إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ} (102)

تكريرُ الخطابِ بعنوان الإيمانِ تشريفٌ إثرَ تشريفٍ { اتقوا الله } الاتقاءُ افتعالٌ من الوقاية وهي فرْطُ الصيانة { حَقَّ تُقَاتِهِ } أي حقَّ تقواه وما يجب منها وهو استفراغُ الوُسعِ في القيام بالموَاجب والاجتنابِ عن المحارم كما في قوله تعالى : { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن ، الآية 16 ] وعن ابن مسعود رضي الله عنه : «هو أن يُطاعَ ولا يعصى ويُذكرَ ولا يُنْسَى ويُشكَرَ ولا يُكْفَرَ » وقد روي مرفوعاً إليه عليه السلام . وقيل : هو أن لا تأخُذَه في الله لومةُ لائمٍ ويقومَ بالقسط ولو على نفسه أو ابنِه أو أبيه . وقيل : وهو أن يُنزِّهَ الطاعةَ عن الالتفات إليها وعن توقع المجازاةِ ، وقد مر تحقيقُ الحقِّ في ذلك عند قوله عز وجل : { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة ، الآية : 2 ] والتقاةُ مِن اتقى كالتُّؤَدة من اتّأَدَ ، وأصلها وُقْيَة قلبت واوُها المضمومةُ تاءً كما في تُهمة وتُخمة وياؤها المفتوحة ألفاً . { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسْلِمُونَ } أي مُخلصون نفوسَكم لله تعالى لا تجعلون فيها شِرْكةً لما سواه أصلاً كما في قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } [ النساء ، الآية 125 ] وهو استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال أي لا تموتُنَّ على حال من الأحوال إلا حالَ تحققِ إسلامِكم وثباتِكم عليه كما تنبئ عنه الجملةُ الاسميةُ ، ولو قيل : إلا مسلمين لم يُفِدْ بفائدتها . والعاملُ في الحال ما قبل { إِلا } بعد النقض ، وظاهرُ النظمِ الكريم -وإن كان نهياً عن الموت المقيَّد بقيدٍ هو الكونُ على أي حالٍ غيرِ حالِ الإسلام- لكنَّ المقصودَ هو النهيُ عن ذلك القيدِ عند الموتِ المستلزمِ للأمر بضده الذي هو الكونُ على حال الإسلامِ حينئذ ، وحيث كان الخطابُ للمؤمنين كان المرادُ إيجابَ الثباتِ على الإسلام إلى الموت ، وتوجيهُ النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكورِ ، فإن النهيَ عن القيَّد في أمثاله نهيٌ عن القيد ورفعٌ له من أصله بالكلية ، مفيدٌ لما لا يفيده النهيُ عن نفس القيدِ ، فإن قولَك : لا تُصلِّ إلا وأنت خاشعٌ يفيد في المبالغة في إيجاب الخشوعِ في الصلاة ما لا يفيده قولُك : لا تترُكِ الخشوعِ في الصلاة ، لما أن هذا نهيٌ عن ترك الخشوعِ فقط وذاك نهيٌ عنه وعما يقارِنُه ومفيدٌ لكون الخشوعِ هو العمدةَ في الصلاة وأن الصلاةَ بدونه حقُّها أن لا تُفعل ، وفيه نوعُ تحذيرٍ عما وراءَ الموتِ .