وحين يصل السياق إلى هذا المقطع الفاصل من عرض دلائل القدرة في مشاهد الكون الكبرى يتوجه بالخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليمضي في طريقه ، غير ملتفت إلى المشركين وجدالهم له ؛ فلا يمكنهم من نزاعه في منهجه الذي اختاره الله له ، وكلفه تبليغه وسلوكه .
( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ، فلا ينازعنك في الأمر ، وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم . وإن جادلوك فقل : الله أعلم بما تعملون . الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون . ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض ? إن ذلك في كتاب . إن ذلك على الله يسير ) . .
إن لكل أمة منهجا وطريقة في الحياة والتفكير والسلوك والاعتقاد . هذا المنهج خاضع لسنن الله في تصريف الطبائع والقلوب وفق المؤثرات والاستجابات . وهي سنن ثابتة مطردة دقيقة . فالأمة التي تفتح قلوبها لدواعي الهدى ودلائله في الكون والنفس هي أمة مهتدية إلى الله بالاهتداء إلى نواميسه المؤدية إلى معرفته وطاعته . والأمة التي تغلق قلوبها دون تلك الدواعي والدلائل أمة ضالة تزداد ضلالا كلما زادت اعراضا عن الهدى ودواعيه . .
وهكذا جعل الله لكل أمة منسكا هم ناسكوه ، ومنهجا هم سالكوه . . فلا داعي إذن لأن يشغل الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] نفسه بمجادلة المشركين ، وهم يصدون أنفسهم عن منسك الهدى ، ويمعنون في منسك الضلال . والله يأمره ألا يدع لهم فرصة لينازعوه أمره ، ويجادلوه في منهجه . كما يأمره أن يمضي على منهجه لا يتلفت ولا ينشغل بجدل المجادلين . فهو منهج مستقيم : ( وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم ) . .
فليطمئن إذن على استقامة منهجه . واستقامته هو على الهدى في الطريق . .
يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم{[20409]} منسكا .
قال ابن جرير : يعني : لكل أمة نبي منسكا . قال : وأصل المنسك في كلام العرب : هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ، ويتردد إليه ، إما لخير أو شر . قال : ولهذا سميت مناسك الحج بذلك ، لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها{[20410]} .
فإن كان كما قال من أن المراد : { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا } فيكون المراد بقوله : { فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ } أي : هؤلاء المشركون . وإن كان المراد : " لكل أمة جعلنا منسكا جعلا قدريا - كما قال : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } [ البقرة : 148 ] ولهذا قال هاهنا : { هُمْ نَاسِكُوهُ } أي : فاعلوه - فالضمير هاهنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق ، أي : هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته ، فلا تتأثر بمنازعتهم لك ، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق ؛ ولهذا قال : { وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ } أي : طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود .
وهذه كقوله : { وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ } [ القصص : 87 ] .
{ لكل أمة } أهل دين . { جعلنا منسكا } متعبدا أو شريعة تعبدوا بها ، وقيل عيدا . { هم ناسكوه } ينسكونه . { فلا ينازعنك } سائر أرباب الملل . { في الأمر } في أمر الدين أو النسائك لأنهم بين جهال وأهل عناد ، أو لأن أمر دينك أظهر من أن يقبل النزاع ، وقيل المراد نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الالتفات إلى قولهم وتمكينهم من المناظرة المؤدية إلى نزاعهم ، فإنها إنما تنفع طالب الحق وهؤلاء أهل مراء ، أو عن منازعتهم كقولك : لا يضار بك زيد ، وهذا إنما يجوز في أفعال المغالبة للتلازم ، وقيل نزلت في كفار خزاعة قالوا للمسلمين : ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله ، وقرئ { فلا ينزعنك } على تهييج الرسول والمبالغة في تثبيته على دينه على أنه من نازعته فنزعته إذا غلبته . { وادع إلى ربك } إلى توحيده وعبادته . { إنك لعلى هدى مستقيم } طريق إلى الحق سوي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.