في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡۖ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِيٓ أَخۡدَانٖۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (5)

ويستطرد في بيان ما أحل لهم من الطعام ويلحق به ما أحل لهم من النكاح :

( اليوم أحل لكم الطيبات . وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم . وطعامكم حل لهم . والمحصنات من المؤمنات . والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم . إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ) . .

وهكذا يبدأ ألوان المتاع الحلال مرة أخرى بقوله :

( اليوم أحل لكم الطيبات ) . .

فيؤكد المعنى الذي أشرنا إليه ؛ ويربط بينه وبين الألوان الجديدة من المتاع . فهي من الطيبات

وهنا نطلع على صفحة من صفحات السماحة الإسلامية ؛ في التعامل مع غير المسلمين ، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي " في دار الإسلام " ، أو تربطهم به روابط الذمة والعهد ، من أهل الكتاب . .

إن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية ؛ ثم يعتزلهم ، فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مجفوين معزولين - أو منبوذين - إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية ، والمودة ، والمجاملة والخلطة . فيجعل طعامهم حلا للمسلمين وطعام المسلمين حلا لهم كذلك . ليتم التزاور والتضايف والمؤاكلة والمشاربة ، وليظل المجتمع كله في ظل المودة والسماحة . . وكذلك يجعل العفيفات من نسائهم - وهن المحصنات بمعنى العفيفات الحرائر - طيبات للمسلمين ، ويقرن ذكرهن بذكر الحرائر العفيفات من المسلمات . وهي سماحة لم يشعر بها إلا أتباع الإسلام من بين سائر أتباع الديانات والنحل . فإن الكاثوليكي المسيحي ليتحرج من نكاح الأرثوذكسية ، أو البروتستانتية ، أو المارونية المسيحية . ولا يقدم على ذلك إلا المتحللون عندهم من العقيدة !

وهكذا يبدو أن الإسلام هو المنهج الوحيد الذي يسمح بقيام مجتمع عالمي ، لا عزلة فيه بين المسلمين وأصحاب الديانات الكتابية ؛ ولا حواجز بين أصحاب العقائد المختلفة ، التي تظلها راية المجتمع الإسلامي . فيما يختص بالعشرة والسلوك [ أما الولاء والنصرة فلها حكم آخر سيجيء في سياق السورة ] .

وشرط حل المحصنات الكتابيات ، هو شرط حل المحصنات المؤمنات :

( إذا آتيتموهن أجورهن محصنين ، غير مسافحين ، ولا متخذي أخدان ) .

ذلك أن تؤدى المهور ، بقصد النكاح الشرعي ، الذي يحصن به الرجل امرأته ويصونها ، لا أن يكون هذا المال طريقا إلى السفاح أو المخادنة . . والسفاح هو أن تكون المرأة لأي رجل ؛ والمخادنه أن تكون المرأة لخدين خاص بغير زواج . . وهذا وذلك كانا معروفين في الجاهلية العربية ، ومعترفا بهما من المجتمع الجاهلي . قبل أن يطهره الإسلام ، ويزكيه ، ويرفعه من السفح الهابط إلى القمة السامقة . .

ويعقب على هذه الأحكام تعقيبا فيه تشديد ، وفيه تهديد : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ، وهو في الآخرة من الخاسرين . . إن هذه التشريعات كلها منوطة بالإيمان ؛ وتنفيذها كما هي هو الإيمان ؛ أو هو دليل الإيمان . فالذي يعدل عنها إنما يكفر بالإيمان ويستره ويغطيه ويجحده . والذي يكفر بالإيمان يبطل عمله ويصبح ردا عليه لا يقبل منه ، ولا يقر عليه . . والحبوط مأخوذ من انتفاخ الدابة وموتها إذا رعت مرعى ساما . . وهو تصوير لحقيقة العمل الباطل . فهو ينتفخ ثم ينعدم أثره كالدابة التي تتسمم وتنتفخ وتموت . . وفي الآخرة تكون الخسارة فوق حبوط العمل وبطلانه في الدنيا . .

وهذا التعقيب الشديد ، والتهديد المخيف ، يجيء على إثر حكم شرعي يختص بحلال وحرام في المطاعم والمناكح . . فيدل على ترابط جزئيات هذا المنهج ؛ وأن كل جزئية فيه هي " الدين " الذي لا هوادة في الخلاف عنه ، ولا قبول لما يصدر مخالفا له في الصغير أو في الكبير .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡۖ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِيٓ أَخۡدَانٖۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (5)

لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين من الخبائث ، وما أحله لهم من الطيبات ، قال بعده : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ }

ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنصارى ، فقال : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ حِلٌّ لَكُمْ } قال ابن عباس ، وأبو أمامة ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، وعِكْرِمة ، وعَطاء ، والحسن ، ومَكْحول ، وإبراهيم النَّخَعِي ، والسُّدِّي ، ومُقاتل بن حيَّان : يعني ذبائحهم .

وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء : أن ذبائحهم حلال للمسلمين ؛ لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله ، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عن قولهم ، تعالى وتقدس . وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مُغَفَّل قال : دُلِّي بجراب من شحم يوم خيبر . [ قال ]{[9181]} فاحتضنته{[9182]} وقلت : لا أعطي اليوم من هذا أحدًا ، والتفتُّ فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم . {[9183]}

فاستدل به الفقهاء على أنه يجوز تناولُ ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة قبل القسمة ، وهذا ظاهر . واستدل به الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة على أصحاب مالك في منعهم أكل{[9184]} ما يعتقد اليهود تحريمه{[9185]} من ذبائحهم ، كالشحوم ونحوها مما حرم عليهم . فالمالكية لا يجوزون للمسلمين أكله ؛ لقوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } قالوا : وهذا ليس من طعامهم . واستدل عليهم{[9186]} الجمهور بهذا الحديث ، وفي ذلك نظر ؛ لأنه قضية عين ، ويحتمل أنه كان شحما يعتقدون حله ، كشحم الظهر والحوايا ونحوهما ، والله أعلم .

وأجود منه في الدلالة ما ثبت في الصحيح : أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مَصْليَّة ، وقد سَمّوا ذراعها ، وكان يعجبه الذراع ، فتناوله فنَهَشَ منه نَهْشةً ، فأخبره الذراع أنه مسموم ، فلَفَظَه وأثر ذلك السم في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبْهَرِه ، وأكل معه منها بشر بن البراء بن مَعْرور ؛ فمات ، فقتل اليهودية التي سمتها ، وكان اسمها زينب ، فقتلت ببشر بن البراء . {[9187]}

ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه ، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا .

وفي الحديث الآخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنَخَة ، يعني : ودَكا زنخا{[9188]}

وقال ابن أبي حاتم : قرئ على العباس بن الوليد بن مَزْيَد ، أخبرنا محمد بن شعيب ، أخبرني النعمان بن المنذر ، عن مكحول قال : أنزل الله : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ الأنعام : 121 ] ثم نسخها الرب ، عز وجل ، ورحم المسلمين ، فقال : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } فنسخها بذلك ، وأحل طعام أهل الكتاب .

وفي هذا الذي قاله مكحول ، رحمه الله ، نظر ، فإنه لا يلزم من إباحته طعام أهل الكتاب إباحةُ أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ؛ لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم ، وهم متعبدون بذلك ؛ ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك ومن شابههم ، لأنهم لم يذكروا اسم الله على ذبائحهم ، بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة ، بل يأكلون الميتة ، بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصابئة ، ومن تَمَسّك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء ، على أحد قولي العلماء ، ونصارى العرب كبني تَغْلِب وتَنُوخ وبَهْرَاء وجُذام ولَخْم وعَاملة ومن أشبههم ، لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور .

[ و ]{[9189]} قال أبو جعفر بن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن أيوب ، عن{[9190]} محمد بن عَبِيدة قال : قال علي : لا تأكلوا ذبائح بنى تغلب ؛ لأنهم{[9191]} إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر .

وكذا قال غير واحد من الخلف والسلف .

وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة عن سعيد بن المسيب ، والحسن ؛ أنهما كانا لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب .

وأما المجوس ، فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب فإنهم{[9192]} لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم ، خلافا لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي ، أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، ولما قال ذلك واشتهر عنه أنكر عليه الفقهاء ذلك ، حتى قال عنه الإمام أحمد : أبو ثور كاسمه ! يعني في هذه المسألة ، وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سُنوا بهم سنة أهل الكتاب " ، {[9193]} ولكن لم يثبت بهذا اللفظ ، وإنما الذي في صحيح البخاري : عن عبد الرحمن بن عوف ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مَجوس هَجَر{[9194]} ولو سلم صحة هذا الحديث ، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } فدل بمفهومه - مفهوم المخالفة - على أن طعام من عداهم من أهل الأديان{[9195]} لا يحل{[9196]}

وقوله : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } أي : ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم ، وليس هذا إخبارا عن الحكم عندهم ، اللهم إلا أن يكون خبرا عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه ، سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها . والأول أظهر في المعنى ، أي : ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم . وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة ، كما ألبس النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه لعبد الله بن أبيّ بن سلول حين مات ودفنه فيه ، قالوا : لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه ، فجازاه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بذلك ، فأما{[9197]} الحديث الذي فيه : " لا تَصْحَبْ إلا مُؤْمِنا ، ولا يأكل طعامك إلا تقي " {[9198]} فمحمول على الندب والاستحباب ، والله أعلم .

وقوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ } أي : وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات ، وذكر هذا توطئة لما بعده ، وهو قوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم } فقيل :{[9199]} أراد بالمحصنات : الحرائر دون الإماء ، حكاه ابن جرير عن مجاهد . وإنما قال مجاهد : المحصنات : الحرائر ، فيحتمل{[9200]} أن يكون أراد ما حكاه عنه ، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة ، كما قاله مجاهد في الرواية الأخرى عنه . وهو{[9201]} قول الجمهور هاهنا ، وهو الأشبه ؛ لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة ، فيفسد حالها بالكلية ، ويتحصل زوجها على ما قيل{[9202]} في المثل : " حَشفَا{[9203]} وسَوء كيلة " . {[9204]} {[9205]} والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات : العفيفات عن الزنا ، كما قال في الآية الأخرى : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } [ النساء : 25 ] .

ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } هل يعم كل كتابية عفيفة ، سواء كانت حرة أو أمة ؟ حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف ، ممن فسر المحصنة بالعفيفة . وقيل : المراد بأهل الكتاب هاهنا الإسرائيليات ، وهو مذهب الشافعي . وقيل : المراد بذلك : الذميات دون الحربيات ؛ لقوله : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ[ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ] } [ التوبة : 29 ] {[9206]}

وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ، ويقول : لا أعلم شركا أعظم من أن تقول : إن ربها عيسى ، وقد قال الله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } الآية [ البقرة : 221 ] .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب ، حدثنا القاسم بن مالك - يعني المُزَنِيّ - حدثنا إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي مالك الغفاري ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } قال : فحجز الناس عنهن حتى نزلت التي بعدها : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } فنكح الناس [ من ]{[9207]} نساء أهل الكتاب .

وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا ، أخذا بهذه الآية الكريمة : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } فجعلوا{[9208]} هذه مخصصة للآية التي البقرة : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } [ الآية : 221 ] إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها ، وإلا فلا معارضة بينها وبينها{[9209]} ؛ لأن أهل الكتاب قد يُفْصَل في ذكرهم عن المشركين في غير موضع ، كما قال تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } [ البينة : 1 ] وكقوله{[9210]} { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا } الآية [ آل عمران : 20 ] ، وقوله : { إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي :{[9211]} مهورهن ، أي : كما هن محصنات عفائف ، فابذلوا لهن المهور{[9212]} عن طيب نفس . وقد أفتى جابر بن عبد الله ، وإبراهيم النخعي ، وعامر الشعبي ، والحسن البصري بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها : أنه يفرق بينه وبينها ، وتَرُدّ عليه ما بذل لها من المهر . رواه ابن جرير عنهم . .

وقوله : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } فكما شرط الإحصان في النساء - وهي العفة - عن الزنا كذلك شرطها في الرجال وهو أن يكون الرجل أيضا محصنا عفيفا ؛ ولهذا قال : { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } وهم : الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ، ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم ، { وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } أي : ذوي العشيقات الذين{[9213]} لا يفعلون إلا معهن ، كما تقدم في سورة النساء سواء ؛ ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البَغي حتى تتوب ، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف ، وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنا ؛ لهذه الآية وللحديث الآخر : " لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله . " {[9214]}

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بَشّار ، حدثنا سليمان بن حَرْب ، حدثنا أبو هلال ، عن قتادة ، عن الحسن قال : قال عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ]{[9215]} لقد هممت ألا أدع أحدًا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة . فقال له أبيّ بن كعب : يا أمير المؤمنين ، الشرك أعظم من ذلك ، وقد يقبل منه إذا تاب . {[9216]}

وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستقصى [ إن شاء الله تعالى ]{[9217]} عند قوله : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 3 ] ؛ ولهذا قال تعالى هاهنا : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }


[9181]:زيادة من أ.
[9182]:في أ: "فاحتبسته".
[9183]:صحيح البخاري برقم (3153) وصحيح مسلم برقم (1772).
[9184]:في أ: "كل".
[9185]:في أ: "وتحريمه".
[9186]:في ر: "عليه".
[9187]:ورواه أبو داود في سننه برقم (4512) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
[9188]:رواه أحمد في مسنده (3/211) من حديث أنس، رضي الله عنه.
[9189]:زيادة من أ.
[9190]:في ر، أ: "بن".
[9191]:في ر، أ: "فإنهم".
[9192]:في أ "فإنه".
[9193]:رواه مالك في الموطأ (1/278) ومن طريقة الشافعي في السنن (1183) والبيهقي في السنن الكبرى (9/189) عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". ومحمد بن علي لم يسمع من عمر، فهو منقطع.
[9194]:صحيح البخاري برقم (3156).
[9195]:في أ: "الأوثان".
[9196]:في د: "طعام غير أهل الكتاب لا يحل".
[9197]:في أ: "وأما".
[9198]:رواه أبو دواد في السنن برقم (4832) وابن ماجة في السنن برقم (2395) من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه.
[9199]:في د: "قيل"، وفي أ: "قلت".
[9200]:في أ: "يحتمل".
[9201]:في أ: "وهي".
[9202]:في د: "كما قيل".
[9203]:في ر، د: "حثف".
[9204]:في أ: "كلية"، وهو خطأ.
[9205]:الحشف: أردأ التمر، وانظر: مجمع الأمثال للميداني (1/207).
[9206]:زيادة من ر، أ. وفي هـ: "الآية".
[9207]:زيادة من أ.
[9208]:في أ: "وجعلوا".
[9209]:في ر، أ: "وبيننا".
[9210]:في ر: "ولقوله".
[9211]:في أ: "يعني".
[9212]:في أ: "مهورهن".
[9213]:في ر، أ: "اللاتي".
[9214]:رواه أبو داود في سننه برقم (2052) من طريق عمرو بن شعيب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة به.
[9215]:زيادة من أ.
[9216]:تفسير الطبري (9/584).
[9217]:زيادة من أ.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱلۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡۖ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِيٓ أَخۡدَانٖۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (5)

{ اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } يتناول الذبائح وغيرها ، ويعم الذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى ، واستثنى علي رضي الله عنه نصارى بني تغلب وقال : ليسوا على النصرانية ، ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر . ولا يلحق بهم المجوس في ذلك وإن ألحقوا بهم في التقرير على الجزية لقوله عليه الصلاة والسلام : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم " { وطعامكم حل لهم } فلا عليكم أن تطعموهم وتبيعوه منهم ولو حرم عليهم لم يجز ذلك . { والمحصنات من المؤمنات } أي الحرائر أو العفائف ، وتخصيصهن بعث على ما هو الأولى . { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } وإن كن حربيات وقال ابن عباس لا تحل الحربيات . { إذا آتيتموهن أجورهن } مهورهن وتقييد الحل بإيتائها لتأكيد وجوبها والحث على ما هو الأولى . وقيل المراد بإيتائها التزامها { محصنين } أعفاء بالنكاح . { غير مسافحين } غير مجاهرين بالزنا . { ولا متخذي أخدان } مسرين به ، والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى . { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين } يريد بالإيمان شرائع الإسلام وبالكفر إنكاره والامتناع عنه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡۖ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِيٓ أَخۡدَانٖۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (5)

وقوله تعالى : { اليوم أحل لكم الطيبات } إشارة إلى الزمن والأوان ، والخطاب للمؤمنين ، وتقدم القول في { الطيبات } وقوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ابتداء وخبر ، و { حل } معناه حلال ، والطعام في هذه الآية الذبائح كذا قال أهل التفسير ، وذلك أن الطعام الذي لا محاولة فيه كالُبر والفاكهة ونحوه لا يضر فيه وُيحرم عينه تََمَلُّك أحد . والطعام الذي تقع فيه محاولة على ضربين : فمنه ما محاولته صنعة لا تعلق للدين بها كخبز الدقيق وتعصير الزيت ونحوه فهذا إن ُتجُنب من الذمي فعلى جهة التقزز . والضرب الثاني هي التزكية التي هي محتاجة إلى الدين والنية فلما كان القياس ألا تجوز ذبائحهم كما تقول : إنهم لا صلاة لهم ولا صوم ولا عبادة مقبولة رخص الله تعالى في ذبائحهم على هذه الأمة وأخرجها بالنص عن القياس . ثم إن العلماء اختلفوا في لفظ [ طعام ] فقال الجمهور : وهي الذبيحة كلها وتذكية الذمي عاملة{[4457]} لنا في كل الذبيحة ما حل له منها وما حرم عليه لأنه مذك . وقالت جماعة من أهل العلم إنما أحل لنا طعامهم من الذبيحة أي الحلال لهم لأن ما لا يحل لهم لا تعمل فيه تذكيتهم فمنعت هذه الطائفة الطريف{[4458]} والشحوم المحضة من ذبائح أهل الكتاب ، وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك رحمه الله ، واختلف العلماء في لفظة { أوتوا } فقالت فرقة إنما أحلت لنا ذبائح بني إسرائيل الصرحاء الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل ، فمنعت هذه الفرقة ذبائح نصارى بني تغلب من العرب وذبائح كل دخيل في هذين الدينين ، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينهى عن ذبائح نصارى بني تغلب ، ويقول لأنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر .

قال القاضي أبو محمد : فهذا ليس بنهي عن ذبائح النصارى المحققين منهم ، وقال جمهور الأمة ابن عباس والحسن وعكرمة وابن المسيب والشعبي وعطاء وابن شهاب والحكم وحماد وقتادة ومالك رحمه الله وغيرهم : إن ذبيحة كل نصراني حلال سواء كان من بني تغلب أو غيرهم ، وكذلك اليهود ، وتأولوا قول الله تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم }{[4459]} .

وقوله تعالى : { وطعامكم حل لهم } أي ذبائحكم ، فهذه رخصة للمسلمين لا لأهل الكتاب ، لمّا كان الأمر يقتضي أن شيئاً قد تشرعنا فيه بالتذكية ينبغي لنا أن نحميه منهم ، ورخص الله تعالى في ذلك رفعاً للمشقة بحسب التجاوز ، وقوله تعالى : { والمحصنات } عطف على الطعام المحلل ، والإحصان في كلام العرب وفي تصريف الشرع مأخوذ من المنعة ومنه الحصن ، وهو مترتب بأربعة أشياء : الإسلام والعفة والنكاح والحرية ، فيمتنع في هذا الموضع أن يكون الإسلام لأنه قد نص أنهن من أهل الكتاب ويمتنع أن يكون النكاح لأن ذات الزوج لا تحل ، ولم يبق إلا الحرية والعفة فاللفظة تحتملهما ، واختلف أهل العلم بحسب هذا الاحتمال فقال مالك رحمه الله ومجاهد وعمر بن الخطاب وجماعة من أهل العلم «المحصنات » في هذه الآية الحرائر فمنعوا نكاح الأمة الكتابية ، وقالت جماعة من أهل العلم : «المحصنات » في هذه الآية العفائف ، منهم مجاهد أيضاً والشعبي وغيرهم فجوزوا نكاح الأمة الكتابية وبه قال سفيان والسدي ، وقال الشعبي : إحصان الذمية ألا تزني وأن تغتسل من الجنابة ، وقال أبو ميسرة : مملوكات أهل الكتاب بمنزلة حرائرهن العفائف منهن حلال نكاحهن .

قال القاضي أبو محمد : ومنع بعض العلماء زواج غير العفيفة بهذه الآية ، وقال الحسن بن أبي الحسن : إذا اطلع الرجل من امرأته على فاحشة فليفارقها . وفرق ابن عباس بين نساء أهل الحرب ونساء أهل الذمة فقال : من أهل الكتاب من يحل لنا وهم كل من أعطى الجزية ، ومنهم من لا يحل لنا وهم أهل الحرب ، وكره مالك رحمه الله نكاح نساء أهل الحرب مخافة ضياع الولد أو تغير دينه ، والأجور في هذه الآية المهور ، وانتزع أهل العلم لفظة { آتيتموهن } أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل من المهر ما يستحلها به ، ومن جوز أن يدخل دون أن يبذل ذلك فرأى أنه بحكم الارتباط والالتزام في حكم المؤتي ، و { محصنين } معناه متزوجين على السنة ، والإحصان في هذا الموضع هو بالنكاح ، والمسافح المزاني ، والسفاح الزنى ، والمسافحة هي المرأة التي لا ترد يد لامس وتزني مع كل أحد وهن أصحاب الرايات في الجاهلية ، والمخادنة أن يكون الزانيان قد وقف كل واحد نفسه على صاحبه ، وقد تقدم نظير هذه الآية وفسر بأوعب من هذا ، وقوله تعالى : { ومن يكفر بالإيمان } يحتمل أن يكون المعنى على أن الكفر هو بنفس الإيمان ، وفي هذا مجاز واستعارة لأن الإيمان لا يتصور كفر به إنما الكفر بالأمور التي حقها ان يقع الإيمان بها ، وباق الآية بين .


[4457]:- أي: مؤثرة في كل الذبيحة، ما حلّ منها للذمي وما حرم عليه.
[4458]:- هذه كلمة عبرية، في الخرشي على "مختصر خليل": "الطريفة: هي أن توجد الذبيحة فاسدة الرئة، أي: ملتصقة بظهر الحيوان، وإنما كانت الطريفة عندهم محرمة، لأن ذلك علامة على أنها لا تعيش من ذلك، فلا تعمل فيها الذكاة عندهم، فهي بمنزلة منفوذة المقاتل عندنا. (عن محقق القرطبي).
[4459]:- من الآية (51) من سورة (المائدة).