وكان سليمان - عليه السلام - قد أعد للملكة مفاجأة أخرى ، لم يكشف السياق عنها بعد ، كما كشف عن المفاجأة الأولى قبل ذكر حضورها - وهذه طريقة أخرى في الأداء القرآني في القصة غير الطريقة الأولى :
( قيل لها : ادخلي الصرح . فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ! قال : إنه صرح ممرد من قوارير ! قالت : رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) . .
لقد كانت المفاجأة قصرا من البلور ، أقيمت أرضيته فوق الماء ، وظهر كأنه لجة . فلما قيل لها : ادخلي الصرح ، حسبت أنها ستخوض تلك اللجة . فكشفت عن ساقيها ? فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها : ( قال : إنه صرح ممرد من قوارير ) !
ووقفت الملكة مفجوءة مدهوشة أمام هذه العجائب التي تعجز البشر ، وتدل على أن سليمان مسخر له قوى أكبر من طاقة البشر . فرجعت إلى الله ، وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره . معلنة إسلامها ( مع سليمان )لا لسليمان . ولكن ( لله رب العالمين ) .
لقد اهتدى قلبها واستنار . فعرفت أن الإسلام لله ليس استسلاما لأحد من خلقه ، ولو كان هو سليمان النبي الملك صاحب هذه المعجزات . إنما الإسلام إسلام لله رب العالمين . ومصاحبة للمؤمنين به والداعين إلى طريقه على سنة المساواة . . ( وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) .
وسجل السياق القرآني هذه اللفتة وأبرزها ، للكشف عن طبيعة الإيمان بالله ، والإسلام له . فهي العزة التي ترفع المغلوبين إلى صف الغالبين . بل التي يصبح فيها الغالب والمغلوب أخوين في الله . لا غلاب منهما ولا مغلوب وهما أخوان في الله . . رب العالمين . . على قدم المساواة .
ولقد كان كبراء قريش يستعصون على دعوة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إياهم إلى الإسلام . وفي نفوسهم الكبر أن ينقادوا إلى محمد بن عبد الله ، فتكون له الرياسة عليهم والاستعلاء . فها هي ذي امرأة في التاريخ تعلمهم أن الإسلام لله يسوي بين الداعي والمدعوين . بين القائد والتابعين . فإنما يسلمون مع رسول الله لله رب العالمين !
وقوله : { قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا } وذلك أن سليمان ، عليه السلام أمر الشياطين فبنوا لها قصرًا عظيما من قوارير ، أي : من زجاج ، وأجرى تحته الماء ، فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء ، ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه . واختلفوا في السبب الذي دعا سليمان ، عليه السلام ، إلى{[22055]} اتخاذه ، فقيل : إنه لما عزم على تزويجها واصطفائها لنفسه ؛ ذكر له جمالها وحسنها ، ولكن في ساقيها هُلْبٌ{[22056]} عظيم ، ومؤخر أقدامها كمؤخر الدابة . فساءه ذلك ، فاتخذ هذا ليعلم صحته أم لا ؟ - هذا قول محمد بن كعب القُرَظي ، وغيره - فلما دخلت وكشفت عن ساقيها ، رأى أحسن الناس وأحسنه قدمًا ، ولكن رأى على رجليها شعرًا ؛ لأنها ملكة ليس لها بعل{[22057]} فأحب أن يذهب ذلك عنها فقيل لها : الموسى ؟ فقالت : لا أستطيع ذلك . وكره سليمان ذلك ، وقال{[22058]} للجن : اصنعوا شيئًا غير الموسى يذهب به هذا الشعر ، فصنعوا له النُوْرَةَ . وكان أول من اتخذت له النّورَة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، ومحمد بن كعب القرظي ، والسدي ، وابن جُرَيْج ، وغيرهم .
وقال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رُومان : ثم قال لها : ادخلي الصرح ، ليريها مُلْكًا هو أعزّ من ملكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها . فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ، لا تشك أنه ماء تخوضه ، فقيل لها : إنه صرح مُمَرّد من قوارير . فلما وقفت على سليمان ، دعاها إلى عبادة الله وعاتبها في عبادتها الشمس{[22059]} من دون الله .
وقال الحسن البصري : لما رأت العلْجَةُ الصرح عرفت - والله - أن قد رأت ملكًا أعظم من ملكها .
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : أمر سليمان بالصرح ، وقد عملته له الشياطين من زجاج ، كأنه الماء بياضا . ثم أرسل الماء تحته ، ثم وضع له فيه سريره ، فجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس ، ثم قال : ادخلي الصرح ، ليريها ملكا هو أعز من ملكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها { فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا } ، لا تشك أنه ماء تخوضه ، قيل لها : { إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ } ، فلما وقفت على سليمان ، دعاها إلى عبادة الله ، عز وجل ، وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله . فقالت بقول الزنادقة ، فوقع سليمان ساجدًا إعظاما لما قالت ، وسجد معه الناس ، فسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع ، فلما رفع سليمان رأسه قال : ويحك ! ماذا قلت ؟ - قال :{[22060]} وأنسيت ما قالت{[22061]} فقالت : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، فأسلمت وحسن إسلامها .
وقد روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في هذا أثرًا غريبا عن ابن عباس ، قال :{[22062]} حدثنا الحسين بن علي ، عن زائدة ، حدثني عطاء بن السائب ، حدثنا مجاهد ، ونحن في الأزد - قال : حدثنا ابن عباس قال : كان سليمان ، عليه السلام ، يجلس على سريره ، ثم تُوضَعُ كراسي حوله ، فيجلس عليها الإنس ، ثم يجلس{[22063]} الجن ، ثم الشياطين ، ثم تأتي الريح فترفعهم ، ثم تظلهم الطير ، ثم
يغدون قدر ما يشتهي الراكب أن ينزل شهرًا ورواحها شهرًا ، قال : فبينما هو ذات يوم في مسير له ، إذ تفقد الطير ففقد الهدهد فقال :{[22064]} { مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } ، قال : فكان عذابه إياه أن ينتفه ، ثم يلقيه في الأرض ، فلا يمتنع من نملة ولا من شيء من هوام الأرض .
قال عطاء : وذكر سعيد بن جُبَير عن ابن عباس مثل حديث مجاهد { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } - فقرأ حتى انتهى إلى قوله - { قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا } وكتب { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، إلى بلقيس : { أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } ، فلما ألقى الهدهد بالكتاب{[22065]} إليها ، ألقي في رُوعها : إنه كتاب كريم ، وإنه من سليمان ، وأن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين . قالوا : نحن أولو قوة . قالت : إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، وإني مرسلة إليهم بهدية . فلما جاءت الهدية سليمان قال : أتمدونني بمال ، ارجع إليهم . فلما نظر إلى الغبار - أخبرنا ابن عباس قال : وكان بين سليمان وبين ملكة سبأ ومَنْ معها حين نظر إلى الغبار كما بيننا وبين الحيرة ، قال عطاء : ومجاهد حينئذ في الأزد - قال سليمان : أيكم يأتيني بعرشها ؟ قال : وبين عرشها وبين سليمان حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين ، { قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ } . قال : وكان لسليمان مجلس يجلس فيه للناس ، كما يجلس الأمراء ثم يقوم - قال :{[22066]} { أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ } . قال سليمان : أريد أعجل من ذلك . فقال الذي عنده علم من الكتاب : أنا أنظر في كتاب ربي ، ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك . قال : [ فنظر إليه سليمان فلما قطع كلامه رد سليمان بصره ]{[22067]} ، فنبع عرشها من تحت قدم سليمان ، من تحت كرسي كان سليمان يضع عليه رجله ، ثم يصعد إلى السرير . قال : فلما رأى سليمان عرشها [ مستقرًا عنده ]{[22068]} قال : { هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي } ، { قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا } ، فلما جاءت قيل لها : أهكذا عرشك ؟ قالت : كأنه هو . قال : فسألته عن أمرين ، قالت لسليمان : أريد ماء [ من زبد رواء ]{[22069]} ليس من أرض ولا من سماء - وكان سليمان إذا سئل عن شيء ، سأل الإنس ثم الجن ثم الشياطين . [ قال ]{[22070]} فقالت الشياطين : هذا هين ، أجْرِ الخيلَ ثم خذ عرقها ، ثم املأ منه الآنية . قال : فأمر بالخيل{[22071]} فأجريت ، ثم أخذ عرقها فملأ منه الآنية . قال : وسألت عن لون الله عز وجل . قال : فوثب سليمان عن سريره ، فخر ساجدًا ، فقال : يا رب ، لقد سألَتْني عن أمر إنه يتكايد{[22072]} ، أي : يتعاظم في قلبي أن أذكره لك . قال : ارجع فقد كَفَيتكهم ، قال : فرجع إلى سريره فقال : ما سألت عنه ؟ قالت : ما سألتك إلا عن الماء . فقال لجنوده : ما سألت عنه ؟ فقالوا : ما سألتك إلا عن الماء . قال : ونَسوه كلّهم . قال : وقالت الشياطين لسُلَيمان : تُريدُ أن تتخذها لنفسك{[22073]} ، فإن اتخذها لنفسه ثم ولد بينهما ولد ، لم ننفك من عبوديته . قال : فجعلوا صرحًا ممردًا من قوارير ، فيه السمك . قال : فقيل لها :
ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة ، وكشفت عن ساقيها ، فإذا هي شَعْرَاء . فقال سليمان : هذا قبيح ، ما يذهبه ؟ فقالوا : تذهبه{[22074]} المواسي . فقال : أثر الموسى{[22075]} قبيح ! قال : فجعلت الشياطين النورَة . قال : فهو أول من جُعلت له النورة .
ثم قال أبو بكر بن أبي شيبة : ما أحسنه من حديث .
قلت : بل هو منكر غريب جدًا ، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس ، والله أعلم . والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب ، مما يوجد في صحفهم ، كروايات كعب ووهب - سامحهما الله تعالى - فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل ، من الأوابد{[22076]} والغرائب والعجائب ، مما كان وما لم يكن ، ومما حرف وبدل ونسخ . وقد أغنانا الله ، سبحانه ، عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ، ولله الحمد والمنة .
أصل الصرح في كلام العرب : هو القصر ، وكل بناء مرتفع ، قال الله ، سبحانه وتعالى ، إخبارًا عن فرعون - لعنه الله - أنه قال لوزيره هامان { ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } الآية [ غافر : 36 ، 37 ] . والصرح : قصر في اليمن عالي البناء ، والممرد أي : المبنى بناء محكما أملس { مِنْ قَوَارِيرَ } أي : زجاج . وتمريد البناء تمليسه . ومارد : حصن بدومة الجندل .
والغرض أن سليمان ، عليه السلام ، اتخذ قصرا عظيما منيفا من زجاج لهذه الملكة ؛ ليريها عظمة سلطانه وتمكنه ، فلما رأت ما آتاه الله ، تعالى ، وجلالة ما هو فيه ، وتبصرت في أمره انقادت لأمر الله{[22077]} وعَرَفت أنه نبي كريم ، وملك عظيم ، فأسلمت لله ، عز وجل ، وقالت : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } أي : بما سلف من كفرها وشركها وعبادتها وقومها الشمس{[22078]} من دون الله ، { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : متابعة لدين سليمان في عبادته لله{[22079]} وحده ، لا شريك له ، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا .
ولما وصلت بلقيس أمر سليمان الجن فصنعت له صرحاً وهو الصحن من غير سقف وجعلته مبنياً كالصهريج وملىء ماء وبث فيه السمك والضفادع وطبق بالزجاج الأبيض الشفاف ، وبهذا جاء صرحاً ، و { الصرح } أيضاً كل بناء عال ، وكل هذا من التصريح وهو الإعلان البالغ ، وجعل لسليمان في وسطه كرسي ، فلما وصلت إليه بلقيس { قيل لها ادخلي } إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأت اللجة وفزعت وظنت أنها قصد بها الغرق وعجبت من كون كرسيه على الماء ورأت ما هالها ولم يكن لها بد من امتثال الأمر ف » كشفت «عن ساقيها » ، فرأى سليمان ساقيها سليمة مما قالت الجن غير أنها كثيرة الشعر ، فلما بلغا هذا الحد ، قال لها سليمان { إنه صرح ممرد من قوارير } ، و «الممرد » المحكوك المملس ، ومنه الأمرد والشجرة المرداء التي لا ورق عليها والممرد أيضاً المطول ، ومنه قيل للحصن مارد{[9029]} ، وعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم ، فروي أن سليمان تزوجها عند ذلك وأسكنها الشام قاله الضحاك ، وقال سعيد بن عبد العزيز في كتاب النقاش تزوجها وردها إلى ملكها باليمن وكان يأتيها على الريح كل يوم مرة ، فولدت له غلاماً سماه داوود مات في حياته ، و { مع } ظرف ، وقيل حرف بني على الفتح ، وأما إذا أسكنت العين فلا خلاف أنه حرف جاء لمعنى{[9030]} وقرأ ابن كثير وحده في رواية أبي الأخربط «عن سأقيها » بالهمز قال أبو علي وهي ضعيفة وكذلك يضعف الهمز في قراءة قنبل «يكشف عن سأق »{[9031]} فأما همز السؤق{[9032]} وعلى سؤقه{[9033]} فلغة مشهورة في همز الواو التي قبلها ضمة حكى أبو علي أن أبا حيّة النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة وأنشد «لب المؤقدان إلى موسى »{[9034]} ووجهها أن الضمة تقوم على الواو إذ لا حائل بينهما ، وقرأ ابن مسعود «عن رجليها » ، وروي أن سليمان عليه السلام لما أراد زوال شعر ساقيها أشفق من حمل الموسى عليها وقيل إنها قالت ما مسني حديد قط فأمر الجن بالتلطف في زواله . فصنعوا النورة{[9035]} ولم تكن قبل الأمم ، وهذه الأمور التي فعلها سليمان عليه السلام من سوق العرش وعمل الصرح وغير ذلك قصد بذلك معاياتها والإغراب عليها ، كما سلكت هي قبل سبيل ملوك الدنيا في ذلك بأن أرسلت الجواري والغلمان واقترحت في أمر القدح والذرتين .