( وقالوا : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب ، فاعمل إننا عاملون ) . .
قالوا هذا إمعاناً في العناد ، وتيئيساً للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ليكف عن دعوتهم ، لما كانوا يجدونه في قلوبهم من وقع كلماته ، على حين يريدون عامدين ألا يكونوا مؤمنين !
قالوا : قلوبنا في أغطية فلا تصل إليها كلماتك . وفي أذاننا صمم فلا تسمع دعوتك . ومن بيننا وبينك حجاب ، فلا اتصال بيننا وبينك . فدعنا واعمل لنفسك فإننا عاملون لأنفسنا . أو إنهم قالوا غير مبالين : نحن لا نبالي قولك وفعلك ، وإنذارك ووعيدك . فإذا شئت فامض في طريقك فإنا ماضون في طريقنا . لا نسمع لك وافعل ما أنت فاعل . وهات وعيدك الذي تهددنا به فإننا غير مبالين .
هذا نموذج مما كان يلقاه صاحب الدعوة الأول [ صلى الله عليه وسلم ] ثم يمضي في طريقه يدعو ويدعو ، لا يكف عن الدعوة ، ولا ييأس من التيئيس ، ولا يستبطئ وعد الله ولا وعيده للمكذبين . كان يمضي مأموراً أن يعلن لهم أن تحقق وعيد الله ليس بيده ؛ فما هو إلا بشر يتلقى الوحي ، فيبلغ به ، ويدعو الناس إلى الله الواحد . وإلى الاستقامة على الطريق ، وينذر المشركين كما أمر أن يفعل . والأمر بعد ذلك لله لا يملك منه شيئاً ، فهو ليس إلا بشراً مأموراً :
{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ } أي : في غلف مغطاة { مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ } أي : صمم عما جئتنا به ، { وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } فلا يصل إلينا شيء مما تقول ، { فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } أي : اعمل أنت على طريقتك ، ونحن على طريقتنا لا نتابعك .
قال الإمام العَلَم عبد بن حُمَيد في مسنده : حدثني ابن أبي شيبة ، حدثنا علي بن مُسْهِر عن الأجلح ، عن الذَّيَّال بن حَرْمَلة الأسدي عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، قال : اجتمعت قريش يوما فقالوا : انظروا أعْلَمكم بالسحر والكهانة والشعر ، فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعاب ديننا ، فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه ؟ فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة ابن ربيعة . فقالوا : أنت يا أبا الوليد . فأتاه عتبة فقال : يا محمد ، أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك ، فقد عبدوا الآلهة التي عِبْتَ ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك ، إنا والله ما رأينا سَخْلةً قط أشأم على قومك {[25609]} منك ؛ فرقت جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعبت ديننا ، وفضحتنا في العرب ، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا ، وأن في قريش كاهنا ! والله ما ننظر{[25610]} إلا مثل صيحة الحُبْلى أن يقوم بعضنا إلى {[25611]} بعض بالسيوف ، حتى نتفانى ! أيها الرجل ، إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا{[25612]} وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش [ شئت ]{[25613]} فلنزوجك عشرا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فَرَغْتَ ؟ " قال : نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } حتى بلغ : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فقال عتبة : حسبك ! حسبك ! ما عندك غير هذا ؟ قال : " لا " فرجع إلى قريش فقالوا : ما وراءك ؟ قال : ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته . قالوا : فهل أجابك ؟ [ قال : نعم ، قالوا : فما قال ؟ ] {[25614]} قال : لا والذي نصبها بَنيَّةً ما فَهِمْتُ شيئا مما قال ، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود . قالوا : ويلك ! يكلمك الرجل بالعربية ما تدري ما قال ؟ ! قال : لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة .
وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة بإسناده ، مثله سواء{[25615]} .
وقد ساقه البغوي في تفسيره بسنده عن محمد بن فُضَيل ، عن الأجلح - وهو ابن عبد الله الكندي [ الكوفي ] {[25616]} - وقد ضُعِّفَ بعض الشيء عن الذّيَّال بن حرملة ، عن جابر ، فذكر الحديث إلى قوله : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فأمسك عتبة على فيه ، وناشده بالرحم ، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم . فقال أبو جهل : يا معشر قريش ، والله ما نرى عتبة إلا قد صَبَا إلى محمد ، وأعجبه طعامه ، وما ذاك إلا من حاجة [ قد ]{[25617]} أصابته ، فانطلقوا بنا إليه . فانطلقوا إليه فقال أبو جهل : يا عتبة ، ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك طعامه ، فإن كانت لك{[25618]} حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد . فغضب عتبة ، وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا ، وقال : والله ، لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه [ القصة ]{[25619]} فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، وقرأ السورة إلى قوله : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فأمسكت بفيه ، وناشدته بالرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخشيت أن ينزل بكم العذاب{[25620]} .
وهذا السياق أشبه من سياق البزار وأبي يعلى ، والله أعلم .
وقد أورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة على خلاف هذا النمط ، فقال :
حدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القُرَظي قال : حُدِّثْتُ أن عتبة بن ربيعة - وكان سيدا - قال يوما وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها ، فنعطيه أيَّها شاء ويكف عنا ؟ وذلك حين أسلم حمزة ، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون ، فقالوا : بلى يا أبا الوليد ، فقم إليه فكلمه {[25621]} . فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة ، والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها . قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قل يا أبا الوليد ، أسمع " . قال : يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريدُ بما جئتَ به من{[25622]} هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون من أكثرنا أموالا {[25623]} . وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا ، حتى لا نقطع أمرًا دونك . وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا . وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُدَاوَى منه - أو كما قال له - حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال : " أفرغت يا أبا الوليد ؟ " قال : نعم . قال : " فاستمع مني " قال : أفعل . قال : { بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ } ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه . فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه ، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها ، فسجد ثم قال : " قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك{[25624]} فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : أقسم - يحلف{[25625]} بالله - لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة . يا معشر قريش ، أطيعوني واجعلوها لي ، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فمُلْكُهُ ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به . قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ! قال : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم {[25626]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون المعرضون عن آيات الله من مشركي قريش إذ دعاهم محمد نبيّ الله إلى الإقرار بتوحيد الله وتصديق ما في هذا القرآن من أمر الله ونهيه، وسائر ما أنزل فيه "قُلُوبُنا في أكِنّةٍ "يقول: في أغطية "مِمّا تَدْعُونا" يا محمد إلَيهِ من توحيد الله، وتصديقك فيما جئتنا به، لا نفقه ما تقول "وفي آذانِنا وَقْرٌ" وهو الثقل، لا نسمع ما تدعونا إليه استثقالاً لما يدعو إليه وكراهة له... عن السديّ، قوله: "وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أكِنّةٍ" قال: عليها أغطية "وفِي آذَانِنا وَقْرٌ" قال: صمم.
وقوله: "وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ" يقولون: ومن بيننا وبينك يا محمد ساتر لا نجتمع من أجله نحن وأنت، فيرى بعضنا بعضا، وذلك الحجاب هو اختلافهم في الدين، لأن دينهم كان عبادة الأوثان، ودين محمد صلى الله عليه وسلم عبادة الله وحده لا شريك له، فذلك هو الحجاب الذي زعموا أنه بينهم وبين نبيّ الله، وذلك هو خلاف بعضهم بعضا في الدين.
وقوله: "فاعْمَلْ إنّنا عامِلُونَ" يقول: قالوا: له صلى الله عليه وسلم: فاعمل يا محمد بدينك وما تقول إنه الحقّ، إننا عاملون بديننا، وما تقول إنه الحقّ، ودع دعاءنا إلى ما تدعونا إليه من دينك، فإنا ندع دعاءك إلى ديننا. وأدخلت «من» في قوله "وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ" والمعنى: وبيننا وبينك حجاب، توكيدا للكلام.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه "قال مجاهد والسدي: معناه في أغطية وإنما قالوا ذلك لييئسوا النبي (صلى الله عليه وآله) من قبولهم دينه فهو على التمثيل، فكأنهم شبهوا قلوبهم بما يكون في غطاء فلا يصل اليه شيء مما وراءه، وفيه تحذير من مثل حالهم في كل من دعي إلى أمر أن لا يمتنع أن يكون هو الحق، فلا يجوز أن يدفعه بمثل ذلك الدفع.
"فاعمل إننا عاملون" قال الفراء: معناه فاعمل في هلاكنا، فإننا عاملون في هلاكك، تهديدا منهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: هل لزيادة (من) في قوله: {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} فائدة؟
قلت: نعم لأنه لو قيل: وبيننا وبينك حجاب: لكان المعنى: أن حجاباً حاصل وسط الجهتين، وأما بزيادة (من) فالمعنى: أن حجاباً ابتدأ منا وابتدأ منك، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها.
فإن قلت: هلا قيل: على قلوبنا أكنة، كما قيل: وفي آذاننا وقر؛ ليكون الكلام على نمط واحد؟
قلت: هو على نمط واحد؛ لأنه لا فرق في المعنى بين قولك: قلوبنا في أكنة. وعلى قلوبنا أكنة. والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر عن إعراضهم، أخبر عن مباعدتهم فيه فقال: {وقالوا} أي عند إعراضهم ممثلين لمباعدتهم في عدم قبولهم: {قلوبنا في أكنَّة} أي أغشية محيطة بها، ولما كان السياق في الكهف للعظمة كان الأنسب له أداة الاستعلاء فقال {إنا جعلنا على قلوبهم أكنة} وعبروا هنا بالظرف إبعاداً لأن يسمعوا.
{مما} أي مبتدئة تلك الأغشية وناشئة من الأمر الذي {تدعونا} أيها المخبر بأنه نبي {إليه} فلا سبيل له إلى الوصول إليها لنفيه أصلاً.
ولما كان القلب أفهم لما يرد إليه من جهة السمع قالوا: {وفي آذاننا} التي هي أحد الطرق الموصلة إلى القلوب {وقر} أي ثقل قد أصمها عن سماعه.
{ومن بيننا وبينك} أي ومبتدئ من الحد الذي فصلك منا والحد الذي فصلنا منك في منتصف المسافة في ذلك {حجاب} ساتر كثيف، فنحن لا نراك لنفهم عنك بالإشارة، فانسدت طرق الفهم لما نقول...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
قالوا هذا إمعاناً في العناد، وتيئيساً للرسول [صلى الله عليه وسلم] ليكف عن دعوتهم، لما كانوا يجدونه في قلوبهم من وقع كلماته، على حين يريدون عامدين ألا يكونوا مؤمنين!
قالوا: قلوبنا في أغطية فلا تصل إليها كلماتك. وفي أذاننا صمم فلا تسمع دعوتك. ومن بيننا وبينك حجاب، فلا اتصال بيننا وبينك. فدعنا واعمل لنفسك فإننا عاملون لأنفسنا. أو إنهم قالوا غير مبالين: نحن لا نبالي قولك وفعلك، وإنذارك ووعيدك. فإذا شئت فامض في طريقك فإنا ماضون في طريقنا. لا نسمع لك وافعل ما أنت فاعل. وهات وعيدك الذي تهددنا به فإننا غير مبالين.
هذا نموذج مما كان يلقاه صاحب الدعوة الأول [صلى الله عليه وسلم] ثم يمضي في طريقه يدعو ويدعو، لا يكف عن الدعوة، ولا ييأس من التيئيس، ولا يستبطئ وعد الله ولا وعيده للمكذبين. كان يمضي مأموراً أن يعلن لهم أن تحقق وعيد الله ليس بيده؛ فما هو إلا بشر يتلقى الوحي، فيبلغ به، ويدعو الناس إلى الله الواحد. وإلى الاستقامة على الطريق، وينذر المشركين كما أمر أن يفعل. والأمر بعد ذلك لله لا يملك منه شيئاً، فهو ليس إلا بشراً مأموراً:
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف {وقالوا} على {فأعرض} أو حالٌ من {أكثرهم} أو عطف على {لا يَسْمَعُونَ}، أو حال من ضميره، والمعنى: أنهم أعرضوا مصرحين بقلة الاكتراث وبالانتصاب للجفاء والعداء. وهذا تفصيل للإعراض عما وُصف به القرآن من الصفات التي شأنها أن تقربهم إلى تلقيه لا أن يَبعدوا ويعرضوا وقد جاء بالتفصيل بأقوالهم التي حرمتهم من الانتفاع بالقرآن واحداً واحداً كما ستعلمه.
والمراد بالقلوب: العقول، حكي بمصطلح كلامهم قولهم إذ يطلقون القلب على العقل.
والأكنة: جمع كنان مثل: غطاء وأغطية وزناً ومعنى، أثبتت لقلوبهم أغطية على طريقة التخييل، وشُبهت القلوب بالأشياء المغطّاة على طريقة الاستعارة المكنية. ووجه الشبه حيلولة وصول الدعوة إلى عقولهم كما يحول الغطاء والغلاف دون تناول ما تحته. ومَا يدعوهم إليه يعم كل ما دعاهم إليه من المدلولات وأدلتها، ومنها دلالة معجزة القرآن وما تتضمنه من دلالة أمية الرسول صلى الله عليه وسلم من نحو قوله تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} [العنكبوت: 48].
وجعلت القلوب في أكنة لإِفادة حرف {في} معنى إحاطة الظرف بالمظروف. وكذلك جعل الوَقر في القلوب لإِفادة تغلغله في إدراكهم.
و (مِن) في قوله: {مِمَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ} بمعنى (عن) مثل قوله تعالى: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر اللَّه} [الزمر: 22]
والوَقر بفتح الواو: ثقل السمع وهو الصمم، وكأنَّ اللغة أخذته من الوِقر بكسر الواو، وهو الحِمل لأنه يثقل الدَّابة عن التحرك، فأطلقوه على عدم تحرك السمع عند قرع الصوت المسموع، وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة ففتحوا له الواو تفرقة بين الحقيقة والمجاز.
وقد جمعوا بين الحالات الثلاث في التمثيل للمبالغة في أنهم لا يقبلون ما يدعوهم إليه.
واجتلابُ حرف {مِن} في قوله: {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِك حِجَابٌ} لتقوية معنى الحجاب بين الطرفين وتمكن لازمه الذي هو بُعد المسافة التي بين الطرفين؛ لأن {مِن} هذه زائدة لتأكيد مضمون الجملة.
وضمير {بيننا} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {أكثرهم}.
وعطف {وبينك} تأكيد لأن واو العطف مغنية عنه وأكثر استعمال (بين) أن يكون معطوفاً عليه مثله كقوله تعالى: {قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين} [الزخرف: 38].
وقد جعل ابن مالك (من) الداخلة على (قبل) و (بعد) زائدة فيكون (بَين) مقيساً على (قبل) و (بعد) لأن الجميع ظروف.
وهذا القول المحكي عنهم في القرآن ب {قالوا} يحتمل أن يكون القرآن حكاه عنهم بالمعنى، فجمع القرآن بإيجازه وبلاغته ما أطالوا به الجدال وأطنبوا في اللجاج، ويحتمل أنه حكاه بلفظهم فيكون مما قاله أحد بلغائهم في مجامعهم التي جمعت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ظاهر ما في سيرة ابن إسحاق، وزعم أنهم قالوه استهزاء وأن الله حكاه في سورة الكهف.
ويحتمل أن يكونوا تلقفوه ممّا سمعوه في القرآن من وصف قلوبهم وسمعهم وتباعدهم كقوله:
{وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً} في سورة الإسراء (46)، فإن سورة الإسراء معدودة في النزول قبل سورة فصلت. وكذلك قوله تعالى: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً} في سورة الإِسراء (45) أيضاً، فجمعوا ذلك وجادلوا به الرسول فيكون ما في هذه الآية من البلاغة قد اقتبسوه من آيات أخرى.
قيل: إن قائله أبو جهل في مجمع من قريش فلذلك أسند القول إليهم جميعاً لأنهم مشائعون له.
وقد جاء في حكاية أقوالهم ما فيه تفصيل ما يقابل ما ذُكر قبله من صفات القرآن وهي {تَنزِيلٌ مِنَ الرحمن الرحيم كتاب فُصِّلَتْ ءاياته قُرْءَاناً عَرَبِياً} [فصلت: 2، 3]، فإن كونَه تنزيلاً من الرحمان الرحيم يستدعي تفهمه والانتفاع بما فيه، فقوبل بقولهم: {قُلُوبُنَا فِي أكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إليهِ} وكونَهُ فُصلت آياته يستدعي تلقّيها والاستماعَ إليها فقوبل بقولهم: {في آذاننا وقر}، أي فلا نسمع تفصيله، وكونَه قرآناً عربياً أشد إلزاماً لهم بفهمه فقوبل ذلك بما يقطع هذه الحجة وهو {من بيننا وبينك حجاب} أي فلا يصل كلامه إليهم ولا يتطرق جانبهم، فهذه تفاصيل إعراضهم عن صفات القرآن.
{فاعْمَل إنَّنَا عاملون} تفريع على تأييسهم الرسول من قبولهم دعوته وجعل قولهم هذا مقابِل وصف القرآن بأنه بَشير ونذير لظهور أنه تعين كونه نذيراً لهم بعذاب عظيم؛ لأنهم أعرضوا فحكي ما فيه تصريحهم بأنهم لا يعبأُون بنذارته فإن كان له أذى فليؤذهم به وهذا كقول فرعون: « ذَرَوني أَقتُل موسى ولْيَدْعُ ربه».
وحذف مفعولا (اعمل) و {عاملون} ليعُمّ كل ما يمكن عمله كل مع الآخر ما يناسبه.
والأمر في قوله: {فاعمل} مستعمل في التسوية كقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير} [فصلت: 40]، والخَبر في قولهم: {إنَّنَا عاملون} مستعمل في التهديد.
معنى {أَكِنَّةٍ..} يعني: أغطية جمع كنان أي: غطاء. والغطاء يغلف الشيء بحيث لا ينفذ إليه النور، وفي آية أخرى قال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ..} [الكهف: 57] فالأكنة مرة من جَعْل الله ومرة منهم، فأيهما أسبق؟ أجعل الله لهم أكنة أولاً ثم أصابتهم الغفلة، أم أن إعراضهم عن دين الله هو الذي جعل الأكنة على قلوبهم؟
وقلنا: إن الإنسان إذا أَلِفَ الكفر وأَنِس به زاده الله منه وختم على قلبه، بحيث لا يدخله الإيمان ولا يخرج منه الكفر.
إذن: يأتي منهم الكفر أولاً، وبعد ذلك يختم الله على القلب، كذلك في مسألة الأكنة جاءتْ منهم أولاً، فزادهم الله، وجعل على قلوبهم الأكنة وزادهم مرضاً على مرض.
إذن: المراد بالأكنّة أي الأغطية التي تمنعهم فَهْمَ وتدبُّرَ ما يسمعون، وما يُلقي عليهم {وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ..} وقر يعني: صَمَم يمنع السماع. وفي سورة البقرة قال: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ..} [البقرة: 18].
ومعلوم أن البكم ينشأ عن الصمم، لأن الأصم الذي لا يسمع كيف يتكلم؟ لأن اللغة ظاهرة اجتماعية وهي بنت المحاكاة، فما تسمعه الأذن يحكيه اللسان، فإذا لم تسمع الأذن شيئاً لا ينطق اللسان بشيء، فاللغة ليست جنساً، اللغة سماع ومحاكاة، بدليل أنك تأتي بالطفل الإنجليزي مثلاً في بيئة عربية ينطق العربية.
والأصم عنده القدرة على الكلام، بدليل أنه ينطق ببعض الأصوات غير المفهومة كما نسمع من الأخرس مثلاً، حتى الإنسان السَّوي الفصيح لا يستطيع أنْ يتكلم بكلمة لا يعرفها من لغته هو، من أين يأتي بها؟ من السماع أولاً.
ولذلك أخذنا من هذه المسألة أدلة مادية على وجود الخالق الأعلى سبحانه، نقول: أنت كيف تتكلم؟ يقول: أتكلم لأنني سمعتُ في صِغَري أبي وأمي ومَنْ حولي يتكلمون، فقلت كما يقولون، إذن: لا تنشأ لغة إلا بالسماع.
وكذلك الحال في الآباء وفي الأجداد، وارْتَقِ بهذه السلسلة إلى آدم عليه السلام وقُلْ: كيف تكلم آدم وليس قبله أحدٌ يسمع منه؟ لا بُدَّ أنه سمع، سمع من مَنْ؟ سمع من الله تعالى حين علَّمه الأسماء كلها.
منافذ الخواطر التي ترد الآذان، ومنافذ الخواطر التي تصدر من اللسان، ولأن هؤلاء صُمٌّ لا يسمعون لم يأخذوا شيئاً، وبالتالي لم يُخْرجوا شيئاً، لذلك قال سبحانه: {قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ..} يعني: أغطية تمنع عنهم الاستفادة {وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ..} يعني: صمم، ولم يأتِ هنا بذكر اللسان لماذا؟ لأنهم لن يتكلموا في الدين لأنهم لم يسمعوه، فكوْنه لم يأت بالكلام هنا دلَّ على أنهم لن يسمعوا ولن يتكلموا، تأمل هنا الدقة لأنه كلامُ ربٍّ.
وقولهم: {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ..} أي: ستر غليظ يحجبك، فأنت تكون مع جليسك تُحدِّثه ويُحدِّثك، تسمعه ويسمعك، تراه ويراك، تأنس به ويأنس بك.. إلخ لكن إنْ كان بينك وبينه حجاب امتنع ذلك كله.
هذا الحجاب قد يكون معنوياً، تقول: بين فلان وفلان جفوة أي: جفوة صغيرة سرعان ما تزول. لكن إنْ قلتَ: بين فلان وبين فلان جفوة، وكررتَ ظرف المكان دلَّ ذلك على أنها جفوة كبيرة ليس من السهل إزالتها.
كذلك قالوا: {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ..} يعني كثيف غليظ يستر كل شيء، من هنا إلى هنا، يعني: يملأ كل ما بيننا من مسافة. قالوا: لما كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم القوم، ويعرض عليهم دين الله كان أبو جهل يأخذ ثوبه ويضعه على وجهه حتى لا يرى رسول الله.
وما دام أن بيننا وبينك حجاباً، فلن نتفق وكُلٌّ منا في طريق، وما دام أن لكل طريقه {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} وهذه القضية أوضحها الحق سبحان في سورة الكافرون: {قُلْ يٰأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1-6] هذه هي النتيجة الطبيعية للحجاب بينهما.
بعض الناس حين يقرأون هذه السورة يظنون بها تكراراً، وهذا ليس تكراراً، بل في السورة قَطْع علاقات، وقطع العلاقات له ظرف يحكمه، ألم تر إلى الدول تقطع إحداها علاقتها بالأخرى، ثم تصفو الأجواء مرة أخرى، وتعود العلاقات أحسن مما كانت، ففرْقٌ في الدبلوماسية بين الماضي والحاضر.
لكن في مسألة الكفر والإيمان الأمر مختلف فهما ضدان لا يلتقيان، مهما حدث في المستقبل. فلن تعود العلاقاتُ بينهما، لذلك قال سبحانه: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 2-3] أي: في الزمن الحاضر الآن
{وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 4-5] أي: في المستقبل، فلا تظنوا أن العلاقات بيننا قد تتحسن وتعود بيننا علاقة، لا.. لا التقاء بيننا.. لا في الحاضر ولا في المستقبل.
هذه هي قطع العلاقات، وما دام بيننا حجاب وحاجز، فكُلٌّ منا في طريقه (والحَمْرة في خيله يركبها).
{فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} اعمل ما يروق لك، وما يأتيك من إلهك وإسلامك، ونحن نعمل على قدر آلهتنا وديننا وعبادتنا، اعمل لإلهك الذي أرسلك، ونحن نعمل لآلهتنا التي نعبدها، أو اعمل لآخرتك ونحن نعمل لدنيانا، فالمسألة من الرسول إصرار، ومنهم معاداة، إلى أن يستقيم الميسم، ويأبى الله إلا أن يُتمَّ نوره.
لذلك نرى تدرُّج الإسلام وانتشاره في بطء، أمر أتباعه بالهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، تدرج بهم إلى أنْ تقوى شوكتهم، بدأ ضعيفاً بالضعفاء، ثم قوي حتى دخل الأقوياء، كان منحصراً في مكة ثم اتسعتْ دائرته، وكانت تزيد كل يوم بحيث تزيد أرض الإسلام وتنقص أرض الكفر.
لذلك لما رأى خالد بن الوليد وعمرو بن العاص انتشار الإسلام على هذه الصورة قال خالد لعمرو: والله لقد استقام الميسم، يعني: استقام أمر هذا الدين فهيا بنا نسلم، وأخذ صناديد الكفر يعودون إلى الجادة، ويدخلون في دين الله...