في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا} (64)

ويختم هذا الدرس بإعلان الربوبية المطلقة لله ، والتوجيه إلى عبادته والصبر على تكاليفها . ونفي الشبيه والنظير :

( وما نتنزل إلا بأمر ربك ، له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك ، وما كان ربك نسيا . رب السماوات والأرض وما بينهما ، فاعبده واصطبر لعبادته . هل تعلم له سميا ? ) . .

وتتضافر الروايات على أن قوله ( وما نتنزل إلا بأمر ربك . . )مما أمر جبريل عليه السلام أن يقوله للرسول [ ص ] ردا على استبطائه للوحي فترة لم يأته فيها جبريل . فاستوحشت نفسه ، واشتاقت للاتصال الحبيب . فكلف جبريل أن يقول له : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك )فهو الذي يملك كل شيء من أمرنا :

له من بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وهو لا ينسى شيئا ، إنما ينزل الوحي عندما تقتضي حكمته أن ينزل ( وما كان ربك نسيا )فناسب بعد ذلك أن يذكر الاصطبار على عبادة الله مع إعلان الربوبية له دون سواه :

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا} (64)

قال الإمام أحمد : حدثنا يَعْلى ووكيع قالا حدثنا عمر بن ذَرّ ، عن أبيه ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل : " ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ؟ " قال : فنزلت { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } إلى آخر الآية .

انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه عند تفسير هذه الآية عن أبي نعيم ، عن عمر بن ذر به . ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، من حديث عمر بن ذر به{[18997]} وعندهما زيادة في آخر الحديث ، فكان

ذلك الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم .

وقال العَوْفي عن ابن عباس : احتبس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحَزَن ، فأتاه جبريل وقال : يا محمد ، { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا }

وقال مجاهد : لبث جبريل عن محمد صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة ليلة ، ويقولون [ قُلِيَ ]{[18998]} فلما جاءه قال : يا جبريل لقد رِثْتَ عليّ حتى ظن المشركون كل ظن . فنزلت : { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ [ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ]{[18999]} وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } قال : وهذه الآية كالتي في الضحى .

وكذلك قال الضحاك بن مُزَاحم ، وقتادة ، والسدي ، وغير واحد : إنها نزلت في احتباس جبريل .

وقال الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال : أبطأ جبريل النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يومًا ، ثم نزل ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما نزلت حتى اشتقت إليك " فقال له جبريل : بل أنا كنت إليك أشوق ، ولكني مأمور ، فأوحِيَ إلى جبريل أن قل له : { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } الآية . رواه ابن أبي حاتم ، رحمه الله ، وهو غريب .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن مجاهد قال : أبطأت الرسلُ على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أتاه جبريل فقال له : ما حبسك يا جبريل ؟ فقال له جبريل : وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ، ولا تُنْقُون براجمكم ، ولا تأخذون شواربكم ، ولا تستاكون ؟ ثم قرأ : { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } إلى آخر الآية .

وقد قال الطبراني : حدثنا أبو عامر النحوي ، حدثنا محمد بن إبراهيم الصوري ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن [ الدمشقي ]{[19000]} حدثنا إسماعيل بن عياش ، أخبرني ثعلبة بن مسلم ، عن أبي كعب مولى ابن عباس ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن جبريل أبطأ عليه ، فذكر ذلك له فقال : وكيف وأنتم لا تَسْتَنّون ، ولا تُقَلّمُون أظفاركم ، ولا تقصون شواربكم ، ولا تُنْقُون رواجبكم .

وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن أبي اليمان ، عن إسماعيل بن عياش ، به نحوه{[19001]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا سَيَّار ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا المغيرة بن حبيب - [ ختن ]{[19002]} مالك بن دينار - حدثني شيخ من أهل المدينة ، عن أم سلمة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أصلحي لنا المجلس ، فإنه ينزل{[19003]} ملك إلى الأرض ، لم ينزل إليها قط " {[19004]}

وقوله : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } قيل : المراد ما بين أيدينا : أمر الدنيا ، وما خلفنا : أمر الآخرة ، { وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ } ما بين النفختين . هذا قول أبي العالية ، وعكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير . وقتادة ، في رواية عنهما ، والسدي ، والربيع بن أنس .

وقيل : { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } ما نستقبل من أمر الآخرة ، { وَمَا خَلْفَنَا } أي : ما مضى من الدنيا ، { وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ } أي : ما بين الدنيا والآخرة . يروى نحوه عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وقتادة ، وابن جريج ، والثوري . واختاره ابن جرير أيضًا ، والله أعلم .

وقوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } قال مجاهد [ والسُّدِّيّ ]{[19005]} معناه : ما نسيك ربك .

وقد تقدم عنه أن هذه الآية كقوله : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } [ الضحى : 1 - 3 ]

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي ، حدثنا محمد بن عثمان{[19006]} - يعني أبا الجماهر{[19007]} - حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة ، عن أبيه ، عن أبي الدرداء يرفعه قال : " ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت [ عنه ]{[19008]} فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى{[19009]} شيئا " ثم تلا هذه الآية : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا }{[19010]}


[18997]:المسند (1/231)، (1/233) وصحيح البخاري برقم (4731) وتفسير الطبري (16/78).
[18998]:زيادة من ت، ف، أ.
[18999]:في ت، ف، أ: "إلى قوله".
[19000]:زيادة من ت، ف، أ.
[19001]:المعجم الكبير (11/431) والمسند (1/243) وفي إسناده أبو كعب مولى ابن عباس، قال أبو زرعة: "لا يسمى ولا يعرف إلا في هذا الحديث".
[19002]:في هـ، ت، ف: "عن"، والمثبت من أ، والمسند.
[19003]:في ف، أ: "يتنزل".
[19004]:المسند (6/296).
[19005]:زيادة من ت، ف.
[19006]:في ت: "ابن عباس".
[19007]:في أ: "أبا الجماهير".
[19008]:زيادة من ت، ف، أ.
[19009]:في أ: "لينسنا".
[19010]:ورواه البزار في مسنده برقم (123) من طريق سليمان بن عبد الرحمن عن إسماعيل بن عياش به وقال: "إسناده صالح".ورواه الحاكم في المستدرك (2/375) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (10/12) عن طريق أبي نعيم الفضل بن دكين عن عاصم بن رجاء عن أبيه به وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".وله شاهد من حديث سلمان رضي الله عنه.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا} (64)

{ وما نتنزل إلا بأمر ربك } حكاية قول جبريل عليه الصلاة والسلام حين استبطأه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيب ، ورجا أن يوحى إليه فيه فأبطأ عليه خمسة عشر يوما ، وقيل أربعين يوما حتى قال المشركون ودعه ربه وقلاه ، ثم نزل ببيان ذلك . والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع نزل وقد يطلق بمعنى النزول مطلقا كما يطلق نزل بمعنى أنزل ، والمعنى وما ننزل وقتا غب وقت إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته ، وقرئ " وما يتنزل " بالياء والضمير للوحي { له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك } وهو ما نحن فيه من الأماكن والأحايين لا ننتقل من مكان إلى مكان ، ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته . { وما كان ربك نسيا } تاركا لك أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به ولم يكن ذلك عن ترك الله لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة وإنما كان لحكمة رآها فيه . وقيل أول الآية حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة والمعنى وما ننزل الجنة إلا بأمر الله ولطفه ، وهو مالك الأمور كلها السالفة والمترقبة والحاضرة فما وجدناه وما نجده من لطفه وفضله وقوله { وما كان ربك نسيا } تقرير من الله لقولهم أي وما كان ربك نسيا لأعمال العاملين وما وعد لهم من الثواب عليها .