في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَمَّا جَآءَتۡ رُسُلُنَا لُوطٗا سِيٓءَ بِهِمۡ وَضَاقَ بِهِمۡ ذَرۡعٗا وَقَالَ هَٰذَا يَوۡمٌ عَصِيبٞ} (77)

69

ويسكت السياق . وقد سكت - ولا شك - إبراهيم . . ويسدل الستار على مشهد إبراهيم وزوجه ليرفع هناك على مشهد حافل بالحركة والانفعال مع لوط . وقوم لوط في مدن الأردن : عمورية وسدوم .

( ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا ، وقال : هذا يوم عصيب ! ) . .

لقد كان يعرف قومه . ويعرف ما أصاب فطرتهم من انحراف وشذوذ عجيبين . إذ يتركون النساء إلى الرجال ، مخالفين الفطرة التي تهتدي إلى حكمة خلق الأحياء جميعا أزواجا ، كي تمتد الحياة بالنسل ما شاء لها الله . والتي تجد اللذة الحقيقة في تلبية نداء الحكمة الأزلية ، لا عن تفكير وتدبير ، ولكن عن اهتداء واستقامة . والبشرية تعرف حالات مرضية فردية شاذة ، ولكن ظاهرة قوم لوط عجيبة . وهي تشير إلى أن المرض النفسي يعدي كالمرض الجسدي . وأنه يمكن أن يروج مرض نفسي كهذا نتيجة لاختلال المقاييس في بيئة من البيئات ، وانتشار المثل السيء ، عن طريق إيحاء البيئة المريضة . على الرغم من مصادمته للفطرة ، التي يحكمها الناموس الذي يحكم الحياة . الناموس الذي يقتضي أن تجد لذتها فيما يلبي حاجة الحياة لا فيما يصادمها ويعدمها . والشذود الجنسي يصادم الحياة ويعدمها ، لأنه يذهب ببذور الحياة في تربة خبيثة لم تعد لاستقبالها وإحيائها . بدلا من الذهاب بها إلى التربة المستعدة لتلقيها وإنمائها . ومن أجل هذا تنفر الفطرة السليمة نفورا فطريا - لا أخلاقيا فحسب - من عمل قوم لوط . لأن هذه الفطرة محكومة بقانون الله في الحياة . الذي يجعل اللذة الطبيعية السليمة فيما يساعد على إنماء الحياة لا فيما يصدمها ويعطلها .

ولقد نجد أحيانا لذة في الموت - في سبيل غاية أسمى من الحياة الدنيا - ولكنها ليست لذة حسية إنما هي معنوية اعتبارية . على أن هذه ليست مصادفة للحياة ، إنما هي إنماء لها وارتفاع بها من طريق آخر . وليست في شيء من ذلك العمل الشاذ الذي يعدم الحياة وخلاياها . .

سيء لوط بأضيافه . وهو يعلم ما ينتظرهم من قومه ، ويدرك الفضيحة التي ستناله في أضيافه :

( وقال : هذا يوم عصيب ) !

وبدأ اليوم العصيب !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَمَّا جَآءَتۡ رُسُلُنَا لُوطٗا سِيٓءَ بِهِمۡ وَضَاقَ بِهِمۡ ذَرۡعٗا وَقَالَ هَٰذَا يَوۡمٌ عَصِيبٞ} (77)

يخبر تعالى عن قُدوم رسله من الملائكة{[14765]} بعد ما أعلموا{[14766]} إبراهيم بهلاكهم ، وفارقوه وأخبروه بإهلاك الله قوم لوط هذه الليلة . فانطلقوا من عنده ، فأتوا لوطا{[14767]} عليه السلام ، وهو - على ما{[14768]} قيل - في أرض له [ يعمرها ]{[14769]} وقيل : [ بل كان ]{[14770]} في منزله ، ووردوا عليه وهم في أجمل صورة تكون ، على هيئة شبان{[14771]} حسان الوجوه ، ابتلاء من الله [ واختبارا ]{[14772]} وله الحكمة والحجة البالغة ، [ فنزلوا عليه ]{[14773]} فساءه شأنهم وضاقت نفسه بسببهم ، وخشي إن لم يُضِفْهم{[14774]} أن يضيفهم أحد من قومه ، فينالهم بسوء ، { وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } .

قال ابن عباس [ ومجاهد وقتادة ومحمد بن إسحاق ]{[14775]} وغير واحد [ من الأئمة ]{[14776]} شديد بلاؤه وذلك أنه علم أنه سيدافع [ قومه ]{[14777]} عنهم ، ويشق عليه ذلك .

وذكر قتادة أنهم أتوه وهو في أرض له [ يعمل فيها ]{[14778]} فتضيّفوه{[14779]} فاستحيا منهم ، فانطلق أمامهم وقال{[14780]} لهم في أثناء الطريق ، كالمعرض لهم بأن ينصرفوا عنه : إنه والله يا هؤلاء ما أعلم على وجه الأرض أهل بلد أخبث من هؤلاء . ثم مشى قليلا ثم أعاد ذلك عليهم ، حتى كرره أربع مرات قال قتادة : وقد كانوا أمروا ألا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك .

77


[14765]:- في ت ، أ : "من الملائكة الذين فارقوا إبراهيم الخليل عليه السلام بعد".
[14766]:- في ت ، أ : "أعلموه".
[14767]:- في ت : "فأتوا على لوط" ، وفي أ : "فأتوا لوط".
[14768]:- في ت ، أ : "وهو فيما".
[14769]:- زيادة من ت ، أ.
[14770]:- زيادة من ت ، أ.
[14771]:- في ت ، أ : "شباب".
[14772]:- زيادة من ت ، أ.
[14773]:- زيادة من ت ، أ.
[14774]:- في ت ، أ : "يضيفهم".
[14775]:- زيادة من ت ، أ.
[14776]:- زيادة من ت ، أ.
[14777]:- زيادة من ت ، أ.
[14778]:- زيادة من ت ، أ.
[14779]:- في ت ، أ : "فيضيفوه".
[14780]:- في ت ، أ : "فقال".
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَلَمَّا جَآءَتۡ رُسُلُنَا لُوطٗا سِيٓءَ بِهِمۡ وَضَاقَ بِهِمۡ ذَرۡعٗا وَقَالَ هَٰذَا يَوۡمٌ عَصِيبٞ} (77)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ولما جاءت رسلنا}... {لوطا سيء بهم} يعني كرههم لصنيع قومه بالرجال مخافة أن يفضحوهم، {وضاق بهم ذرعا وقال} جبريل {هذا يوم عصيب} يعني فظيع فاش شره عليه...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ولما جاءت ملائكتنا لوطا، ساءه مجيئهم. وهو «فعل» من السّوء، "وضاق بهم "بمجيئهم "ذَرْعا" يقول: وضاقت نفسه غمّا بمجيئهم، وذلك أنه لم يكن يعلم أنهم رسل الله في حال ما ساءه مجيئهم، وعلم من قومه ما هم عليه من إتيانهم الفاحشة، وخاف عليهم، فضاق من أجل ذلك بمجيئهم ذرعا، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عن أضيافه، ولذلك قال: "هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ"...

وقال لوط: هذا اليوم يوم شديد شره، عظيم بَلاؤه...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

(وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) قوله: (سيء بهم) قيل: أي ساء مجيئهم ومكانهم وكرههم لصنيع قومه بالغرباء مخافة أن يفضحوهم (وضاق بهم ذرعا) أي لم يدر كيف يصنع بهم؟ وكيف يحتال ليدفع عن ضيفه سوء قومه؟ والذرع هو المقدرة والقوة؛ أي ضاقت مقدرته وقوته.

(وقال هذا يوم عصيب) قيل فضيع شديد لأنه يوم يهتك الأستار، ويفضح الرجال...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

" وضاق بهم ذرعا"... أي بأضيافه، وأنه لما رأى لهم من جمال الصورة، وقد دعوه إلى الضيافة، وقومه كانوا يسارعون إلى أمثالهم بالفاحشة، فضاق بهم ذرعا، لهذه العلة...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

أي أنه حزن بسبب خوفه عليهم أن يَجْريَ عليهم من قومه ما لا يجوز في دين الله؛ فذلك الحزنُ كان لحقِّ الله لا لنصيبٍ له أو حظَّ لنفسه، ولذلك حُمِدَ عليه لأنَّ مقاساةَ الحزنِ لحقِّ الله محمودةٌ...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

«الرسل» هنا هم الملائكة الذين كانوا أضياف إبراهيم عليه السلام،... و «الذرع»: مصدر مأخوذ من الذراع، ولما كان الذراع موضع قوة الإنسان قيل في الأمر الذي لا طاقة له به: ضاق بهذا الأمر ذراع فلان، وذرع فلان، أي حيلته بذراعه، وتوسعوا في هذا حتى قلبوه فقالوا: فلان رحب الذراع، إذا وصفوه باتساع القدرة.

و {عصيب} بناء اسم فاعل معناه: يعصب الناس بالشر كما يعصب الخابط السلمة إذا أراد خبطها ونفض ورقها...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{وضاق بهم ذرعا} قال الأزهري: الذرع يوضع موضع الطاقة والأصل فيه البعير يذرع بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوته، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فضعف ومد عنقه، فجعل ضيق الذرع عبارة عن قدر الوسع والطاقة. فيقال: مالي به ذرع ولا ذراع أي مالي به طاقة، والدليل على صحة ما قلناه أنهم يجعلون الذراع في موضع الذرع فيقولون ضقت بالأمر ذراعا...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما انقضى أمر إنبائهم ببشارة الأولياء وهلاك الأعداء، وعلم من ذلك أنهم لا ينزلون إلاّ للأمور الهائلة والأحوال المعجبة، أخذ يقص أمرهم مع لوط عليه السلام، فقال عاطفاً على ما تقديره: فعلوا مع إبراهيم انفصالهم عن إبراهيم عليه السلام ما ذكر، ثم فارقوه نحو لوط، ولم يذكر الحرف المصدري لأن سياقه ومقصود السورة لا يقتضي ذلك كما نشير إليه في العنكبوت: {ولما جآءت رسلنا} على ما قارنهم من عظمتنا {لوطاً} بعد انفصالهم عن إبراهيم عليه السلام... استضافوه فلم يجد بداً من قبولهم على ما أوصى الله بالضيف مطابقاً لعوائد أهل المكارم، فقبلهم وأزمع المقاتلة عنهم لما رأى من حسن أشكالهم ورونق جمالهم مع ما يعلم من قبح أفعال قومه وخبث سرائرهم، ولما جاءوه على هذه الصفة {سيء بهم} أي حصلت له المساءة بسبب مجيئهم إلى قريته لما يعلم من لؤم أهلها، والتعبير عن هذا المعنى بالمبني للمفعول أحضر وأوقع في النفس وأرشق {وضاق بهم ذرعاً} أي ذرعه أي اتساعه في كل وقت قوة أوتيها، وهو مثل يقال لمن لم يجد من المكروه مخلصاً... ولما ذكر حاله، ذكر قاله بقوله: {وقال} أي لوط {هذا} أي اليوم {يوم عصيب} أي شديد جداً لما أعلم من جهالة مَن أنا بين ظهرانيهم، وهو مشتق من العصب وهو أطناب المفاصل وروابطها، ومداره على الشدة...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

لقد كان يعرف قومه. ويعرف ما أصاب فطرتهم من انحراف وشذوذ عجيبين. إذ يتركون النساء إلى الرجال، مخالفين الفطرة التي تهتدي إلى حكمة خلق الأحياء جميعا أزواجا، كي تمتد الحياة بالنسل ما شاء لها الله. والتي تجد اللذة الحقيقة في تلبية نداء الحكمة الأزلية، لا عن تفكير وتدبير، ولكن عن اهتداء واستقامة. والبشرية تعرف حالات مرضية فردية شاذة، ولكن ظاهرة قوم لوط عجيبة. وهي تشير إلى أن المرض النفسي يعدي كالمرض الجسدي. وأنه يمكن أن يروج مرض نفسي كهذا نتيجة لاختلال المقاييس في بيئة من البيئات، وانتشار المثل السيء، عن طريق إيحاء البيئة المريضة. على الرغم من مصادمته للفطرة، التي يحكمها الناموس الذي يحكم الحياة. الناموس الذي يقتضي أن تجد لذتها فيما يلبي حاجة الحياة لا فيما يصادمها ويعدمها. والشذوذ الجنسي يصادم الحياة ويعدمها، لأنه يذهب ببذور الحياة في تربة خبيثة لم تعد لاستقبالها وإحيائها. بدلا من الذهاب بها إلى التربة المستعدة لتلقيها وإنمائها. ومن أجل هذا تنفر الفطرة السليمة نفورا فطريا -لا أخلاقيا فحسب- من عمل قوم لوط. لأن هذه الفطرة محكومة بقانون الله في الحياة. الذي يجعل اللذة الطبيعية السليمة فيما يساعد على إنماء الحياة لا فيما يصدمها ويعطلها. ولقد نجد أحيانا لذة في الموت -في سبيل غاية أسمى من الحياة الدنيا- ولكنها ليست لذة حسية إنما هي معنوية اعتبارية. على أن هذه ليست مصادفة للحياة، إنما هي إنماء لها وارتفاع بها من طريق آخر. وليست في شيء من ذلك العمل الشاذ الذي يعدم الحياة وخلاياها.. سيء لوط بأضيافه. وهو يعلم ما ينتظرهم من قومه، ويدرك الفضيحة التي ستناله في أضيافه...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

الذرع: مدُّ الذراع فإذا أسند إلى الآدمِيّ فهو تقدير المسافة. وإذا أسند إلى البعير فهو مَدّ ذراعيه في السير على قدر سعة خطوتِه، فيجوز أن يكون: ضاق ذرعاً تمثيلاً بحال الإنسان الذي يريد مَدّ ذراعه فلا يستطيع مَدّهَا كما يريد فيكون ذَرعه أضيق من معتاده. ويجوز أن يكون تمثيلاً بحال البعير المثقل بالحمل أكثر من طاقته فلا يستطيع مَدّ ذراعيه كما اعتاده. وأيّاً ما كان فهو استعارة تمثيلية لحال مَنْ لم يجد حيلة في أمر يريدُ علمه؟ بحال الذي لم يستطع مدّ ذراعه كما يشاء. وقوله: {هذا يوم عصيب} قاله في نفسه كما يناجي المرء نفسه إذا اشتد عليه أمر. والعصيب: الشديد فيما لا يرضي. يقال: يوم عصيب إذا حدث فيه أمر عظيم من أحوال الناس أو أحوال الجوّ كشدة البرد وشدة الحرّ...