( ليميز الله الخبيث من الطيب ، ويجعل الخبيث بعضه على بعض ، فيركمه جميعاً ؛ فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون ) . .
إن هذا المال الذي ينفق يؤلب الباطل ويملي له في العدوان ؛ فيقابله الحق بالكفاح والجهاد ؛ وبالحركة للقضاء على قدرة الباطل على الحركة . . وفي هذا الاحتكاك المرير ، تنكشف الطباع ، ويتميز الحق من الباطل ، كما يتميز أهل الحق من أهل الباطل - حتى بين الصفوف التي تقف ابتداء تحت راية الحق قبل التجربة والابتلاء ! - ويظهر الصامدون الصابرون المثابرون الذين يستحقون نصر الله ، لأنهم أهل لحمل أماناته ، والقيام عليها ، وعدم التفريط فيها تحت ضغط الفتنة والمحنة . . عند ذلك يجمع الله الخبيث على الخبيث ، فيلقي به في جهنم . . وتلك غاية الخسران . .
والتعبير القرآني يجسم الخبيث حتى لكأنه جِرم ذو حجم ، وكأنما هو كومة من الأقذار ، يقذف بها في النار ، دون اهتمام ولا اعتبار !
( فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم ) . .
وهذا التجسيم يمنح المدلول وقعا أعمق في الحس . . وتلك طريقة القرآن الكريم في التعبير والتأثير . .
وقوله تعالى : { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } فيميز أهل السعادة من أهل الشقاء{[12931]} وقال السُّدِّي : يميز المؤمن من الكافر . وهذا يحتمل أن يكون هذا التمييز في الآخرة ، كما قال تعالى : { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } [ يونس : 28 ] ، وقال تعالى{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] ، وقال في الآية الأخرى : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم43 ] ، وقال تعالى : { وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } [ يس : 59 ] .
ويحتمل أن يكون هذا التمييز في الدنيا ، بما يظهر من أعمالهم للمؤمنين ، وتكون " اللام " معللة لما جعل الله للكفار من مال ينفقون في الصد عن سبيل الله ، أي : إنما أقدرناهم على ذلك ؛{ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } أي : من يطيعه بقتال أعدائه الكافرين ، أو يعصيه بالنكول عن ذلك كما قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ } الآية [ آل عمران : 166 ، 167 ] ، وقال تعالى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } الآية [ آل عمران : 179 ] ، وقال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ]ونظيرتها في براءة أيضا .
فمعنى الآية على هذا : إنما ابتليناكم بالكفار يقاتلونكم ، وأقدرناهم على إنفاق الأموال وبذلها في ذلك ؛ ليتميز{[12932]} الخبيث من الطيب ، فيجعل الخبيث بعضه على بعض ، { فَيَرْكُمَهُ } أي : يجمعه كله ، وهو جمع الشيء بعضه على بعض ، كما قال تعالى في السحاب : { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا } [ النور : 43 ]أي : متراكما متراكبا ، { فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } أي : هؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنّمَ أُوْلََئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : يحشر الله هؤلاء الذين كفروا بربهم ، وينفقون أموالهم للصدّ عن سبيل الله إلى جهنم ، ليفرّق بينهم وهم أهل الخبث كما قال وسماهم الخَبِيثَ ، وبين المؤمنين بالله وبرسوله ، وهم الطيبون ، كما سماهم جلّ ثناؤه . فميز جلّ ثناؤه بينهم بأن أسكن أهل الإيمان به وبرسوله جناته ، وأنزل أهل الكفر ناره .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لِيَمِيزَ اللّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ فميز أهل السعادة من أهل الشقاوة .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ثم ذكر المشركين ، وما يصنع بهم يوم القيامة ، فقال : لِيَمِيزَ اللّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ يقول : يميز المؤمن من الكافر . فَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ على بَعْضٍ .
ويعني جلّ ثناؤه بقوله : ويجعل الخَبِيثَ بَعْضَهُ على بَعْضٍ فيجعل الكفار بعضهم فوق بعض . فَيرْكُمَهُ جَمِيعا يقول : فنجعلهم ركاما ، وهو أن يجمع بعضهم إلى بعض حتى يكثروا ، كما قال جلّ ثناؤه في صفة السحاب : ثُمّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمّ يَجْعَلْهُ رُكاما : أي مجتعما كثيفا . وكما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَيرْكُمَهُ جَميعا قال : فيجمعه جميعا بعضه على بعض .
وقوله : فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنّمَ يقول : فيجعل الخبيث جميعا في جهنم ، فوحد الخبر عنهم لتوحيد قوله : لِيَمِيزَ اللّهُ الخَبِيثَ ، ثم قال : أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ فجمع ولم يقل : ذلك هو الخاسر ، فردّه إلى أوّل الخبر . ويعني ب «أولئك » الذين كفروا ، وتأويله : هؤلاء الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله هم الخاسرون . ويعني بقوله : الخَاسِرُونَ الذين غبنت صفقتهم وخسرت تجارتهم وذلك أنهم شروا بأموالهم عذاب الله في الاَخرة ، وتعجلوا بإنفاقهم إياها فيما أنفقوا من قتال نبيّ الله والمؤمنين به الخزي والذلّ .
{ ليَميز } متعلق ب { يحشرون } لبيان أن من حكمة حشرهم إلى جهنم أن يتميز الفريق الخبيث من الناس من الفريق الطيب في يوم الحشر ، لأن العلة غيرَ المؤثرة تكون متعددة ، فتمييز الخبيث من الطيب من جملة الحِكَم لحشر الكافرين إلى جهنم .
وقرأ الجمهور { ليَميز } بفتح التحتية الأولى وكسر الميم وسكون التحتية الثانية مضارع ماز بمعنى فرز وقرأ حمزة والكسائي ، ويعقوب ، وخلف : بضم التحتية الأولى وفتح الميم التحتية وتشديد الثانية . مضارع ميّز إذا محص الفرز وإذ أسند هذا الفعل إلى الله تعالى استوت القراءتان .
والخبيث الشيء الموصوف بالخُبث والخباثة وحقيقة ذلك أنه حالة حشية لشيء تجعله مكروهاً مثل القذر ، والوسخ ، ويطلق الخبث مجازاً على الحالة المعنوية من نحو ما ذكرنا تشبيهاً للمعقول بالمحسوس ، وهو مجاز مشهور ، والمراد به هنا خسة النفوس الصادرة عنها مفاسد الأعمال ، والطيّب الموصوف بالطيب ضد الخُبث بإطلاقيه فالكفر خبث لأن أساسه الاعتقاد ، الفاسد ، فنفس صاحبه تتصور الأشياء على خلاف حقايقها فلا جرم أن تأتي صاحبها بالأفعال على خلاف وجهها ، ثم إن شرائع أهل الكفر تأمر بالمفاسد والضلالات وتصرف عن المصالح والهداية بسبب السلوك في طرائق الجهل وتقليبِ حقائق الأمور ، وما من ضلالة إلاّ وهي تفضي بصاحبها إلى أخرى مثلها ، والإيمان بخلاف ذلك .
و ( مِنْ ) في قوله : { من الطيب } للفصل ، وتقدم بيانها عند قوله تعالى : { والله يعلم المفسد من المصلح } في سورة [ البقرة : 220 ]
وجَعْل الخبيث بعضِه على بعض : علة أخرى لحشر الكافرين إلى حهنم ولذلك عطف بالواو فالمقصود جمع الخبيث وإن اختلفت أصنافه في مجمع واحد ، لزيادة تمييزه عن الطيب ، ولتشهير من كانوا يُسرون الكفر ويظهرون الإيمان ، وفي جمعه بهذه الكيفية تذليل لهم وإيلام ، إذ يجعل بعضهم على بعض حتى يصيروا رُكاماً .
والركْم : ضم شيء أعلى إلى أسفل منه ، وقد وصف السحاب بقوله : { ثم يجعله ركاماً } [ النور : 43 ] واسم الإشارة ب { أولئك هم الخاسرون } للتنبيه على أن استحقاقهم الخبَر الواقع عن اسم الإشارة كان بسبب الصفات التي ذكرت قبل اسم الإشارة ، فإن من كانت تلك حاله كان حقيقاً بأنه قد خسر أعظم الخسران ، لأنه خسر منافع الدنيا ومنافع الآخرة .
فصيغة القصر في قوله : { هم الخاسرون } هي للقصر الادعائي ، للمبالغة في اتصافهم بالخسران ، حتى يعد خسران غيرهم كلا خسران وكأنهم انفردوا بالخسران من بين الناس .