ثم يجيء مشهد النشأة الأولى للإنسان بعد الكلام عن نشأة الحياة كلها بالماء . ويذكر ما يلابس تلك النشأة من حمل في البطون ؛ ومن عمر طويل وعمر قصير . وكله في علم الله المكنون .
( والله خلقكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم جعلكم أزواجاً . وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه . وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب . إن ذلك على الله يسير ) . .
والإشارة إلى النشأة الأولى من التراب تتردد كثيراً في القرآن ؛ وكذلك الإشارة إلى أول مراحل الحمل : النطفة . . والتراب عنصر لا حياة فيه ، والنطفة عنصر فيه الحياة . والمعجزة الأولى هي معجزة هذه الحياة التي لا يعلم أحد كيف جاءت ، ولا كيف تلبست بالعنصر الأول . وما يزال هذا سراً مغلقاً على البشر ؛ وهو حقيقة قائمة مشهودة ، لا مفر من مواجهتها والاعتراف بها . ودلالتها على الخالق المحيي القدير دلالة لا يمكن دفعها ولا المماحكة فيها .
هذا والنقلة من غير الحي إلى الحي نقلة بعيدة بعيدة أكبر وأضخم من كل أبعاد الزمان والمكان . وتأمل هذه النقلة لا ينتهي ولا يمله القلب الحي الذي يتدبر أسرار هذا الوجود العجيبة . وكل سر منها أضخم من الآخر وأعجب صنعاً .
والنقلة بعد ذلك من النطفة التي تمثل مرحلة الخلية الواحدة إلى الخلقة الكاملة السوية للجنين ، حين يتميز الذكر من الأنثى ، وتتحقق الصورة التي يشير إليها القرآن في هذه الآية : ( ثم جعلكم أزواجاً ) . . سواء كان المقصود جعلكم ذكراً وأنثى وأنتم أجنة ، أو كان المقصود جعلكم أزواجاً بعد ولادتكم وتزاوج الذكر والأنثى . . هذه النقلة من النطفة إلى هذين النوعين المتميزين نقلة بعيدة كذلك بعيدة ! فأين الخلية الواحدة في النطفة من ذلك الكائن الشديد التركيب والتعقيد ، الكثير الأجهزة المتعدد الوظائف ? وأين تلك الخلية المبهمة من ذلك الخلق الحافل بالخصائص المتميزة ?
إن تتبع هذه الخلية الساذجة وهي تنقسم وتتوالد ؛ وتتركب كل مجموعة خاصة من الخلايا المتولدة منها لتكوين عضو خاص له وظيفة معينة وطبيعة معينة . ثم تعاون هذه الأعضاء وتناسقها وتجمعها لتكون مخلوقاً واحداً على هذا النحو العجيب ؛ ومخلوقاً متميزاً من سائر المخلوقات الأخرى من جنسه ، بل من أقرب الناس إليه ، بحيث لا يتماثل أبداً مخلوقان اثنان . . وكلهم من نطفة لا تميز فيها يمكن إدراكه ! . . ثم تتبع هذه الخلايا حتى تصير أزواجاً ، قادرة على إعادة النشأة بنطف جديدة ، تسير في ذات المراحل ، دون انحراف . . إن هذا كله لعجب لا ينقضي منه العجب . ومن ثم هذه الإشارة التي تتردد في القرآن كثيراً عن تلك الخارقة المجهولة السر ؛ بل تلك الخوارق المجهولة الأسرار ! لعل الناس يشغلون قلوبهم بتدبرها ، ولعل أرواحهم تستيقظ على الإيقاع المتكرر عليها !
وإلى جوار هذه الإشارة هنا يعرض صورة كونية لعلم الله [ كالصور التي جاء ذكرها في هذا الجزء في سورة سبأ ] صورة علم الله المحيط بكل حمل تحمله أنثى في هذه الأرض جميعاً :
( وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ) .
والنص يتجاوز إناث الإنسان إلى إناث الحيوان والطير والأسماك والزواحف والحشرات . وسواها مما نعلمه ومما لا نعلمه وكلها تحمل وتضع حتى ما يبيض منها ، فالبيضة حمل من نوع خاص . جنين لا يتم نموه في داخل جسم الأم ؛ بل ينزل بيضة ، ثم يتابع نموه خارج جسم الأم بحضانتها هي أو بحضانة صناعية حتى يصبح جنيناً كاملاً ثم يفقس ويتابع نموه العادي .
وعلم الله على كل حمل وعلى كل وضع في هذا الكون المترامي الأطراف ! ! !
وتصوير علم الله المطلق على هذا النحو العجيب ليس من طبيعة الذهن البشري أن يتجه إليه لا في التصور ولا في التعبير - كما قلنا في سورة سبأ - فهو بذاته دليل على أن الله هو منزل هذا القرآن . وهذه إحدى السمات الدالة على مصدره الإلهي المتفرد .
ومثلها الحديث عن العمر في الآية ذاتها :
( وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب . إن ذلك على الله يسير ) . .
فإن الخيال إذا مضى يتدبر ويتتبع جميع الأحياء في هذا الكون من شجر وطير وحيوان وإنسان وسواه على اختلاف في الأحجام والأشكال والأنواع والأجناس والمواطن والأزمنة ؛ ثم يتصور أن كل فرد من أفرادهذا الحشد - الذي لا يمكن حصره ، ولا يعلم إلا خالقه عدده - يعمر فيطول عمره ، أو ينقص من عمره فيقصر وفق قدر مقدور ، ووفق علم متعلق بهذا الفرد ، متابع له ، عمر أم لم يعمر .
بل متعلق بكل جزء من كل فرد . يعمر أو ينقص من عمره . فهذه الورقة من تلك الشجرة يطول عمرها أو تذبل أو تسقط عن قريب . وهذه الريشة من ذلك الطائر يطول مكثها أو تذهب مع الريح . وهذا القرن من ذلك الحيوان يبقى طويلاً أو يتحطم في صراع . وهذه العين في ذلك الإنسان أو هذه الشعرة تبقى وتسقط وفق تقدير معلوم .
كل ذلك ( في كتاب ) . . من علم الله الشامل الدقيق . وأن ذلك لا يكلف جهداً ولا عسراً : ( إن ذلك على الله يسير ) . .
إذا مضى الخيال يتدبر هذا ويتتبعه ؛ ثم يتصور ما وراءه . . إنه لأمر عجيب جد عجيب . . وإنه لاتجاه إلى حقيقة لا يتجه إليها التفكير البشري على هذا النحو . واتجاه إلى تصور هذه الحقيقة وتصويرها على غير مألوف البشر كذلك . وإنما هو التوجيه الإلهي الخاص إلى هذا الأمر العجيب .
والتعمير يكون بطول الأجل وعد الأعوام ؛ كما يكون بالبركة في العمر ، والتوفيق إلى إنفاقه إنفاقاً مثمراً ، واحتشاده بالمشاعر والحركات والأعمال والآثار . وكذلك يكون نقص العمر بقصره في عد السنين ؛ أو نزع البركة منه وإنفاقه في اللهو والعبث والكسل والفراغ .
ورب ساعة تعدل عمراً بما يحتشد فيها من أفكار ومشاعر ، وبما يتم فيها من أعمال وآثار . ورب عام يمر خاوياً فارغاً لا حساب له في ميزان الحياة ، ولا وزن له عند الله !
وكل ذلك في كتاب . . كل ذلك من كل كائن في هذا الكون الذي لا يعرف حدوده إلا الله . .
والجماعات كالآحاد . والأمم كالأفراد . . كل منها يعمر أو ينقص من عمره . والنص يشمله .
بل إن الأشياء لكالأحياء . وإني لأتصور الصخرة المعمرة ، والكهف المعمر ، والنهر المعمر ، والصخرة التي ينتهي أجلها أو يقصر فإذا هي فتات ؛ والكهف الذي ينتهي أجله أو يقصر فإذا هو محطم أو مسدود ؛ والنهر الذي ينتهي أجله أو يقصر فإذا هو غائض أو مبدد !
ومن الأشياء ما تصنعه يد الإنسان . البناء المعمر أو القصير العمر . والجهاز المعمر أو قصير العمر . والثوب المعمر أو قصير العمر . . وكلها ذات آجال وأعمار في كتاب الله كالإنسان .
وكلها من أمر الله العليم الخبير . .
وإن تصور الأمر على هذا النحو ليوقظ القلب إلى تدبر هذا الكون بحس جديد ، وأسلوب جديد . وإن القلب الذي يستشعر يد الله وعينه على كل شيء بمثل هذه الدقة ليصعب أن ينسى أو يغفل أو يضل . وهو حيثما تلفت وجد يد الله . ووجد عين الله . ووجد عناية الله ، ووجد قدرة الله ، متمثلة ومتعلقة بكل شيء في هذا الوجود .
وقوله : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } أي : ابتدأ خلق أبيكم آدم من تراب ، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا } أي : ذكرًا وأنثى ، لطفًا منه ورحمة أن جعل لكم أزواجًا من جنسكم ، لتسكنوا إليها .
وقوله : { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ } أي : هو عالم بذلك ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، بل { مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] . وقد تقدم الكلام على قوله تعالى : { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ [ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ . عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ ] الْمُتَعَالِ } [ الرعد : 8 ، 9 ] . {[24490]}
وقوله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ } أي : ما يعطى بعض النطف من العمر الطويل يعلمه ، وهو عنده في الكتاب الأول ، { وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } الضمير عائد على الجنس ، لا على العين ؛ لأن العين الطويل للعمر في الكتاب وفي علم الله لا ينقص من عمره ، وإنما عاد الضمير على الجنس .
قال ابن جرير : وهذا كقولهم : " عندي ثوب ونصفه " أي : ونصف آخر .
وروي من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ، يقول : ليس أحد قضيت له طول عُمُر{[24491]} وحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر وقد قضيت ذلك له ، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت لا يزاد عليه ، وليس أحد قَضَيْتُ له أنه قصير العمر والحياة ببالغ للعمر ، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له ، فذلك قوله : { وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ، يقول : كل ذلك في كتاب عنده .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه : { وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ } قال : ما لَفَظت الأرحام من الأولاد من غير تمام .
وقال عبد الرحمن في تفسيرها : ألا ترى الناس ، يعيش الإنسان مائة سنة ، وآخر يموت حين يولد فهذا هذا .
وقال قتادة : والذي ينقص من عمره : فالذي يموت قبل ستين سنة .
وقال مجاهد : { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ } أي : في بطن أمه يكتب له ذلك ، لم يخلق الخلق على عمر واحد ، بل لهذا عمر ، ولهذا عمر هو أنقص من عمره ، وكل ذلك مكتوب لصاحبه ، بالغ ما بلغ .
وقال بعضهم : بل معناه : { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ } أي : ما يكتب من الأجل { وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } ، وهو ذهابه قليلا قليلا الجميع معلوم عند الله سنة بعد سنة ، وشهرًا بعد شهر ، وجمعة بعد جمعة ، ويومًا بعد يوم ، وساعة بعد ساعة ، الجميع مكتوب عند الله في كتاب .
نقله{[24492]} ابن جرير عن أبي مالك ، وإليه ذهب السُّدِّيّ ، وعطاء الخراساني . واختار ابن جرير [ القول ]{[24493]} الأول ، وهو كما قال .
وقال النسائي عند تفسير هذه الآية الكريمة : حدثنا أحمد بن يحيى بن أبي زيد بن سليمان ، سمعت ابن وهب يقول : حدثني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مَنْ سرَّه أن يُبْسَط له في رزقه ، ويُنْسَأ له في أجله{[24494]} فليصل رَحِمَه " .
وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود ، من حديث يونس بن يزيد الأيلي ، به{[24495]} .
وقال{[24496]} ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله أبو مسرح ، حدثنا عثمان بن عطاء ، عن مسلمة{[24497]} بن عبد الله ، عن عمه أبي مَشْجَعَة بن ربعي ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن الله لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها ، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها العبد ، فيدعون له من بعده ، فيلحقه دعاؤهم في قبره ، فذلك زيادة العمر " .
وقوله : { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أي : سهل عليه ، يسير لديه علمه بذلك وبتفصيله في جميع مخلوقاته ، فإن علمه شامل لجميع ذلك لا يخفى منه عليه شيء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىَ وَلاَ تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمّرُ مِن مّعَمّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتَابٍ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : وَاللّهُ خَلَقَكُمْ أيها الناس مِنْ تُرابٍ يعني بذلك أنه خلق أباهم آدم من تراب ، فجعل خلق أبيهم منه لهم خلقا ثُمّ مِنْ نُطْفَةٍ يقول : ثم خلقكم من نطفة الرجل والمرأة ثُمّ جَعَلَكُمْ أزْوَاجا يعني أنه زوّج منهم الأنثى من الذكر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَاللّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني آدم ثُمّ مِنْ نُطْفَةٍ يعني ذرّيته ثُمّ جَعَلَكُمْ أزْوَاجا فزوّج بعضكم بعضا .
وقوله : وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إلاّ بعِلْمِهِ يقول تعالى ذكره : وما تحمل من أنثى منكم أيها الناس من حمل ولا نطفة إلاّ وهو عالم بحملها إياه ووضعها ، وما هو ؟ ذكر أو أنثى ؟ لا يخفى عليه شيء من ذلك .
وقوله : وَما يُعَمّرُ مِنْ مُعَمّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلاّ فِي كِتابٍ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وما يعمر من معمر فيطول عمره ، ولا ينقص من عمر آخر غيره عن عمر هذا الذي عمّر عمرا طويلاً إلاّ فِي كِتابٍ عنده مكتوب قبل أن تحمل به أمه ، وقبل أن تضعه ، قد أحصى ذلك كله وعلمه قبل أن يخلقه ، لا يُزاد فيما كتب له ولا ينقص . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَما يُعَمّرُ مِنْ مُعَمّرٍ . . . إلى يَسِيرٌ يقول : ليس أحد قضيت له طول العمر والحياة إلاّ وهو بالِغ ما قدّرت له من العمر ، وقد قضيت ذلك له ، وإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدّرت له ، لا يزاد عليه وليس أحد قضيت له أنه قصير العمر والحياة ببالغ العمر ، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي قدّرت له لا يزاد عليه ، فذلك قوله : وَلا يُنْقَصُ مِنْ عمُرِهِ إلاّ فِي كِتابٍ يقول : كلّ ذلك في كتاب عنده .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : من قضيت له أن يعمر حتى يُدركه الكبر ، أو يعمر أنقص من ذلك ، فكلّ بالغ أجله الذي قد قضى له ، كلّ ذلك في كتاب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما يُعَمّرُ مِنْ مُعَمّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلاّ فِي كِتابٍ قال : ألا ترى الناس : الإنسانُ يعيش مئة سنة ، وآخرُ يموت حين يولد ؟ فهذا هذا .
فالهاء التي في قوله وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ على هذا التأويل وإن كانت في الظاهر أنها كناية عن اسم المْعَمّر الأوّل ، فهي كناية اسم آخر غيره ، وإنما حسُن ذلك لأن صاحبها لو أظهر لظهر بلفظ الأوّل ، وذلك كقولهم : عندي ثوب ونصفه ، والمعنى : ونصف الاَخر .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما يُعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره بفناء ما فني من أيام حياته ، فذلك هو نقصان عمره . والهاء على هذا التأويل للمُعَمّر الأوّل ، لأن معنى الكلام : ما يطوّل عمر أحد ، ولا يذهب من عمره شيء ، فيُنْقَص إلاّ وهو في كتاب عند الله مكتوب قد أحصاه وعلمه . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : حدثنا عبثر ، قال : حدثنا حصين ، عن أبي مالك في هذه الاَية : وَما يُعَمّرُ مِنْ مُعَمّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلاّ فِي كِتابٍ قال : ما يقضي كم أيامه التي عددت له إلاّ في كتاب .
وأولى التأويلين في ذلك عندي الصواب ، التأويل الأوّل وذلك أن ذلك هو أظهر معنييه ، وأشبههما بظاهر التنزيل .
وقوله : إنّ ذلكَ على اللّهِ يَسيرٌ : يقول تعالى ذكره : إن إحصاء أعمار خلقه عليه يسير سهل ، طويلُ ذلك وقصيره ، لا يتعذّر عليه شيء منه .
هذه آية تذكير بصفات الله تعالى على نحو ما تقدم ، وهذه المحاورة إنما هي في أمر الأصنام وفي بعث الأجساد من القبور ، وقال تعالى : { خلقكم من تراب } من حيث خلق آدم أبانا منه ، وقوله { ثم من نطفة } أي بالتناسل من مني الرجال ، و { أزواجاً } قيل معناه أنواعاً ، وقيل أراد تزويج الرجال النساء ، وقوله تعالى : { ومن يعمر من معمر ولا ينقص من عمره } اختلف الناس في عود الضمير في قوله { من عمره } ، فقال ابن عباس وغيره ما مقتضاه أنه عائد على { معمر } الذي هو اسم جنس والمراد غير الذي يعمر ، أي أن القول يتضمن شخصين يعمر أحدهما مائة سنة أو نحوها وينقص من عمر الآخر بأن يكون عاماً واحداً أو نحوه ، وهذا قول الضحاك وابن زيد لكنه أعاد ضميراً إيجازاً واختصاراً ، والبيان التام أن تقول ولا ينقص من عمر معمر لأن لفظة { معمر } هي بمنزلة ذي عمر .
قال القاضي أبو محمد : كأنه قال «ولا يعمر من ذي عمر ولا ينقص من عمر ذي عمر » ، وقال ابن عباس أيضاً وأبو مالك وابن جبير المراد شخص واحد وعليه الضمير أي ما يعمر إنسان ولا ينقص من عمره بأن يحصي ما مضى منه إذا مر حول كتب ذلك ، ثم حول ، ثم حول ، فهذا هو النقص ، قال ابن جبير ما مضى من عمره فهو النقص وما يستقبل فهو الذي يعمر ، وروي عن كعب الأحبار أنه قال المعنى { ولا ينقص من عمره } أي لا يخرم بسبب قدرة الله ، ولو شاء لأخر ذلك السبب .
قال القاضي أبو محمد : وروي أنه قال : حين طعن عمر لو دعا الله تعالى لزاد في أجله ، فأنكر عليه المسلمون ذلك وقالوا : إن الله تعالى يقول { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة }{[9700]} [ الأعراف : 34 ، النحل : 61 ] فاحتج بهذه الآية وهو قول ضعيف مردود يقتضي القول بالأجلين ، وبنحوه تمسكت المعتزلة ، وقرأ الحسن والأعرج وابن سيرين «ينقِضُ » على بناء الفعل للفاعل أي ينقص الله ، وقرأ «من عمْره » بسكون الميم الحسن وداود ، و «الكتاب » المذكور في الآية اللوح المحفوظ ، وقوله { إن ذلك } إشارة إلى تحصيل هذه الأعمال وإحصاء دقائقها وساعاتها .
{ والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا } .
هذا عود إلى سوق دلائل الوحدانية بدلالة عليها من أنفس الناس بعد أن قدم لهم ما هو من دلالة الآفاق بقوله : { والله الذي أرسل الرياح } [ فاطر : 9 ] . فهذا كقوله : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } [ فصلت : 53 ] وقوله : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] فابتدأهم بتذكيرهم بأصل التكوين الأول من تراب وهو ما تقرر علمُه لدى جميع البشر من أن أصلهم وهو البشر الأول ، خلق من طين فصار ذلك حقيقة مقررة في علم البشر وهي مما يعبر عنه في المنطق « بالأصول الموضوعة » القائمة مقام المحسوسات .
ثم استدرجهم إلى التكوين الثاني بدلالة خلق النسل من نطفة وذلك علم مستقر في النفوس بمشاهدة الحاضر وقياس الغائب على المشاهد ، فكما يجزم المرء بأن نسله خلق من نطفته يجزم بأنه خلق من نطفة أبوية ، وهكذا يصعد إلى تخلق أبناء آدم وحواء .
والنطفة تقدمت عند قوله تعالى : { أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة } في سورة الكهف ( 37 ) .
وقوله : ثم جعلكم أزواجاً } يشير إلى حالة في التكوين الثاني وهو شرطه من الازدواج . ف { ثم } عاطفة الجملةَ فهي دالة على الترتيب الرتبي الذي هو أهمّ في الغرض أعني دلالة التكوين على بديع صنع الخالق سبحانه فذلك موزع على مضمون قوله : { ثم من نطفة } .
والمعنى : ثم من نطفة وقد جعلكم أزواجاً لتركيب تلك النطفة ، فالاستدلال بدقة صنع النوع الإِنساني من أعظم الدلائل على وحدانية الصانع . وفيها غُنية عن النظر في تأمل صنع بقية الحيوان .
والأزواج : جمع زوج وهو الذي يصير بانضمام الفرد إليه زوجاً ، أي شفعاً ، وقد شاع إطلاقه على صنف الذكور مع صنف الإِناث لاحتياج الفرد الذكر من كل صنف إلى أنثاه من صنفه والعكس .
{ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إلا بعلمه } .
بعد الاستدلال بما في بدء التكوين الثاني من التلاقح بين النطفتين استدل بما ينشأ عن ذلك من الأطوار العارضة للنطفة في الرحم وهو أطوار الحمل من أوله إلى الوضع .
وأدمج في ذلك دليل التنبيه على إحاطة علم الله بالكائنات الخفية والظاهرة ، ولكون العلم بالخفيّات أعلى قُدّم ذكر الحمل على ذكر الوضع ، والمقصود من عطف الوضع أن يدفع توهم وقوف العلم عند الخفيّات التي هي من الغيب دون الظواهر بأن يشتغل عنها بتدبير خفيّاتها كما هو شأن عظماء العلماء من الخلق ، لظهور استحالة توجه إرادة الخلق نحو مجهول عند مُريده .
والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال . والباء للملابسة . والمجرور في موضع الحال .
{ ومَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يسير } .
لا جرم أن الحديث عن التكوين يستتبع ذكر الموت المكتوب على كل بشر فجاء بذكر علمه الآجال والأعمار للتنبيه على سعة العلم الإِلهي .
والتعمير : جعل الإِنسان عامراً ، أي باقياً في الحياة ، فإن العَمر هو مدة الحياة يقال : عَمِر فلان كفرح ونصر وضرب ، إذا بقي زماناً ، فمعْنى عمّره بالتضعيف : جعله باقياً مدة زائدة على المدة المتعارفة في أعمار الأجيال ، ولذلك قوبل بالنقص من العمر ، ولذلك لا يوصف بالتعمير صاحبه إلا بالمبني للمجهول فيقال : عُمِّر فلان فهو معمَّر . وقد غلب في هذه الأجيال أن يكون الموت بين الستين والسبعين فما بينهما ، فهو عُمر متعارف ، والمعمّر الذي يزيد عمره على السبعين ، والمنقوص عمره الذي يموت دون الستين . ولذلك كان أرجح الأقوال في تعمير المفقود عند فقهاء المالكية هو الإِبلاغ به سبعين سنة من تاريخ ولادته ووقع القضاء في تونس بأنه ما تجاوز ثمانين سنة ، قالوا : لأن الذين يعيشون إلى ثمانين سنة غير قليل فلا ينبغي الحكم باعتبار المفقود ميتاً إلا بعد ذلك لأنه يترتب عليه الميراث ولا ميراث بشك ، ولأنه بعد الحكم باعتباره ميتاً تزوج امرأته ، وشرط صحة التزوج أن تكون المرأة خليةً من عصمة ، ولا يصح إعمال الشرط مع الشك فيه . وهو تخريج فيه نظر .
وضمير { من عمره } عائداً إلى { معمر } على تأويل { معمَّر } ب ( أحد ) كأنه قيل : وما يُعَمَّر من أحد ولا ينقص من عمره ، أي عمر أحد وآخر . وهذا كلام جار على التسامح في مثله في الاستعمال واعتماداً على أن السامعين يفهمون المراد كقوله تعالى : { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصي بها أو دين } [ النساء : 12 ] لظهور أنه لا ينقلب الميت وارثاً لمن قد ورثه ولا وارث ميتاً موروثاً لوارثه .
والكتاب كناية عن علم الله تعالى الذي لا يغيب عنه معلوم كما أن الشيء المكتوب لا يزاد فيه ولا ينقص ، ويجوز أن يجعل الله موجودات هي كالكتب تسطر فيها الآجال مفصلة وذلك يسير في مخلوقات الله تعالى . ولذلك قال : { إن ذلك على الله يسير } أي لا يلحقه من هذا الضبط عُسر ولا كدّ .
وقد ورد هنا الإِشكال العام الناشىء عن التعارض بين أدلة جريان كل شيء على ما هو سابق في علم الله في الأزل ، وبين إضافة الأشياء إلى أسباب وطلب اكتساب المرغوب من تلك الأسباب واجتناب المكروه منها فكيف يثبت في هذه الآية للأعمار زيادة ونقص مع كونها في كتاب وعلم لا يقبل التغيير ، وكيف يرغَّب في الصدقة مثلاً بأنها تزيد في العمر ، وأن صلة الرحم تزيد في العمر .
والمَخْلص من هذا ونحوه هو القاعدة الأصلية الفارقة بين كون الشيء معلوماً لله تعالى وبين كونه مراداً ، فإن العلم يتعلق بالأشياء الموجودة والمعدومة ، والإرادة تتعلق بإيجاد الأشياء على وفق العلم بأنها توجد ، فالناس مخاطبون بالسعي لما تتعلق به الإِرادة فإذا تعلقت الإِرادة بالشيء علمنا أن الله علم وقوعه ، وما تصرفات الناس ومساعيهم إلا أمارات على ما علمه الله لهم ، فصدقة المتصدق أمارة على أن الله علم تعميره ، والله تعالى يظهر معلوماته في مظاهر تكريم أو تحقير ليتم النظام الذي أسس الله عليه هذا العالم ويلتئم جميع ما أراده الله من هذا التكوين على وجوه لا يخلّ بعضها ببعض وكل ذلك مقتضى الحكمة العالية . ولا مَخلص من هذا الإِشكال إلا هذا الجواب وجميع ما سواه وإن أقنعَ ابتداءً فمآله إلى حيث ابتدأ الإِشكال .