وبعد هذا التحذير من التلقي عن أهل الكتاب وطاعتهم واتباعهم ينادي الله الجماعة المسلمة ويوجهها إلى القاعدتين الأساسيتين اللتين تقوم عليهما حياتها ومنهجها . واللتين لا بد منهما لكي تستطيع أن تضطلع بالأمانة الضخمة التي ناطها الله بها ، وأخرجها للوجود من أجلها . . هاتان القاعدتان المتلازمتان هما : الإيمان . والأخوة . . الإيمان بالله وتقواه ومراقبته في كل لحظة من لحظات الحياة . والأخوة في الله ، تلك التي تجعل من الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة ، قادرة على أداء دورها العظيم في الحياة البشرية ، وفي التاريخ الإنساني : دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وإقامة الحياة على أساس المعروف وتطهيرها من لوثة المنكر :
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم : إذ كنتم أعداء ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا . وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون . ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، وأولئك هم المفلحون . ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ، وأولئك لهم عذاب عظيم . يوم تبيض وجوه وتسود وجوه . فأما الذين اسودت وجوههم : أكفرتم بعد إيمانكم ؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) . .
إنهما ركيزتان تقوم عليهما الجماعة المسلمة ، وتؤدي بهما دورها الشاق العظيم . فإذا انهارت واحدة منهما لم تكن هناك جماعة مسلمة ، ولم يكن هنالك دور لها تؤديه :
ركيزة الإيمان والتقوى أولا . . التقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل . . التقوى الدائمة اليقظة التي لا تغفل ولا تفتر لحظة من لحظات العمر حتى يبلغ الكتاب أجله :
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ) . .
اتقوا الله - كما يحق له أن يتقى - وهي هكذا بدون تحديد تدع القلب مجتهدا في بلوغها كما يتصورها وكما يطيقها . وكلما أوغل القلب في هذا الطريق تكشفت له آفاق ، وجدت له أشواق . وكلما اقترب بتقواه من الله ، تيقظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ ، وإلى مرتبة وراء ما ارتقى . وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قلبه فلا ينام !
( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) . .
والموت غيب لا يدري إنسان متى يدركه . فمن أراد ألا يموت إلا مسلما فسبيله أن يكون منذ اللحظة مسلما ، وأن يكون في كل لحظة مسلما . وذكر الإسلام بعد التقوى يشي بمعناه الواسع : الاستسلام . الاستسلام لله ، طاعة له ، واتباعا لمنهجه ، واحتكاما إلى كتابه . وهو المعنى الذي تقرره السورة كلها في كل موضع منها ، على نحو ما أسلفنا .
هذه هي الركيزة الأولى التي تقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقق وجودها وتؤدي دورها . إذ أنه بدون هذه الركيزة يكون كل تجمع تجمعا جاهليا . ولا يكون هناك منهج لله تتجمع عليه أمة ، إنما تكون هناك مناهج جاهلية . ولا تكون هناك قيادة راشدة في الأرض للبشرية ، إنما تكون القيادة للجاهلية .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا عبد الرحمن ، عن سفيان وشُعْبَة ، عن زُبَيْد الياميّ ، عن مُرَّة ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } قال : أن يُطاع فلا يُعْصَى ،
وأن يُذْكَر فلا يُنْسَى ، وأن يُشْكَر فلا يُكْفَر{[5419]} .
وهذا إسناد صحيح موقوف ، [ وقد تابع مرة عليه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود ] {[5420]} .
وقد رواه ابن مَرْدُويه من حديث يونس بن{[5421]} عبد الأعلى ، عن ابن وَهْب ، عن سفيان الثوري ، عن زُبَيْد ، عن مُرَّة ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } أن يُطَاعَ فَلا يُعْصَى ، وَيُشْكَرَ فَلا يُكْفَرَ ، ويُذْكَر فَلا يُنْسَى " .
وكذا رواه الحاكم في مستدركه ، من حديث مِسْعَر ، عن زُبَيْد ، عن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، مرفوعا فذكره . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . كذا قال . والأظهر{[5422]} أنه موقوف{[5423]} والله أعلم .
ثم قال ابن أبي حاتم : ورُوي نحوهُ عن مُرة الهَمْداني ، والربيع بن خُثَيم ، وعمرو بن ميمون ، وإبراهيم النَّخَعي ، وطاووس ، والحسن ، وقتادة ، وأبي سِنان ، والسُّدِّي ، نحوُ ذلك .
[ وروي عن أنس أنه قال : لا يتقي العبد الله حق تقاته حتى يخزن من لسانه ]{[5424]} .
وقد ذهب سعيد بن جُبَير ، وأبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، ومقاتل بن حَيّان ، وزيد بن أسلم ، والسُّدِّي وغيرهم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ]
وقال علي بن أبي طَلْحة ، عن ابن عباس في قوله : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } قال : لم تُنْسخ ، ولكن { حَقَّ تُقَاتِهِ } أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده ، ولا تأخذهم في الله لَوْمَة لائم ، ويقوموا بالقِسْط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم .
وقوله : { وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أي : حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه ، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه ، ومن مات على شيء بُعث عليه ، فعياذًا بالله من خلاف ذلك .
قال الإمام أحمد : حدثنا رَوْح ، حدثنا شُعْبة قال : سمعتُ سليمان ، عن مجاهد ، أنّ الناس كانوا يطوفون بالبيت ، وابنُ عباس جالس معه مِحْجَن ، فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَلَوْ أنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ لأمَرّتْ عَلَى أهْلِ الأرْضِ عِيشَتَهُمْ {[5425]}فَكَيْفَ بِمَنْ لَيْسَ لَهُ طَعَامٌ إلا الزَّقُّومُ " .
وهكذا رواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، وابن حِبَّان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، من طرق عن شعبة ، به . وقال الترمذي : حسن صحيح . وقال الحاكم : على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه{[5426]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وَهْب ، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة ، عن عبد الله بن عَمْرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أَحَبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّار وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ ، فَلْتُدْرِكْهُ مَنِيَّتُهُ ، وَهُوَ يُؤْمِنُ{[5427]} بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، ويَأْتِي إلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أنْ يُؤتَى إلَيْهِ " {[5428]} .
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث : " لا يَمُوتَنَّ أحَدُكُمْ{[5429]} إلا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ " . ورواه مسلم من طريق الأعمش ، به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا [ أبو ]{[5430]} يونس ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنَّ اللهَ قال : أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ، فإنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ ، وَإنْ ظَنَّ شَرا فَلَهُ " {[5431]} .
وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين{[5432]} من وجه آخر ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يَقُولُ اللهُ [ عز وجل ]{[5433]} أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي " {[5434]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزّار : حدثنا محمد بن عبد الملك القُرَشي ، حدثنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت - وأحسبه - عن أنس قال : كان رجل من الأنصار مريضًا ، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم يَعودُه ، فوافقه في السوق فسلَّم عليه ، فقال له : " كَيْفَ أنْتَ يَا فُلانُ ؟ " قال{[5435]} بخير يا رسول الله ، أرجو الله أخاف ذنوبي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ إلا أعْطَاهُ اللهُ مَا يَرْجُو وآمَنَهُ ممَّا يَخَافُ " .
ثم قال : لا نعلم رواه عن ثابت غير جعفر بن سليمان . وهكذا رواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة من حديثه ، ثم قال الترمذي : غريب . وقد رواه بعضهم عن ثابت مرسلا{[5436]} .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شُعبة ، عن أبي بِشْر ، عن يوسف بن مَاهك ، عن حكيم بن حِزَام قال : بايعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على ألا أخِرَّ إلا قائما . ورواه النسائي في سننه عن إسماعيل بن مسعود ، عن خالد بن الحارث ، عن شعبة ، به ، وترجم عليه فقال : ( باب كيف يخر للسجود ){[5437]} ثم ساقه مثله{[5438]} فقيل : معناه : على ألا أموت إلا مسلمًا ، وقيل : معناه : [ على ]{[5439]} ألا أُقتل إلا مُقبِلا غير مُدبِر ، وهو يرجع إلى الأول .
{ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : يا معشر من صدّق الله ورسوله ، { اتقوا الله } خافوا الله وراقبوه بطاعته ، واجتناب معاصيه ، { حق تقاته } حقّ خوفه ، وهو أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى . { ولا تموتنّ } أيها المؤمنون بالله ورسوله ، { إلا وأنتم مسلمون } لربكم ، مذعنون له بالطاعة ، مخلصون له الألوهية والعبادة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله : { اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ } قال : أن يُطاع فلا يُعصى ، ويُذكر فلا يُنسى ، ويُشكر فلا يُكفر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شعبة ، عن زبيد ، عن مرة الهمداني ، عن عبد الله مثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن زبيد ، عن مرة الهمداني ، عن عبد الله مثله .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن زبيد ، عن مرة بن شراحيل الهمداني ، عن عبد الله بن مسعود ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا جرير ، عن زبيد ، عن عبد الله ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا مسعر ، عن زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن المسعودي ، عن زبيد الأيامي ، عن مرّة ، عن عبد الله ، مثله .
حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله ، مثله .
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا يحيى بن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون : { اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ } قال : أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، نحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا عمرو بن مرة ، عن الربيع بن خُثَيْم ، قال : أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكره فلا ينسى .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال : سمعت مرة الهمداني يحدّث عن الربيع بن خُثَيْم في قول الله عزّ وجلّ : { اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ } فذكر نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد ، عن طاوس : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ } أن يطاع فلا يعصى .
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن ، في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ } قال : حقّ تقاته أن يطاع فلا يعصي .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ثم تقدم إليهم ، يعني إلى المؤمنين من الأنصار ، فقال : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إلاّ وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أما حق تقاته : يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا همام ، عن قتادة : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ } أن يطاع فلا يعصى ، قال : { ولا تَمُوتُنّ إلاّ وأنْتُم مِسْلِمُونَ } .
وقال آخرون : بل تأويل ذلك كما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ } قال : حقّ تقاته أن يجاهدوا في سبيل الله حقّ جهاده ، ولا يأخذهم في الله لومة لائم ، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم .
ثم اختلف أهل التأويل في هذه الاَية ، هل هي منسوخة أم لا ؟ فقال بعضهم : هي محكمة غير منسوخة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ } إنها لم تنسخ ، ولكن حقّ تقاته أن تجاهد في الله حقّ جهاده . ثم ذكر تأويله الذي ذكرناه عنه آنفا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن نجيح ، عن قيس بن سعد ، عن طاوس : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ } فإن لم تفعلوا ولم تستطيعوا ، { فَلاَ تَمُوتُنّ إلاّ وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال طاوس ، قوله : { وَلاَ تَمُوتُنّ إلاّ وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ } يقول : إن لم تتقوه فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون .
وقال آخرون : هي منسوخة ، نسخها قوله : { فاتّقُوا اللّهَ ما استْطَعْتُمْ } . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إلاّ وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ثم أنزل التخفيف واليسر ، وعاد بعائدته ورحمته على ما يعلم من ضعف خلقه ، فقال : { فاتّقُوا الله ما اسْتَطَعْتُمْ } فجاءت هذه الاَية فيها تخفيف وعافية ويسر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال الأنماطي ، قال : حدثنا همام ، عن قتادة : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ ألاّ وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ } قال : نسختها هذه الاَية التي في التغابن { فاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ واسمَعُوا وأطِيعُوا } وعليها بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما استطاعوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : لما نزلت : { اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ } ثم نزل بعدها : { فاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُم } فنسخت هذه الاَية التي في آل عمران .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إلاّ وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ } فلم يطق الناس هذا ، فنسخه الله عنهم ، فقال : { فاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَق تُقاتِهِ } قال : جاء أمر شديد ، قالوا : ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه ؟ فلما عرف أنه قد اشتدّ ذلك عليهم ، نسخها عنهم ، وجاء بهذه الأخرى ، فقال : { فاتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ } فنسخها .
وأما قوله : { وَلاَ تَمُوتُنّ إلاّ وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ } فإن تأويله كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد ، عن طاوس : { وَلاَ تَمُوتُنّ إلاّ وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ } قال : على الإسلام وعلى حرمة الإسلام .
{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ }
الخطاب بهذه الآية يعم جميع المؤمنين ، والمقصود به وقت نزولها الأوس والخزرج الذين شجر بينهم بسعاية شاس بن قيس ما شجر ، و «تقاة » مصدر وزنة فعلة ، أصله تقية ، وقد تقدم قوله : { إلا أن تتقوا منهم تقاة }{[3378]} ، ويصح أن تكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل وإن كان لم يتصرف منه فيكون كرماة ورام ، أو يكون جمع تقي إذ فعيل وفاعل بمنزلة ، والمعنى على هذا : اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به ، ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى ، واختلف العلماء في قوله : { حق تقاته } فقالت فرقة : نزلت الآية على عموم لفظها ، وألزمت الأمة أن تتقي الله غاية التقوى حتى لا يقع إخلال في شيء من الأشياء ، ثم إن الله نسخ ذلك عن الأمة بقوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم }{[3379]} وبقوله : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها }{[3380]} قال ذلك قتادة والسدي والربيع بن أنس وابن زيد وغيرهم ، وقالت جماعة من أهل العلم : لا نسخ في شيء من هذا ، وهذه الآيات متفقات ، فمعنى هذه : اتقوا الله حقَّ تقاته فيما استطعتم ، وذلك أن { حق تقاته } هو بحسب أوامره ونواهيه ، وقد جعل تعالى الدين يسراً ، وهذا هو القول الصحيح ، وألا يعصي ابن آدم جملة لا في صغيرة ولا في كبيرة ، وألا يفتر في العبادة أمر متعذر في جبلة البشر ، ولو كلف الله هذا لكان تكليف ما لا يطاق ، ولم يلتزم ذلك أحد في تأويل هذه الآية ، وإنما عبروا في تفسير هذه الآية بأن قال ابن مسعود رضي الله عنه : { حق تقاته } : هو أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى{[3381]} ، وكذلك عبر الربيع بن خيثم وقتادة والحسن ، وقال ابن عباس رضي عنهما : معنى قوله ، { واتقوا الله حق تقاته } : جاهدوا في الله حق جهاده ولا نسخ في الآية ، وقال طاوس في معنى قوله تعالى : { اتقوا الله حق تقاته } : يقول تعالى ، إن لم تتقوه ولم تستطيعوا ذلك فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، وقوله تعالى : { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } معناه : دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه . هكذا هو وجه الأمر في المعنى ، وجاءت العبارة على هذا النظم الرائق الوجيز ، ونظيره ما حكى سيبويه من قولهم : لا أرينك هاهنا ، وإنما المراد : لا تكن هاهنا فتكون رؤيتي لك ، و { مسلمون } في هذه الآية ، هو المعنى الجامع في التصديق والأعمال ، وهو الدين عند الله وهو الذي بني على خمس .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: يا معشر من صدّق الله ورسوله، {اتقوا الله} خافوا الله وراقبوه بطاعته، واجتناب معاصيه، {حق تقاته} حقّ خوفه،...
{ولا تموتنّ} أيها المؤمنون بالله ورسوله، {إلا وأنتم مسلمون} لربكم، مذعنون له بالطاعة، مخلصون له الألوهية والعبادة...
ثم اختلف أهل التأويل في هذه الآية، هل هي منسوخة أم لا؟ فقال بعضهم: هي محكمة غير منسوخة...
وقال آخرون: هي منسوخة، نسخها قوله: {فاتّقُوا اللّهَ ما استْطَعْتُمْ}...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أراد {حق تقاته} مما يحتمل وسع الخلق...
اختلف في نسخه، فرُوي عن ابن عباس وطاوس أنها محكمة غير منسوخة، وعن قتادة والربيع بن أنس والسدي أنها منسوخة بقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن:16]؛ فقال بعض أهل العلم: لا يجوز أن تكون منسوخةً لأن معناه اتقاء جميع معاصيه، وعلى جميع المكلفين اتقاءُ جميع المعاصي، ولو كان منسوخاً لكان فيه إباحةُ بعض المعاصي، وذلك لا يجوز. وقيل: إنه جائز أن يكون منسوخاً بأن يكون معنى قوله: {حَقَّ تُقَاتِهِ} القيام بحقوق الله تعالى في حال الخوف والأمن وترك التَّقِيَّةِ فيها، ثم نسخ ذلك في حال التقية والإكراه، ويكون قوله تعالى: {ما استطعتم} [الأنفال:60، والتغابن: 16] فيما لا تخافون فيه على أنفسكم، يريد: فيما لا يكون فيه احتمال الضرب والقتل، لأنه قد يُطلق نفي الاستطاعة فيما يشقّ على الإنسان فعله كما قال تعالى: {وكانوا لا يستطيعون سمعاً} [الكهف:101] ومراده مشقّة ذلك عليهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) معناه لا تتركوا الإسلام، وإنما قال:"فلا تموتن" بلفظ النهي عن الموت من حيث إن الموت لابد منه، فكأنه قال: كونوا على الإسلام، فإذا ورد عليكم الموت صادفكم على الإسلام، فالنهي في الحقيقة عن ترك الإسلام، لئلا يهلكوا بالاقتطاع عن التمكين منه بالموت، إلا أنه وضع كلام موضع كلام على جهة تصرف الإبدال، لحسن الاستعارة، وزوال اللبس، لأنه لما كان يمكنهم أن يفارقوه بالإسلام فترك الإسلام صار بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قال أهل المعاني: لا يستقيم النسخ فيه، وقوله (فاتقوا الله ما استطعتم) تفسير لهذه الآية؛ لأن من أطاع الله في وقت وجوب الطاعة، وذكره في وقت وجوب الذكر، وشكره في موضع وجوب الشكر، فقد اتقى الله حق تقاته. وهذا لم يصر منسوخا، وقوله: (فاتقوا الله ما استطعتم) موافق له؛ لأن التقوى إن كان في موضع الأمر والوجوب، والأوامر والواجبات على قدر الاستطاعة، فتكون إحدى الآيتين موافقة للأخرى، فلا يستقيم فيه النسخ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يريد: بالغوا في التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئاً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المعنى...: اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به، ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى..
اعلم أنه تعالى لما حذر المؤمنين من إضلال الكفار ومن تلبيساتهم في الآية الأولى أمر المؤمنين في هذه الآيات بمجامع الطاعات، ومعاقد الخيرات، فأمرهم أولا: بتقوى الله وهو قوله {اتقوا الله} وثانيا: بالاعتصام بحبل الله، وهو قوله {واعتصموا بحبل الله} وثالثا: بذكر نعم الله وهو قوله {واذكروا نعمة الله عليكم} والسبب في هذا الترتيب أن فعل الإنسان لا بد وأن يكون معللا، إما بالرهبة وإما بالرغبة، والرهبة مقدمة على الرغبة، لأن دفع الضرر مقدم على جلب النفع، فقوله {اتقوا الله حق تقاته} إشارة إلى التخويف من عقاب الله تعالى، ثم جعله سببا للأمر بالتمسك بدين الله والاعتصام بحبل الله، ثم أردفه بالرغبة، وهي قوله {واذكروا نعمة الله عليكم} فكأنه قال: خوف عقاب الله يوجب ذلك، وكثرة نعم الله توجب ذلك فلم تبق جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله ووجوب طاعتكم لحكم الله، فظهر بما ذكرناه أن الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية مرتبة على أحسن الوجوه...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
حق تقواه وما يجب منها، وهو استفراغ الوسع في القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم... وقيل هو أن تنزه الطاعة عن الالتفات إليها وعن توقع المجازاة عليها. وفي هذا الأمر تأكيد للنهي عن طاعة أهل الكتاب، وأصل تقاة وقية فقلبت واوها المضمومة تاء كما في تؤده وتخمه والياء ألفا. {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} أي ولا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت، فإن النهي عن المقيد بحال أو غيرها قد يتوجه بالذات نحو الفعل تارة والقيد أخرى وقد يتوجه نحو المجموع دونهما وكذلك النفي...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
[روى] ابن مَرْدُويه من حديث يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وَهْب، عن سفيان الثوري، عن زُبَيْد، عن مُرَّة، عن عبد الله [ابن مسعود] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} أن يُطَاعَ فَلا يُعْصَى، وَيُشْكَرَ فَلا يُكْفَرَ، ويُذْكَر فَلا يُنْسَى".
وكذا رواه الحاكم في مستدركه، من حديث مِسْعَر، عن زُبَيْد، عن مُرَّة، عن ابن مسعود، مرفوعا فذكره. ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. كذا قال. والأظهر أنه موقوف والله أعلم.
قوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي: حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه، فعياذًا بالله من خلاف ذلك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما انقضى هذا التحذير من أهل الكتاب والتعجيب والترغيب، أمر بما يثمر ذلك من رضاه فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك بألسنتهم {اتقوا الله} أي صدقوا دعواكم بتقوى ذي الجلال والإكرام {حق تقاته} فأديموا الانقياد له بدوام مراقبته ولا تقطعوا أمراً دونه {ولا تموتن} على حالة من الحالات {إلا وأنتم مسلمون} أي منقادون أتم الانقياد...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
تكريرُ الخطابِ بعنوان الإيمانِ تشريفٌ إثرَ تشريفٍ {اتقوا الله} الاتقاءُ افتعالٌ من الوقاية وهي فرْطُ الصيانة {حَقَّ تُقَاتِهِ} أي حقَّ تقواه وما يجب منها وهو استفراغُ الوُسعِ في القيام بالموَاجب والاجتنابِ عن المحارم كما في قوله تعالى: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن، الآية 16]... {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسْلِمُونَ} أي مُخلصون نفوسَكم لله تعالى لا تجعلون فيها شِرْكةً لما سواه أصلاً كما في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} [النساء، الآية 125] وهو استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال أي لا تموتُنَّ على حال من الأحوال إلا حالَ تحققِ إسلامِكم وثباتِكم عليه كما تنبئ عنه الجملةُ الاسميةُ، ولو قيل: إلا مسلمين لم يُفِدْ بفائدتها. والعاملُ في الحال ما قبل {إِلا} بعد النقض، وظاهرُ النظمِ الكريم -وإن كان نهياً عن الموت المقيَّد بقيدٍ هو الكونُ على أي حالٍ غيرِ حالِ الإسلام- لكنَّ المقصودَ هو النهيُ عن ذلك القيدِ عند الموتِ المستلزمِ للأمر بضده الذي هو الكونُ على حال الإسلامِ حينئذ، وحيث كان الخطابُ للمؤمنين كان المرادُ إيجابَ الثباتِ على الإسلام إلى الموت، وتوجيهُ النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكورِ، فإن النهيَ عن القيَّد في أمثاله نهيٌ عن القيد ورفعٌ له من أصله بالكلية، مفيدٌ لما لا يفيده النهيُ عن نفس القيدِ، فإن قولَك: لا تُصلِّ إلا وأنت خاشعٌ يفيد في المبالغة في إيجاب الخشوعِ في الصلاة ما لا يفيده قولُك: لا تترُكِ الخشوعِ في الصلاة، لما أن هذا نهيٌ عن ترك الخشوعِ فقط وذاك نهيٌ عنه وعما يقارِنُه ومفيدٌ لكون الخشوعِ هو العمدةَ في الصلاة وأن الصلاةَ بدونه حقُّها أن لا تُفعل، وفيه نوعُ تحذيرٍ عما وراءَ الموتِ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قوله تعالى: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) فمعناه على المختار عند الأستاذ الإمام: استمروا على الإسلام؛ وحافظوا على أعماله حتى الموت. فالمراد بالإسلام على هذا هو الدين: إيمانه وعمله. ووجه الاختيار أنه جاء في مقابلة قوله: (يردوكم بعد إيمانكم كافرين) وبعد الأمر بالتقوى حق التقوى...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذه الآية بيان لما يستحقه تعالى من التقوى، وأما ما يجب على العبد منها، فكما قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته).. اتقوا الله -كما يحق له أن يتقى- وهي هكذا بدون تحديد تدع القلب مجتهدا في بلوغها كما يتصورها وكما يطيقها. وكلما أوغل القلب في هذا الطريق تكشفت له آفاق، وجدت له أشواق. وكلما اقترب بتقواه من الله، تيقظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ، وإلى مرتبة وراء ما ارتقى. وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قلبه فلا ينام! (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون).. والموت غيب لا يدري إنسان متى يدركه. فمن أراد ألا يموت إلا مسلما فسبيله أن يكون منذ اللحظة مسلما، وأن يكون في كل لحظة مسلما. وذكر الإسلام بعد التقوى يشي بمعناه الواسع: الاستسلام. الاستسلام لله، طاعة له، واتباعا لمنهجه، واحتكاما إلى كتابه. وهو المعنى الذي تقرره السورة كلها في كل موضع منها، على نحو ما أسلفنا. هذه هي الركيزة الأولى التي تقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقق وجودها وتؤدي دورها. إذ أنه بدون هذه الركيزة يكون كل تجمع تجمعا جاهليا. ولا يكون هناك منهج لله تتجمع عليه أمة، إنما تكون هناك مناهج جاهلية. ولا تكون هناك قيادة راشدة في الأرض للبشرية، إنما تكون القيادة للجاهلية.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقل مِن تحذير المخاطبين من الانخداع لوساوس بعض أهل الكتاب، إلى تحريضهم على تمام التَّقوى، لأنّ في ذلك زيادة صلاح لهم ورسوخاً لإيمانهم، وهو خطاب لأصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم ويَسري إلى جميع من يكون بعدهم. وهذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية... وحقّ التقوى هو أن لا يكون فيها تقصير، وتظاهر بما ليس من عمله، وذلك هو معنى قوله تعالى: {فاتَّقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] لأنّ الاستطاعة هي القدرة، والتَّقوى مقدورة للنَّاس...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بيّن الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة عناد بعض اهل الكتاب واستمرارهم في غيهم، وسدهم طريق الهداية في قلوبهم، وتحديهم للحق وأهله، ومعاندتهم للبينات الثابتة التي لا تقبل نكيرا، ثم مجاوزتهم الحد، ومحاولة صدهم المؤمنين عن الحق، وبث روح الفرقة والانقسام، لكي يعود أمر الجاهلية كما كان، ولكي يتفرقوا اوزاعا كما كانوا اولا. وفي هذه الآيات يبين للمؤمنين الحبل الوثيق الذي لا يضلون إذا استمسكوا به، ولا يفرقون ما داموا آخذين بعروته الوثقى، وهو تقوى الله حق تقاته، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته}.
صدر الكلام سبحانه بهذا الموصول الذي كانت الصلة فيه الإيمان،للإشارة إلى أن المطلوب من مقتضيات الإيمان ومن نتائجه، وهو غاية الغايات فيه، والثمرة الدانية له. وقوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} معناه:اتقوا الله تعالى واجب تقواه أي اتقوا الله تعالى بالقدر الذي يجب ان يتقى به، وهو الحق الثابت المستقر الذي ينبغي ان يستمر ولا ينقطع؛ و"تقاة "مصدر على وزن فعلة كتؤدة، والواو قلبت تاء على ما هو الأصل في كلمة تقوى لأنها من الوقاية؛ وكلمة "حق "منصوبة على انها مفعول مطلق مضاف إلى المصدر المشتق منه الفعل؛ ومثل هذا قولنا ولكلام الله المثل الأعلى: أكرم فلانا حق الإكرام، او أدب ولدك حق التأديب، وإضافة تقاة إلى الله تعالى في قوله تعالى: {حق تقاته} تفيد علو الواجب المطلوب له سبحانه وتعالى من التقوى، فالمطلوب هو التقوى الواجبة التي تليق بذي الجلال والإكرام القهار، والمالك لكل شيء، القاهر فوق عباده، الغالب على كل أمر، ويقول الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته}: {حق تقاته} واجب تقواه وما يحق منها، وهو القيام بالمواجب، واجتناب المحارم، ونحوه {فاتقوا الله ما استطعتم...16} [التغابن] يريد بالغوا في تقوى الله حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئا".
وهذا معنى مستقيم، وتخريج قويم، ويكون المعنى في الآيتين متلاقيا؛ إذ يكون معنى: {اتقوا الله حق تقاته} اتقوه بأقصى الاستطاعة في التقوى، فبذل المستطاع منه هو عين التقوى، وهو أقصى غاياتها.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
طريقة التُّقى:... لما كانت المواقف المضادّة للإسلام والمسلمين التي يقفها أهل الكتاب من اليهود ومن غيرهم، في إضلالهم عن دينهم الحقّ، تتحرّك في حالات الضعف الداخلي، والوهن الروحي، والغفلة عن اللّه، ما يجعلهم يندفعون للسير في المخططات الخبيثة التي تُرسَمُ لهم لإبعادهم عن الإسلام، جاءت هذه الآية لتدلهم على السبيل الذي يمكنهم من خلاله أن يحصلوا على قوّة الموقف في العقيدة والإصرار على سلامة الخطّ، وذلك بالدعوة إلى أن يتّقوا اللّه حقّ تُقاته، في ما توحيه هذه الكلمة من الانضباط الواعي أمام خطّ اللّه في ما يأمر به وما ينهى عنه في حالات الاهتزاز النفسي أمام الشهوات، والضعف الروحي أمام التحدّيات، والارتباك الفكري أمام الشبهات...
ونستوحي من ذلك أنَّ التَّقوى، حقّ التَّقوى، هي السير على خطّ العبودية التي تعيش الحضور الدائم للّه في الفكر والحركة والشعور، لأنَّها تنطلق في الحياة على أساس ما تمثِّله من ارتباطها باللّه، فلا شيء فيها إلاَّ وهو مظهر من مظاهر قدرته، ودليل واضح على وجوده، ولطفٌ من ألطاف نعمته. فإذا عاش الإنسان ذلك في نفسه، كانت الطاعة حركة حياته تبعاً للشعور العميق بالعبوديّة، وكان الوعي لوجود اللّه شعوره الدائم انطلاقاً من وضوح الرؤية في وجدانه، وكان الإحساس بالنعمة سبيلاً روحياً للشعور بالحاجة إلى شكره من خلال ما توحيه الإنسانية المنفتحة على اللّه بالاعتراف الجميل بالنعمة. وهذا هو الخطّ الواعي للتَّقوى الذي يمكن أن يكلّف به الإنسان من خلال قدراته المحدودة، التي لا تستطيع أن تدرك سرّ اللّه في عمقه وامتداده، لترتفع إلى المستوى الأعلى من معرفته.. وهذا هو التكليف الذي تنوّعت الآيات القرآنية في التأكيد عليه من خلال ما جاء من آيات قرآنية تتحدّث عن إطاعة اللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعن ذكر اللّه في جميع الحالات، وعن استحضار نِعم اللّه في نفس الإنسان وشكره عليها بالعمل فيها بما يرضيه والابتعاد بها عمَّا يسخطه...
خطّ للحياة ومسار للنهاية: أمّا قوله تعالى:"ولا تَمُوتُنَّ إلاّ وأنتم مُسلمون" فقد تكون نتيجةً طبيعية للسير على خطّ التَّقوى في الحياة، لأنَّ ذلك هو الذي يعمّق وعي الإنسان للإسلام في الداخل، ويركّز خطواته على الصراط المستقيم، فلا يبقى في حياته اهتزاز أو ارتباك يبتعد به عن الإسلام، لأنَّه لا يمثِّل في حياته كلمة تُقال وتقليداً يتجمّد، بل يمثِّل الفكر والعاطفة والحركة التي تجعل من الإسلام طابعاً للحياة ومعنى يتحرّك في أعماق الإنسان من خلالها في امتدادٍ وشمولٍ يختم حياته كما بدأها، حيثُ يلاقي ربّه بإسلام الوجه والقلب واللسان... إنَّها الدعوة إلى أن لا تكون التَّقوى مزاجاً طارئاً يمرّ بالحياة مروراً خفيفاً، بل تكون قاعدة ثابتة للفكر والحياة لتمثِّل خطّ البداية والمسار والنهاية... وهذا هو ما نستوحيه من هذا النداء الإلهي الذي يحسّ الإنسان فيه بمعنى الرحمة الذي يمتزج بأسلوب التوجيه والدعوة...
وإن أفضل التقوى في الإسلام ما يدوم، وما يمكن ان يستمر الشخص عليه من غير إجهاد ومشقة، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أحب الأعمال عند الله أدومها وإن قل"... وذلك لا يكون إلا في دائرة المستطاع، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم معنى تقوى الله حق تقاته في قوله:"حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر".
{ولا تموتن إلا وانتم مسلمون}: النهي ليس منصبا على الموت، وإنه بضم النهي إلى الاستثناء يكون المطلوب امرا إيجابيا، وهو ما بعد أداة الاستثناء،فيكون المعنى الجملي: كونوا على حال الإسلام المستمرة إلى الموت؛ فإذا قال قائل: لا تكرم إلا محمدا، فمعنى القول أكرم محمدا وحده؛ لأن معنى الاستثناء نفى وإثبات، فهو يتضمن النفي لما عدا ما بعد إلا، والإثبات لما بعد إلا، وقد يكون العكس ويكون موضع النهي هنا هو النهي عما يمنع استمرار الإسلام إلى الوفاة ولقاء الرب تعالت قدرته، وعظمت نعمته، فهو امر لهم بأن يقصروا انفسهم على حال الإسلام وحده إلى ان يتوفاهم الله سبحانه وتعالى.
ومعنى الإسلام هو الإخلاص لله سبحانه وتعالى وحده، والإذعان له تبارك وتعالى، وألا يستمعوا إلا إليه، وان يصموا آذانهم عن كل دعوة تخالف ما يأمر به وما ينهى عنه؛ فذلك هو الإسلام المطلوب ممن تشرفوا بذلك النعت الكريم، وهو ما قد بيناه من قبل عند الكلام في قوله تعالى: {وله أسلم من في السموات والأرض...83} [آل عمران] وقوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام...19} [آل عمران] وقوله تعالى: {ونحن له مسلمون133} [البقرة] وإطلاق الإسلام بمعنى الإذعان الظاهري لا يكون في القرآن إلا بقرينة، ويعبر عنه في مقابل الإيمان، وبالفعل لا بالوصف، ومن ذلك قوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم...14} [الحجرات].
والخلاصة ان الله تعالى يأمر المؤمنين بأن يستمروا على إذعانهم للحق الذي يدعوهم إليه، ويمنعوا ان يدخل الانحراف إلى قلوبهم، فلا يجيبوا داعي اليهود وأشباههم الذين يريدون ان يصدوهم عن دينهم حسدا من عند أنفسهم.