( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) . .
فهو أمر بتوحيد المعبود بعد النهي عن الشرك . أمر في صورة قضاء . فهو أمر حتمي حتمية القضاء . ولفظة( قضى ) تخلع على الأمر معنى التوكيد ، إلى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء ( ألا تعبدوا إلا إياه ) فتبدو في جو التعبير كله ظلال التوكيد والتشديد .
فإذا وضعت القاعدة ، وأقيم الأساس ، جاءت التكاليف الفردية والاجتماعية ، ولها في النفس ركيزة من العقيدة في الله الواحد ، توحد البواعث والأهداف من التكاليف والأعمال .
والرابطة الأولى بعد رابطة العقيدة ، هي رابطة الأسرة ، ومن ثم يربط السياق بر الوالدين بعبادة الله ، إعلانا لقيمة هذا البر عند الله :
( وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما : أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ، وقل : رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) .
بهذه العبارات الندية ، والصور الموحية ، يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء . ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء ، توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام . إلى الذرية . إلى الناشئة الجديدة . إلى الجيل المقبل . وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء . إلى الأبوة . إلى الحياة المولية . إلى الجيل الذاهب ! ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف ، وتتلفت إلى الآباء والأمهات .
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد . إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات . وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات ، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر ؛ كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية - إن أمهلهما الأجل - وهما مع ذلك سعيدان !
فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله ، ويندفعون بدروهم إلى الأمام . إلى الزوجات والذرية . . وهكذا تندفع الحياة .
ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء . إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف !
وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد ، بعد الأمر المؤكد بعبادة الله .
يقول تعالى آمرًا بعبادته وحده لا شريك له ؛ فإن القضاء هاهنا بمعنى الأمر .
قال مجاهد : { وَقَضَى } يعني : وصى ، وكذا قرأ أبيّ بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، والضحاك بن مزاحم : " ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " ولهذا قرن بعبادته بر الوالدين فقال : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي : وأمر بالوالدين إحسانًا ، كما قال في الآية الأخرى : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ لقمان : 14 ] .
وقوله : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } أي : لا تسمعهما قولا سيئًا ، حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ { وَلا تَنْهَرْهُمَا } أي : ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح ، كما قال عطاء بن أبي رباح في قوله : { وَلا تَنْهَرْهُمَا } أي : لا تنفض{[17386]} يدك على والديك .
ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح ، أمره بالقول الحسن والفعل الحسن فقال : { وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا } أي : لينًا طيبًا حسنًا بتأدب وتوقير وتعظيم .
{ وقضى ربك } أمر مقطوعا به . { ألا تعبدوا } بأن لا تعبدوا . { إلا إياه } لأن غاية التعظيم لا تحق إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام ، وهو كالتفصيل لسعي الآخرة . ويجوز أن تكون { أن } مفسرة و{ لا } ناهية . { وبالوالدين إحسانا } وبأن تحسنوا ، أو وأحسنوا بالوالدين إحسانا لأنهما السبب الظاهر للوجود والتعيش ، ولا يجوز أن تتعلق الباء بالإحسان لأن صلته لا تتقدم عليه . { إما يبلُغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما } { إما } هي إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا ولذلك صح لحوق النون المؤكدة للفعل ، وأحدهما فاعل { يبلغن } ويدل على قراءة حمزة والكسائي من ألف " يبلغان " الراجع إلى " الوالدين " ، وكلاهما عطف على أحدهما فاعلا أو بدلا ولذلك لم يجز أن يكون تأكيدا للألف ، ومعنى { عندك } أن يكونا في كنفك وكفالتك . { فلا تقل لهما أفٍّ } فلا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنتهما ، وهو صوت يدل على تضجر . وقيل هو اسم الفعل الذي هو أتضجر ، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين وتنوينه في قراءة نافع وحفص للتنكير . وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالفتح على التخفيف . وقرئ به منونا وبالضم للاتباع كمنذ منونا وغير منون ، والنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسا بطريق الأولى . وقيل عرفا كقولك : فلان لا يملك النقير والقطمير ، ولذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة من قتل أبيه وهو في صف المشركين ، نهى عما يؤذيهما بعد الأمر بالإحسان بهما . { ولا تنهرهما } ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظ . وقيل النهي والنهر والنهم أخوات . { وقل لهما } بدل التأفيف والنهر . { قولا كريما } جميلا لا شراسة فيه .
{ قضى } في هذه الآية هي بمعنى أمر وألزم وأوجب عليكم وهكذا قال الناس ، وأقول إن المعنى { وقضى ربك } أمره { ألا تعبدوا إلا إياه } وليس في هذه الألفاظ الأمر بالاقتصار على عبادة الله فذلك هو المقضي لا نفس العبادة ، وقضى في كلام العرب أتم المقضي محكماً ، والمقضي هنا هو الأمر{[7517]} ، وفي مصحف ابن مسعود «ووصى ربك » وهي قراءة أصحابه ، وقراءة ابن عباس والنخعي وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وكذلك عند أبي بن كعب ، وقال الضحاك تصحف على قوم وصى ب «قضى » حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وإنما القراءة مروية بسند ، وقد ذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك ، وقال عن ميمون بن مهران : إنه قال إن على قول ابن عباس لنوراً ، قال الله تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك }{[7518]} ثم ضعف أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك ، وقال لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا ، والضمير في { تعبدوا } لجميع الخلق ، وعلى هذا التأويل مضى السلف والجمهور ، وسأل الحسن بن أبي الحسن رجل فقال له : إنه طلق امرأته ثلاثاً فقال له الحسن : عصيت ربك وبانت منك امرأتك ، فقال له الرجل قضي ذلك علي ، فقال له الحسن وكان فصيحاً ، ما قضى الله أي ما أمر الله ، وقرأ هذه الآية ، فقال الناس : تكلم الحسن في القدر .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تكون { قضى } على مشهورها في الكلام ، ويكون الضمير في قوله { تعبدوا } للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة ، لكن على التأويل الأول يكون قوله : { وبالوالدين إحساناً } عطفاً على { أن } الأولى أي أمر الله ألا تعبدوا إلا إياه وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً ، وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله { وبالوالدين إحساناً } مقطوعاً من الأول كأنه أخبرهم بقضاء الله ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين ، و { إما } شرطية ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وعاصم وابن عامر «يبلغنّ » ، وروي عن ابن ذكوان «يبلغنَ » بتخفيف النون ، وقرأ حمزة والكسائي «يبلغان » وهي قراءة أبي عبد الرحمن ويحيى وطلحة والأعمش والجحدري ، وهي النون الثقيلة دخلت مؤكدة وليست بنون تثنية فعلى القراءتين الأوليين يكون قوله { أحدهما } فاعلاً ، وقوله { أو كلاهما } معطوفاً عليه ، وعلى هذه القراءة الثانية يكون قوله { أحدهما } بدلاً من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر : [ الطويل ]
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة . . . ورجل رمى فيها الزمان فشلَّت{[7519]}
ويجوز{[7520]} أن يكون { أحدهما } فاعلاً وقوله { أو كلاهما } عطف عليه ويكون ذلك على لغة من قال أكلوني البراغيث ، وقد ذكر هذا في هذه الآية بعض النحويين وسيبويه لا يرى لهذه اللغة مدخلاً في القرآن ، وقرأ أبو عمرو «أفِّ » بكسر الفاء وترك التنوين ، وهي قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وقرأ نافع والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى «أفٍّ » بالكسر والتنوين ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «أفَّ » بفتح الفاء ، وقرأ أبو السمال «أفٌّ » بضم الفاء{[7521]} ، وقرأ ابن عباس «أف » خفيفة ، وهذا كله بناء إلا أن قراءة نافع تعطي التنكير كما تقول آية ، وفيها لغات لم يقرأ بها «أف » بالرفع والتنوين على أن هارون حكاها قراءة ، «وأفّاً » بالنصب والتنوين «وأفي » بياء بعد الكسرة حكاها الأخفش الكبير ، «وأفاً » بألف بعد الفتحة ، «وأفّْ » بسكون الفاء المشددة «وأَف » مثل رب ، ومن العرب من يميل «أفاً » ، ومنهم من يزيد فيها هاء السكت فيقول «أفاه » .
قال القاضي أبو محمد : ومعنى اللفظة أنها اسم فعل كأن الذي يريد أن يقول أضجر أو أتقذر{[7522]} أو أكره أو نحو هذا يعبر إيجازا بهذه اللفظة ، فتعطي معنى الفعل المذكور ، وجعل الله تعالى هذه اللفظة مثالاً لجميع ما يمكن أن يقابل به الآباء مما يكرهون ، فلم ترد هذه في نفسها ، وإنما هي مثال الأعظم منها ، والأقل فهذا هو مفهوم الخطاب الذي المسكوت عنه حكمه حكم المذكور ، والانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ ، والقول الكريم الجامع للمحاسن من اللين وجودة المعنى وتضمن البر ، وهذا كما تقول ثوب كريم تريد أنه جم المحاسن ، و «الألف » وسخ الأظفار ، فقالت فرقة إن هذه اللفظة التي في الآية مأخوذة من ذلك وقال مجاهد في قوله { ولا تقل لهما أف } معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ{[7523]} الغائط والبول الذي رأياه في حال الصغر فلا تستقذرهما{[7524]} . وتقول { أف } .
قال القاضي أبو محمد : والآية أعم من هذا القول وهو داخل في جملة ما تقتضيه ، وقال أبو الهدَّاج النجيبي{[7525]} : قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله { وقل لهما قولاً كريماً } ما هذا القول الكريم ؟ قال ابن المسيب : قول العبد المذنب للسيد الفظّ .
{ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه }
عطف على الكلام السابق عطف غرض على غرض تخلصاً إلى أعمدة من شريعة الإسلام بمناسبة الفذلكة المتقدمة تنبيهاً على أن إصلاح الأعمال متفرع على نبذ الشرك كما قال تعالى : { فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 13 17 ] .
وقد ابتُدىء تشريع للمسلمين أحكاماً عظيمة لإصلاح جامعتهم وبناء أركانها ليزدادوا يقيناً بارتفاعهم على أهل الشرك وبانحطاط هؤلاء عنهم ، وفي جميعها تعريض بالمشركين الذين كانوا منغمسين في المنهيات . وهذه الآيات أول تفصيل للشريعة للمسلمين وقع بمكة ، وأن ما ذكر في هذه الآيات مقصود به تعليم المسلمين . ولذلك اختلف أسلوبه عن أسلوب نظيره في سورة الأنعام الذي وُجه فيه الخطاب إلى المشركين لتوقيفهم على قواعد ضلالتهم .
فمن الاختلاف بين الأسلوبين أن هذه الآية افتتحت بفعل القضاء المقتضي الإلزام ، وهو مناسب لخطاب أمة تمتثل أمر ربها ، وافتتح خطاب سورة [ الأنعام : 151 ] ب { تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } كما تقدم هنالك .
ومنها أن هذه الآية جعلت المقضي هو توحيد الله بالعبادة ، لأنه المناسب لحال المسلمين فحذرهم من عبادة غير الله . وآية الأنعام جعلت المحرم فيها هو الإشراك بالله في الإلهية المناسب لما كانوا عليه من الشرك إذ لا عبادة لهم .
وأن هذه الآية فصل فيها حكم البر بالوالدين وحكم القتل وحكم الإنفاق ولم يفصل ما في آية الأنعام .
وكان ما ذكر في هذه الآيات خمسة عشر تشريعاً هي أصول التشريع الراجع إلى نظام المجتمع .
وأحسب أن هذه الآيات اشتهرت بين الناس في مكة وتناقلها العرب في الآفاق ، فلذلك ألَمّ الأعشى ببعضها في قصيدته المروية التي أعدها لمدح النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء يريد الإيمان فصدته قريش عن ذلك ، وهي القصيدة الدالية التي يقول فيها :
أجدّك لم تسمع وَصاة محمــــد *** نبيء الإله حين أوصى وأشهدا
فإياك والميتاتِ لا تأكلنهـــــا *** ولا تأخذنْ سهماً حديداً لتفصـدا
وذا النُصُب المنصوب لا تنسكنـه *** ولا تَعبد الشيطانَ والله فاعبـدا
وذا الرحم القربى فلا تقطعنـــه *** لفاقتـــه ولا الأسيرَ المقـيدا
ولا تسخرن من بائس ذي ضرارة *** ولا تَحسبن المال للمرء مخلـدا
ولا تقربَنّ جارةً إن سرهــــا *** عليك حَرام فانكحَنّ أو تأبّــدا{[270]}
وافتتحت هذه الأحكام والوصايا بفعل القضاء اهتماماً به وأنه مما أمر الله به أمراً جازماً وحكماً لازماً ، وليس هو بمعنى التقدير كقوله : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } [ الإسراء : 4 ] لظهور أن المذكورات هنا مما يقع ولا يقع .
و ( أنْ ) يجوز أن تكون تفسيرية لما في ( قضى ) من معنى القول . ويجوز أن تكون مصدرية مجرورة بباء جر مقدرة ، أي قضى بأن لا تعبدوا . وابتدىء هذا التشريع بذكر أصل التشريعة كلها وهو توحيد الله ، فذلك تمهيد لما سيذكر بعده من الأحكام .
وجيء بخطاب الجماعة في قوله : { ألا تعبدوا إلا إياه } لأن النهي يتعلق بجميع الناس وهو تعريض بالمشركين .
والخطاب في قوله : { ربك } للنبيء صلى الله عليه وسلم كالذي في قوله قبل : { من عطاء ربك } [ الإسراء : 20 ] ، والقرينة ظاهرة . ويجوز أن يكون لغير معين فيعم الأمة والمآل واحد .
وابتدىء التشريع بالنهي عن عبادة غير الله لأن ذلك هو أصل الإصلاح ، لأن إصلاح التفكير مقدم على إصلاح العمل ، إذ لا يشاق العقل إلى طلب الصالحات إلا إذا كان صالحاً . وفي الحديث : « ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب » وقد فصلت ذلك في كتابي المسمى « أصول النظام الاجتماعي في الإسلام » .
{ وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما } .
هذا أصل ثانٍ من أصول الشريعة وهو بر الوالدين .
وانتصب { إحساناً } على المفعولية المطلقة مصدر نائباً عن فعله . والتقدير : وأحسنوا إحساناً بالوالدين كما يقتضيه العطف على { ألا تعبدوا إلا إياه } أي وقضى إحساناً بالوالدين .
{ وبالوالدين } متعلق بقوله ؛ { إحساناً } ، والباء فيه للتعدية يقال : أحسن بفلان كما يقال أحسن إليه ، وقد تقدم قوله تعالى : { وقد أحسن بي } في سورة [ يوسف : 100 ] . وتقديمه على متعلقه للاهتمام به ، والتعريف في الوالدين للاستغراق باعتبار والدي كل مكلف ممن شملهم الجمع في { ألا تعبدوا } .
وعطف الأمر بالإحسان إلى الوالدين على ما هو في معنى الأمر بعبادة الله لأن الله هو الخالق فاستحق العبادة لأنه أوجد الناس . ولما جعل الله الأبوين مظهرَ إيجاد الناس أمر بالإحسان إليهما ، فالخالق مستحق العبادة لغناه عن الإحسان ، ولأنها أعظم الشكر على أعظم منة ، ، وسببُ الوجود دون ذلك فهو يستحق الإحسان لا العبادة لأنه محتاج إلى الإحسان دون العبادة ، ولأنه ليس بمُوجد حقيقي ، ولأن الله جبل الوالدين على الشفقة على ولدهما ، فأمر الولد بمجازاة ذلك بالإحسان إلى أبويه كما سيأتي { وقل رب أرحمهما كما ربياني صغيراً } .
وشمل الإحسان كل ما يصدق فيه هذا الجنس من الأقوال والأفعال والبذل والمواساة .
وجملة { إما يبلغن } بيان لجملة { إحساناً } ، و { إما } مركبة من ( إن ) الشرطية و ( ما ) الزائدة المهيئة لنون التوكيد ، وحقها أن تكتب بنون بعد الهمزة وبعدها ( ما ) ولكنهم راعوا حالة النطق بها مدغمة فرسموها كذلك في المصاحف وتبعها رسم الناس غالباً ، أي إن يبلغ أحدُ الوالدين أو كلاهما حد الكبَر وهما عندك ، أي في كفالتك فَوَطّىء لهما خُلُقك ولين جانبك .
والخطاب لغير معين فيعم كل مخاطب بقرينة العطف على { ألا تعبدوا إلا إياه } وليس خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن له أبوان يومئذٍ . وإيثار ضمير المفرد هنا دون ضمير الجمع لأنه خطاب يختص بمن له أبوان من بين الجماعة المخاطبين بقوله : { ألا تعبدوا إلا إياه } فكان الإفراد أنسب به وإن كان الإفراد والجمع سواء في المقصود لأن خطاب غير المعين يساوي خطاب الجمع .
وخص هذه الحالة بالبيان لأنها مظنة انتفاء الإحسان بما يلقى الولد من أبيه وأمّه من مشقة القيام بشؤونهما ومن سوء الخلق منهما .
ووجه تَعدد فاعل { يبلغن } مُظهراً دون جعله بضمير التثنية بأن يقال إما يبلغَانِّ عندك الكبر ، الاهتمام بتخصيص كل حالة من أحوال الوالدين بالذكر ، ولم يستغن بإحدى الحالتين عن الأخرى لأن لكل حالة بواعث على التفريط في واجب الإحسان إليهما ، فقد تكون حالة اجتماعهما عند الابن تستوجب الاحتمال منهما لأجل مراعاة أحدهما الذي الابن أشد حُبّاً له دون ما لو كان أحدهما منفرداً عنده بدون الآخر الذي ميله إليه أشد ، فالاحتياج إلى ذكر أحدهما في هذه الصورة للتنبيه على وجوب المحافظة على الإحسان له . وقد تكون حالة انفراد أحد الأبوين عند الابن أخف كلفة عليه من حالة اجتماعهما ، فالاحتياج إلى { أو كلاهما } في هذه الصورة للتحذير من اعتذار الابن لنفسه عن التقصير بأن حالة اجتماع الأبوين أحرَج عليه ، فلأجل ذلك ذكرت الحالتان وأجري الحكم عليهما على السواء ، فكانت جملة { فلا تقل لهما أف } بتمامها جواباً ل ( إما ) .
وأكد فعل الشرط بنون التوكيد لتحقيق الربط بين مضمون الجواب ومضمون الشرط في الوجود . وقرأ الجمهور { إما يبلغن } على أن { أحدهما } فاعل { يبلغن } فلا تلحق الفعل علامة لأنّ فاعله اسم ظاهر .
وقرأ حمزة والكسائي وخلف { يبلغان } بألف التثنية ونون مشددة والضمير فاعل عائد إلى الوالدين في قوله : { وبالوالدين إحساناً } ، فيكون { أحدهما أو كلاهما } بدلاً من ألف المثنى تنبيهاً على أنه ليس الحكم لاجتماعهما فقط بل هو للحالتين على التوزيع .
والخطاب ب { عندك } لكل من يصلح لسماع الكلام فيعم كل مخاطب بقرينة سبق قوله : { ألا تعبدوا إلا إياه } ، وقوله اللاحق { ربكم أعلم بما في نفوسكم } [ الإسراء : 25 ] .
{ أف } اسم فعل مضارع معناه أتضخر . وفيه لغات كثيرة أشهرها كلها ضم الهمزة وتشديد الفاء ، والخلاف في حركة الفاء ، فقرأ نافع ، وأبو جعفر ، وحفص عن عاصم بكسر الفاء منونة . وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، ويعقوب بفتح الفاء غيرَ منونة . وقرأ الباقون بكسر الفاء غير منونة .
وليس المقصود من النهي عن أن يقول لهما { أف } خاصة ، وإنما المقصود النهي عن الأذى الذي أقله الأذى باللسان بأوْجز كلمة ، وبأنها غير دالة على أكثر من حصُول الضجر لقائلها دون شتم أو ذم ، فيفهم منه النهي مما هو أشد أذى بطريق فحوى الخطاب بالأوْلى .
ثم عطف عليه النهي عن نهرهما لئلا يُحسب أن ذلك تأديب لصلاحهما وليس بالأذى . والنهر الزجر ، يقال : نهره وانتهره .
ثم أمر بإكرام القول لهما . والكريم من كل شيء : الرفيع في نوعه .
وتقدم عند قوله تعالى : { ومغفرة ورزق كريم } في سورة [ الأنفال : 4 ] .
وبهذا الأمر انقطع العذر بحيث إذا رأى الولد أن ينصح لأحد أبويه أو أن يحذر مما قد يضر به أدى إليه ذلك بقول لين حسن الوقع .
ثم ارتقى في الوصاية بالوالدين إلى أمر الولد بالتواضع لهما تواضعاً يبلغ حد الذل لهما لإزالة و حشة نفوسهما إن صارا في حاجة إلى معونة الولد ، لأن الأبوين يبغيان أن يكونا هما النافعين لولدهما . والقصد من ذلك التخلق بشكره على أنعامهما السابقة عليه .
وصيغ التعبير عن التواضع بتصويره في هيئة تذلل الطائر عندما يعتريه خوف من طائر أشد منه إذ يخفض جناحه متذللاً . ففي التركيب استعارة مكنية والجناح تخييل بمنزلة تخييل الأظفار للمنية في قول أبي ذُؤْيبَ :
وإذا المنية أنشبت أظفارها *** ألفيتَ كل تميمة لا تنفع
وبمنزلة تخييل اليد للشمال بفتح الشين والزمام للقرة في قول لبيد :
وغداة ريح قد كشفت وقِرةٍ *** إذْ أصبحت بيد الشمال زِمامها
ومجموع هذه الاستعارة تمثيل . وقد تقدم في قوله : { واخفض جناحك للمؤمنين } في سورة [ الحجر : 88 ] .
والتعريف في { الرحمة } عوض عن المضاف إليه ، أي من رحمتك إياهما . و ( من ) ابتدائية ، أي الذل الناشىء عن الرحمة لا عن الخوف أو عن المداهنة . والمقصود اعتياد النفس على التخلق بالرحمة باستحضار وجوب معاملته إياهما بها حتى يصير له خلقاً ، كما قيل :
وهذه أحكام عامة في الوالدين وإن كانا مشركين ، ولا يُطاعان في معصية ولا كفر كما في آية سورة العنكبوت .
ومقتضى الآية التسوية بين الوالدين في البر وإرضاؤهما معاً في ذلك ، لأن موردها لفعل يصدر من الولد نحو والديه وذلك قابل للتسوية . ولم تتعرض لما عدا ذلك مما يختلف فيه الأبوان ويتشاحان في طلب فعل الولد إذا لم يمكن الجمع بين رغبتيهما بأن يأمره أحد الأبوين بضد ما يأمره به الآخر . ويظهر أن ذلك يجري على أحوال تعارض الأدلة بأن يسعى إلى العمل بطلبيهما إن استطاع .
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة : « أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم مَن أحقّ الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك . قال : ثم مَن ؟ قال : ثم أمُّك . قال : ثم مَن ؟ قال : ثم أمُّك . قال : ثمّ من ؟ قال : ثم أبوك »
وهو ظاهر في ترجيح جانب الأم لأن سؤال السائل دل على أنه يسأل عن حسن معاملته لأبويه .
أحدها : ترجيح الأم على الأب وإلى هذا ذهب الليث بن سعد ، والمحاسبي ، وأبو حنيفة . وهو ظاهر قول مالك ، فقد حكى القرافي في الفرق 23 عن مختصر الجامع أن رجلاً سأل مالكاً فقال : إن أبي في بلد السودان وقد كتب إليّ أن أقدم عليه وأمي تمنعني من ذلك ؟ فقال مالك : أَطِعْ أباك ولا تعْص أمك .
وذكر القرافي في المسألة السابعة من ذلك الفرق أن مالكاً أراد منع الابن من الخروج إلى السودان بغير إذن الأم .
الثاني : قول الشافعية أن الأبوين سواء في البر . وهذا القول يقتضي وجوب طلب الترجيح إذا أمرا ابنهما بأمرين متضادين .
وحكى القرطبي عن المحاسبي في كتاب « الرعاية » أنه قال : لا خلاف بين العلماء في أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع . وحكى القرطبي عن الليث أن للأم ثلثي البر وللأب الثلث ، بناء على اختلاف رواية الحديث المذكور أنه قال : ثم أبوك بعد المرة الثانية أو بعد المرة الثالثة .
والوجه أن تحديد ذلك بالمقدار حوالة على ما لا ينضبط وأن محمل الحديث مع اختلاف روايتيه على أن الأم أرجح على الإجمال .
ثم أمر بالدعاء لهما برحمة الله إياهما وهي الرحمة التي لا يستطيع الولد إيصالها إلى أبويه إلا بالابتهال إلى الله تعالى .
قال أشهب: سمعت مالكا يقول: لا يقل لهما أف وإن أخذا ماله وأعنتاه، وسمعته مرة أخرى يقول: لا تشرد النظر إليهما...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك تعالى ذكره حكم ربك يا محمد بأمره إياكم ألا تعبدوا إلا الله، فإنه لا ينبغي أن يعبد غيره، وقد اختلفت ألفاظ أهل التأويل في تأويل قوله "وَقَضَى رَبُّكَ "وإن كان معنى جميعهم في ذلك واحدا...
عن ابن عباس "وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ" يقول: أمر... وفي حرف ابن مسعود: وَصَّى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ...
وقوله "وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" يقول: وأمركم بالوالدين إحسانا أن تحسنوا إليهما وتبرّوهما. ومعنى الكلام: وأمركم أن تحسنوا إلى الوالدين...
وقوله "فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ" يقول: فلا تؤفف من شيء تراه من أحدهما أو منهما مما يتأذّى به الناس، ولكن اصبر على ذلك منهما، واحتسب في الأجر صبرك عليه منهما، كما صبرا عليك في صغرك...
وقد اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى "أفّ"؛
فقال بعضهم: معناه: كلّ ما غلظ من الكلام وقبُح.
وقال آخرون: الأفّ: وسخ الأظفار والتف كلّ ما رفعت بيدك من الأرض من شيء حقير...
وقوله "وَلا تَنْهَرْهُما" يقول جلّ ثناؤه: ولا تزجُرهما...
وأما قوله "وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا" فإنه يقول جلّ ثناؤه: وقل لهما قولا جميلا حسنا... عن قتادة "وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا": أي قولا ليِّنا سهلا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}:...
وقال القتبي: {وقضى ربك} أي ختم ربك، وهو من الفرض والإلزام، أي فرض ربك، وألزم، {ألا تعبدوا إلا إياه} وكذلك حكم، وهو أشبه...
{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} فرض وحتم وحكم وأمر {ألا تعبدوا إلا إياه} إلا الإله المعبود الحق المستحق للعبادة والربوبية لا تعبدوا دونه أحدا...
وتأويل حكم ربك {ألا تعبدوا إلا إياه} لما أنشأ في خلقه كل أحد آثار وحدانيته وشهادة ربوبيته استحقاق العبادة له. فذلك تأويل من قال: قضى (أي) حكم... وأما تأويل من قال: أي أمر ربك، وكلف {ألا تعبدوا إلا إياه} فيكون فيه أمر بالعبادة له، والنهي عن عبادة غيره، كأنه قال: أمر ربك أن اعبدوه ونهاكم أن تعبدوا غيره...
{وبالوالدين إحسانا} كأنه قال: وفرض عليكم أيضا، وحكم الإحسان للوالدين. ثم الإحسان في عرف الناس هو الفعل الذي ليس عليه، إنما هو فضل ومعروف يصنعه المرء إلى غيره، هذا هو الإحسان في العرف واللغة. لكن المراد من الأمر بالإحسان إلى الوالدين، هو الشكر لا ما ذكرنا من الإحسان المعروف عند الناس، وهو ما ذكر في آية أخرى {أن اشكر لي ولوالديك} (لقمان: 14) لأن الشكر، هو المكافأة والجزاء لما أنعم وصنع من المعروف... فهو والله أعلم وإن ذكر الإحسان في هذا وفي غيره من الآيات، وهو قوله: {ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} (النعام: 151) وقوله في آية أخرى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} (النساء: 36) وغيرها من الآيات، فالمراد منه، والله أعلم، الشكر لهما لما ذكر في آية أخرى: {أن اشكر لي ولوالديك} (لقمان: 14) والشكر هو المكافأة. أمره أن يكافئ لهما، ويجازي بعض ما كان منهما إليه من التربية والبر عليه والعطف عليه والوقاية من كل سوء ومكروه في البطن وبعد ما خرج من البطن حتى كان يؤثرانه على نفسيهما في السرور، يجعلان نفسيهما (وقاية له من كل سوء ومحذور، فأمر الولد أن يشكر لوالديه جزاء ومكافأة لما كان إليه منهما إليه مما ذكرنا...
{إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما} ثم أمره أن يذكر الحال التي هو عليها، وهو حال طفوليته وصغره، أن كيف ربياه، وبراه، وعطفا عليه، ولانا قولا حتى لم يستقذروا منه شيئا مما يستقذر الناس بعضهم من بعض، ولم يبعدهما عنه ما يبعد الخلق بعضهم من بعض من أنواع الأذى والخبث، فأمره أن يعاملها إذا بلغا الحال التي كان هو عليها من الجهل، والضعف والعجز عن القيام بالحوائج على ما كان هو، وبلغا المبلغ الذي يستقذر منهما، ويبعد عنهما، ألا يستقذر منهما، و يبتعد عنهما كما لم يستقذرا هما منه...
{فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} عند السؤال والحاجة إليه كما لم يفعلاهما له، بل يلين وبذل، كما لانا هما له، وخضعا... وقال بعضهم: قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} هو كناية عن إظهار الكراهة لهما في الوجه {ولا تنهرهما} أي لا تعنفهما في القول والكلام على ما لم يفعلا هما بك. وقال بعضهم: {أف} المراد منه هو {أف} لا غيره {ولا تنهرهما} أي لا تعنفهما، ولا تتخشن. لكنه ذكر أول حال الاستثقال والكراهة منه وآخرها، أي لا تقل لهما: أف على ما يستثقل الناس شيئا، ويكرهونه في أول حال، يرون شيئا مستثقلا مكروها، فيقولون: أف، أي لا تقل: أف لئلا يحمل ذلك على العنف والخشونة والنهر... فعلى ذلك قوله: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} ذكر أول الحال وآخرها: (فأولها: {أف} وآخرها: {ولا تنهرهما} ) أي لا تظهر في وجهك من الكراهة والاستثقال (لئلا يحمل) ذلك على العنف والانتهار...
"وقل لهما قولا كريما" بعدما نهاه أن يقول لهما {أف} ونهاه أن ينهرهما. فإذا امتنع عن الأف والنهر قال بعد ذلك قولا لينا لطيفا... فإن قيل: ما الحكمة في ما قرن الله من شكر والديه شكره في غير آية من القرآن (كقوله) {أن اشكر لي ولوالديك}؟ (لقمان: 14) قيل: لأنه بهما كان نماؤه من أول حاله إلى آخر ما انتهى إليه من التغذية إليه والتربية والوقاية من كل سوء والحفظ من كل آفة وشر...
والخطاب من الله، وإن كان مع رسوله فالمراد منه غيره، لأن رسول الله معلوم أنه لم يدرك والديه في الوقت الذي أرسل فيه إليهم وخاطبه بما خاطب، دل أنه أراد بالخطاب غيره...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... فإن قيل هل أباح الله أن يقال لهما أف قبل أن يبلغا الكبر؟ قلنا: لا، لأن الله أوجب على الولد إطاعة الوالدين على كل حال. وحظر عليه أذاهما، وإنما خص الكبر، لأن وقت كبر الوالدين مما يضطر فيه الوالدان إلى الخدمة إذا كانا محتاجين عند الكبر...
"إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما" معناه متى بلغ واحد منهما أو هما الكبر "فلا تقل لهما أف "أي لا تؤذهما بقليل ولا كثير،
"ولا تنهرهما" أي لا تزجرهما بإغلاظ وصياح يقال: نهره... إذا أغلظ له.
"وقل لهما قولا كريما" أي شريفا تكرمهما به...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أمَرَ بإفراده- سبحانه -بالعبادة، وذلك بالإخلاص فيما يستعمله العبدُ منها، وأن يكون مغلوباً باستيلاء سلطانِ الحقيقةِ عليه بما يَحْفَظُه عن شهودِ عبادته...
وأَمَرَ بالإحسان إلى الوالدين ومراعاةِ حقِّهما، والوقوفِ عند إشارتهما، والقيام بخدمتهما، وملازمة ما كان يعود إلى رضاهما وحُسْنِ عشرتهما ورعاية حُرْمَتهما، وألا يبديَ شواهدَ الكسلِ عند أوامرهما، وأن يَبْذُل المُكْنَةَ فيما يعود إلى حفظ قلوبهما... هذا في حال حياتهما، فأمَّا بعد وفاتهما فبِصِدْقِ الدعاء لهما، وأداءِ الصَدَقَةِ عنهما، وحِفْظِ وصيتهما على الوجه الذي فَعَلاَه، والإحسان إلى مَنْ كان مِنْ أهلِ ودِّهما ومعارفهما...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
قرن ذكر الوالدين بعبادة الله سبحانه، فنبه به على عظيم إنعام الله تعالى المقتضي للشكر، ونبه بعد ذلك على عظيم نعم الوالدين، وبين اختلاف الوالدين، ليكون بره بهما وإحسانه إليهما على قدر حاجاتهما فقال: {إمَا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاَهُما}، فخص هذه الحالة بالذكر، وهي حالة حاجتهما إلى بره لتغيير الحال عليهما بالضعف النازل والكبر، فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزم من قبل، لأنهما قد صارا في هذه الحالة كلا عليه، فيحتاجان إلى أن يلي من أمرهما للضعف النازل منهما، ما كان يحتاجه هو في صغره أن يليان منه، فذلك معنى تخصيص هذه الحالة بالذكر، ليبين ما يلزم من مزيد البر والتعاهد، وما يتصل بخدمة وإنفاق...
ودل قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُف}: على وجوب صبره عليهما حتى لا يتبرم ولا يضجر، فإن العادة جارية في المتضجر عند الأمر أن يقول أف أو تف في الأمور، فبين الله سبحانه تحريم هذا القدر من التبرم على الولد عند ضعف الوالدين وحاجتهما إلى بره، ولم يقتصر تعالى على هذا القدر في بيان حقهما حتى قال: {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا}، مؤكداً لما تقدم ودالاً به على أن الواجب في بره لهما سلوك طريقة اللين في القول، ثم قال: {وقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}: والكريم من القول ما يوافق مسرة النفس، ولا ينفر عنه الطبع... ثم بين الله تعالى أن الذي يلزم لهما ليس مقصوراً على منافع الدنيا، بل يلزمه مع ذلك ما يمكن في باب الآخرة من الدعاء، لأنه لا يقدر منهما على ما سواه، فقال: {وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيراً}، بين العلة في لزوم الدعاء لهما، وبين أنه يلزم الولد من الدعاء للوالدين، أكثر مما يلزمه في غيرهما...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
الآية سيقت لقصد معلوم، وهو: الحث على توقير الوالدين وإعظامهما واحترامهما، والبر والإحسان إليهما، والتأفيف والإيذاء يناقض الإعظام الواجب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وقضى رَبُّكَ} وأمر أمراً مقطوعاً به {أَلاَّ تَعْبُدُواْ} أن مفسرة ولا تعبدوا نهي. أو بأن لا تعبدوا {وبالوالدين إحسانا} وأحسنوا بالوالدين إحساناً. أو بأن تحسنوا بالوالدين إحساناً...
فإن قلت: ما معنى عندك؟ قلت: هو أن يكبرا ويعجزا، وكانا كلا على ولدهما لا كافل لهما غيره، فهما عنده في بيته وكنفه، وذلك أشق عليه وأشدّ احتمالاً وصبراً، وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة، فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال، حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما أو يستثقل من مؤنهما: أف، فضلاً عما يزيد عليه. ولقد بالغ سبحانه في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده، ونظمهما في سلك القضاء بهما معاً، ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر ومقتضياته، ومع أحوال لا يكاد يدخل صبر الإنسان معها في استطاعة، {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا}: ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك. والنهي والنهر والنهم: أخوات {وَقُل لَّهُمَا} بدل التأفيف والنهر {قَوْلاً كَرِيمًا} جميلاً، كما يقتضيه حسن الأدب والنزول على المروءة.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنَّ من أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ)...
{إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَك الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا}: خَصَّ حَالَةَ الْكِبَرِ؛ لِأَنَّهَا بِطُولِ الْمَدَى تُوجِبُ الِاسْتِثْقَالَ عَادَةً، وَيَحْصُلُ الْمَلَلُ، وَيَكْثُرُ الضَّجَرُ، فَيَظْهَرُ غَضَبُهُ عَلَى أَبَوَيْهِ، وَتَنْتَفِخُ لَهُمَا أَوْدَاجُهُ، وَيَسْتَطِيلُ عَلَيْهِمَا بِدَالَّةِ الْبُنُوَّةِ، وَقِلَّةِ الدِّيَانَةِ... وَأَقَلُّ الْمَكْرُوهِ أَنْ يُؤَفِّفَ لَهُمَا؛ وَهُوَ مَا يُظْهِرُهُ بِتَنَفُّسِهِ الْمُرَدَّدِ من الضَّجَرِ...
القضاء معناه الحكم الجزم البت الذي لا يقبل النسخ. وإذا كان المنعم بجميع النعم هو الله لا غيره، لا جرم كان المستحق للعبادة هو الله تعالى لا غيره...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان سبحانه عليماً بما في الطباع من ملال الولد لهما عند أخذهما في السن، قال تعالى: {إما} مؤكداً بإدخال "ما "على الشرطية لزيادة التقرير للمعنى اهتماماً بشأن الأبوين {يبلغن عندك} أي بأن يضطر إليك فلا يكون لهما كافل غيرك {الكبر} ونفى كل احتمال يتعلق به المتعنت بقوله تعالى: {أحدهما أو كلاهما} فيعجزا بحيث يكونان في كفالتك {فلا تقل لهما أف} أي لا تتضجر منهما.. وقال الأستاذ أبو الحسن الحرالي رحمه الله في كتابه في أصول الفقه: وقد أولع الأصوليون بأن يذكروا في جملة هذا الباب -أي باب الاستدلال بالملزوم على اللازم والأدنى على الأعلى- قوله تعالى: {ولا تقل لهما أف} بناء على أن التأفيف عندهم أقل شيء يعق به الأب، وذلك حائد عن سنن البيان ووجه الحكمة، لأنه ليس في العقوق شيء أشد من التأفيف لأنه إنما يقال للمستقذر المسترذل، ولذلك عطف عليه {ولا تنهرهما} لأنه لا يلزم منه لزوم سواء ولا لزوم أحرى، ولا يصلح فيما يقع أدنى أن يعطف عليه ما يلزمه سواء أو أحرى، كما لو قال قائل: من يعمل ذرة خيراً يره، ومن يعمل قيراطاً يره، لم يصلح عطفه عليه لإفادة الأول إياه، ولعل ذلك شيء وهل فيه واهل فسلك إثره من غير اعتبار لقوله -انتهى...
ولما نهاه عن عقوقهما تقديماً لما تدرأ به المفسدة، أمره ببرهما جلباً للمصلحة، فقال تعالى: {وقل لهما} أي بدل النهر وغيره {قولاً كريماً} أي حسناً جميلاً يرضاه الله ورسوله مع ما يظهر فيه من اللين والرقة والشفقة وجبر الخاطر وبسط النفس، كما يقتضيه حسن الأدب وجميل المروءة...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
وقال الأصمعي: الأف وسخ الأذن، والثف: وسخ الأظفار، يقال ذلك: عند استقذار الشيء، ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به. {قَوْلاً كَرِيمًا} أي: ليناً لطيفاً أحسن ما يمكن التعبير عنه من لطف القول وكرامته مع التأدب والحياء والاحتشام.
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
(القضاء) يكون بمعنى الإرادة، وهذا هو القضاء الكوني التقديري الذي لا يتخلف متعلقه فما قضاه الله لابد من كونه. ويكون القضاء بمعنى الأمر والحكم، وهذا هو القضاء الشرعي الذي يمتثله الموفقون، ويخالفه المخذولون، والذي في الآية من هذا الثاني... فالله تعالى يعلم الخلق كلهم في هذه الآية بأنه أمر أمرا عاما، وحكم حكما جازما بأن العبادة لا تكون إلا له. و جيء باسم الرب في مقام الأمر بقصر العبادة عليه تنبيها على أن الذي يستحق العبادة هو من له الربوبية بالخلق والتدبير والملك والإنعام، وليس ذلك الإله. فلا يستحق العبادة بأنواعها سواه، فهو تنبيه بوحدانية الربوبية التي من مقتضاها انفراده بالخلق والأمر الكوني والشرعي على وحدانية الألوهية التي من مقتضاها استحقاقه وحده عبادة جميع مخلوقاته...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إِلَّا إِيَّاهُ} لأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي له كل صفة كمال، وله من تلك الصفة أعظمها على وجه لا يشبهه أحد من خلقه، وهو المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة الدافع لجميع النقم الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور فهو المتفرد بذلك كله وغيره ليس له من ذلك شيء...
ثم ذكر بعد حقه القيام بحق الوالدين فقال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي: أحسنوا إليهما بجميع وجوه الإحسان القولي والفعلي لأنهما سبب وجود العبد ولهما من المحبة للولد والإحسان إليه والقرب ما يقتضي تأكد الحق ووجوب البر...
{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} بلفظ يحبانه وتأدب وتلطف بكلام لين حسن يلذ على قلوبهما وتطمئن به نفوسهما، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والعوائد والأزمان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولفظة (قضى) تخلع على الأمر معنى التوكيد، إلى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء (ألا تعبدوا إلا إياه) فتبدو في جو التعبير كله ظلال التوكيد والتشديد... (وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما: أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل: رب ارحمهما كما ربياني صغيرا). بهذه العبارات الندية، والصور الموحية، يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء. ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء، توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام. إلى الذرية. إلى الناشئة الجديدة. إلى الجيل المقبل. وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء. إلى الأبوة. إلى الحياة المولية. إلى الجيل الذاهب! ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف، وتتلفت إلى الآباء والأمهات...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وافتتحت هذه الأحكام والوصايا بفعل القضاء اهتماماً به وأنه مما أمر الله به أمراً جازماً وحكماً لازماً، وليس هو بمعنى التقدير كقوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} [الإسراء: 4] لظهور أن المذكورات هنا مما يقع ولا يقع...
وجيء بخطاب الجماعة في قوله: {ألا تعبدوا إلا إياه} لأن النهي يتعلق بجميع الناس وهو تعريض بالمشركين... والخطاب في قوله: {ربك} للنبيء صلى الله عليه وسلم كالذي في قوله قبل: {من عطاء ربك} [الإسراء: 20]، والقرينة ظاهرة. ويجوز أن يكون لغير معين فيعم الأمة والمآل واحد... وابتدئ التشريع بالنهي عن عبادة غير الله لأن ذلك هو أصل الإصلاح، لأن إصلاح التفكير مقدم على إصلاح العمل، إذ لا يشاق العقل إلى طلب الصالحات إلا إذا كان صالحاً. وفي الحديث: « ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»...
{وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما}. هذا أصل ثانٍ من أصول الشريعة وهو بر الوالدين. وانتصب {إحساناً} على المفعولية المطلقة مصدر نائباً عن فعله. والتقدير: وأحسنوا إحساناً بالوالدين كما يقتضيه العطف على {ألا تعبدوا إلا إياه} أي وقضى إحساناً بالوالدين... {وبالوالدين}... وتقديمه على متعلقه للاهتمام به... والتعريف في الوالدين للاستغراق باعتبار والدي كل مكلف ممن شملهم الجمع في {ألا تعبدوا}... وعطف الأمر بالإحسان إلى الوالدين على ما هو في معنى الأمر بعبادة الله لأن الله هو الخالق فاستحق العبادة لأنه أوجد الناس. ولما جعل الله الأبوين مظهرَ إيجاد الناس أمر بالإحسان إليهما، فالخالق مستحق العبادة لغناه عن الإحسان، ولأنها أعظم الشكر على أعظم منة،، وسببُ الوجود دون ذلك فهو يستحق الإحسان لا العبادة لأنه محتاج إلى الإحسان دون العبادة، ولأنه ليس بمُوجد حقيقي، ولأن الله جبل الوالدين على الشفقة على ولدهما، فأمر الولد بمجازاة ذلك بالإحسان إلى أبويه... والخطاب لغير معين فيعم كل مخاطب بقرينة العطف على {ألا تعبدوا إلا إياه} وليس خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن له أبوان يومئذٍ. وإيثار ضمير المفرد هنا دون ضمير الجمع لأنه خطاب يختص بمن له أبوان من بين الجماعة المخاطبين بقوله: {ألا تعبدوا إلا إياه} فكان الإفراد أنسب به وإن كان الإفراد والجمع سواء في المقصود لأن خطاب غير المعين يساوي خطاب الجمع...
ووجه تَعدد فاعل {يبلغن} مُظهراً دون جعله بضمير التثنية بأن يقال إما يبلغَانِّ عندك الكبر، الاهتمام بتخصيص كل حالة من أحوال الوالدين بالذكر، ولم يستغن بإحدى الحالتين عن الأخرى لأن لكل حالة بواعث على التفريط في واجب الإحسان إليهما، فقد تكون حالة اجتماعهما عند الابن تستوجب الاحتمال منهما لأجل مراعاة أحدهما الذي الابن أشد حُبّاً له دون ما لو كان أحدهما منفرداً عنده بدون الآخر الذي ميله إليه أشد، فالاحتياج إلى ذكر أحدهما في هذه الصورة للتنبيه على وجوب المحافظة على الإحسان له. وقد تكون حالة انفراد أحد الأبوين عند الابن أخف كلفة عليه من حالة اجتماعهما، فالاحتياج إلى {أو كلاهما} في هذه الصورة للتحذير من اعتذار الابن لنفسه عن التقصير بأن حالة اجتماع الأبوين أحرَج عليه، فلأجل ذلك ذكرت الحالتان وأجري الحكم عليهما على السواء، فكانت جملة {فلا تقل لهما أف} بتمامها جواباً ل (إما)...
وليس المقصود من النهي عن أن يقول لهما {أف} خاصة، وإنما المقصود النهي عن الأذى الذي أقله الأذى باللسان بأوْجز كلمة، وبأنها غير دالة على أكثر من حصُول الضجر لقائلها دون شتم أو ذم، فيفهم منه النهي مما هو أشد أذى بطريق فحوى الخطاب بالأوْلى... ثم أمر بإكرام القول لهما. والكريم من كل شيء: الرفيع في نوعه...
العبادة: هي إطاعة آمر في أمره ونهيه، فتنصاع له تنفيذاً للأمر، واجتناباً للنهي، فإن ترك لك شيئاً لا أمر فيه ولا نهي فاعلم أنه ترك لك الاختيار، وأباح لك: تفعل أو لا تفعل...: التربية والرعاية في الوالدين محسة، أما التربية والرعاية من الله فمعقولة، فأمر الله لك بالإحسان إلى الوالدين دليل على وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، فهو سبحانه الذي خلقك، وهو سبب وجودك الأول، وهو مربيك وصاحب رعايتك، وصاحب الفضل عليك قبل الوالدين... لابد أن يلتحم حق الله بحق الوالدين، وأن نأخذ أحدهما دليلاً على الآخر. ونلاحظ أن الحق تبارك وتعالى حين أمرنا بعبادته جاء بأسلوب النفي: {ألا تعبدوا}: يعني نهانا أن نعبد غيره سبحانه، أما حين تكلم عن الوالدين فلم يقل مثلاً: لا تسيئوا للوالدين، فيأتي بأسلوب نفي كسابقه، لماذا؟ قالوا: لأن فضل الوالدين واضح لا يحتاج إلى إثبات، ولا يحتاج إلى دليل عقلي، وقولك: لا تسيئوا للوالدين يجعلهما مظنة الإساءة، وهذا غير وارد في حقهما، وغير متصور منهما، وأنت إذا نفيت شيئاً عن من لا يصح أن ينفي عنه فقد ذممته...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} فتقدّم السنّ يؤدّي إلى اختلال المزاج وسوء الخلق، وضيق الصدر، ما ينعكس على تصرفاتهما التي تتخذ جانباً سلبياً ضد الناس الذين يعيشون معهما، لا سيما أولادهما الذين يشعرون بالضيق من ذلك، فيحدث بسببه ردّ فعل سلبيٍّ تجاههما، ما يوجب صدور الإساءة منهم إليهما، لأن القوي عادةً يضغط على الضعيف ويؤذيه ويهينه، وبذلك نفهم أن الكبر ليس له خصوصيةٌ في ذاته، بل الخصوصية له بلحاظ ما يستتبعه من تصرفاتٍ تؤدي إلى ردود فعلٍ سلبيةٍ من قبل الولد...
{وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} أي لا تغلظ عليهما بالزجر والصوت الشديد القاسي {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} بالكلمة الحلوة اللطيفة التي تحمل الحب والعطف والحنان وتوحي بالانفتاح والاحترام والإعزاز والكرامة والابتسامة المشرقة والنظرة الحنونة...