخاتمة ومن الأمم الماضية { الدين } أي الذي اتفق عليه الخلائق بالرجوع إلى ما فطروا عليه وقت الاضطرار وهو التوحيد والوصف بجميع صفات الكمال على الإطلاق وغير ذلك من كل ما أرسل به رسله هذا على تقدير أن تكون { أن } مصدرية ، ويجوز أن تكون مفسرة لتقدم ما هو بمعنى القول .
ولما عظمه بالأمر بالاجتماع ، أتبعه التعظيم بالنهي عن الافتراق فقال : { ولا تتفرقوا } أي تفرقاً عظيماً بما أشار إليه إثبات التاء ، وكأن ذلك إشارة إلى التحذير من التفرق في الأصل وإذن في الاجتهاد على قدر القوة في الفرع { فيه } أي الدين في أوقات الرخاء عند التقلب في لذيذ ما أنعم به الشارع له الآمر به المرغب في اتباعه المرهب من اجتنابه ، واجتمعوا على ما أرسله الذي أثبتم له جميع صفات الكمال عند الشدائد من غير خلاف أصلاً في شيء من الأشياء ، فإن التفرق سبب الهلاك ، والاجتماع سبب النجاة ، فكونوا يداً واحدة يا أهل الكتاب قال تعالى { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله } .
ولما نهى عن التفرق ، حث على لزوم الاجتماع اللازم به بتعليل النهي بقوله : { كبُر على المشركين } أي جل وعظم وشق حتى ضاقت به صدورهم ، وهو { ما تدعوهم إليه } أيها النبي الفاتح الخاتم من الاجتماع أبداً على ما اجتمعوا عليه وقت الاضطرار من وحدانية الواحد القهار ، فلأجل كبره عليهم هم يسعون في تفرقكم عنه فإن تفرقتم عنه كنتم قد تابعتم العدو الحسود وخالفتم الولي الودود . ولما كان الإخبار بكرّه عليهم ربنا أوهم اتباع أتباعهم له ، أزال ذلك الوهم بقوله جواباً لمن كأنه قال : كيف السبيل مع ذلك إلى دخول أحد في هذا الدين ، عادلاً عن مظهر العظمة إلى أعظم منه تعظيماً للقدرة على جميع القلوب : { الله } أي الذي له مجامع العظمة ونفوذ الأمر { يجتبي } أي يختار بغاية العناية ويصرف { إليه } أي إلى هذا الدين الذي تدعوهم إليه { من يشاء } اجتباءه .
ولما ذكر سبحانه بهذا المراد بغير تكسب منه ، أتبعه المزيد المعتى بالسلوك فقال : { ويهدي إليه } بالتوفيق للطاعة { من ينيب * } أي فيه أهلية لأن يجدد الرجوع إلى مراتب طاعاته كل حين بباطنه بعد الرجوع بظاهره إلى ما كتبه له من الدرجات كأنه كان الوصول إليها قد نزل عنها وهو بترقيه في المنازلات بأحوال الطاعات يرجع إليها .