محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ} (102)

102

( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون102 ) .

( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ) أي حق تقواه ، وذلك بدوام خشيته ظاهرا وباطنا والعمل بموجبها . وقد روى الحافظ ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود أنه قال في معنى الآية . " هو أن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر " . ورواه ابن مردويه والحاكم مرفوعا ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .

قال ابن كثير : والأظهر أنه موقوف –والله أعلم- .

وروي عن أنس أنه قال : " لا يتقي العبد الله حق تقاته حتى يخزن لسانه " . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية : " أن يجاهدوا في سبيل الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم . ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم " .

أقول : كل ما روي ، مما تشمله الآية بعمومها ، فلا تنافي .

تنبيه :

زعم بعضهم أن هذه الجملة من الآية منسوخة بآية : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) متأولا حق تقاته بأن يأتي العبد بكل ما يجب لله ويستحقه . قال : فهذا يعجز العبد عن الوفاء ، فتحصيله ممتنع . وهذا الزعم لم يصب المحز ، فان كلا من الآيتين سيق في معنى خاص به ، / فلا يتصور أن يكون في هذه الجملة طلب ما لا يستطاع من التقوى ، بل المراد منها دوام الإنابة له تعالى وخشيته وعرفان جلاله وعظمته قلبا وقالبا ، كما بينا . وهذا من المستطاع لكل منيب . وقوله تعالى : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) . أمر بعبادته قدر الاستطاعة بلا تكليف لما لا يطاق ، إذ : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) . وظاهر أن من أتى بما يستطيعه من عبادته تعالى وأناب لجلاله ، وأخلص في أعماله ، وكان مشفقا في طاعته ، فقد اتقى الله حق تقاته . ( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) أي مخلصون نفوسكم لله تعالى . لا تجعلون فيها شراكة لما سواه أصلا ، كما في قوله تعالى : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ) . وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي لا تموتن على حال من الأحوال ، إلا حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه ، كما ينبئ عنه الجملة الاسمية . ولو قيل ( إلا مسلمين ) لم يفد فائدتها . والعامل في الحال ما قبل ( إلا ) بعد النقض . وظاهر النظم الكريم ، وان كان نهيا عن الموت المقيد بقيد ، هو الكون على حال غير حال الإسلام –لكن المقصود هو النهي عن ذلك القيد عند الموت المستلزم للأمر بضده الذي هو الكون على حال الإسلام حينئذ . وحيث كان الخطاب للمؤمنين ، كان المراد إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت . وتوجيه النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكور . فان النهي عن المقيد في أمثاله ، نهي عن القيد ورفع له من أصله بالكلية ، مفيد لما لا يفيده النهي عن نفس القيد . فان قولك : لا تصل إلا وأنت / خاشع ، يفيد من المبالغة في إيجاب الخشوع في الصلاة ما لا يفيده قولك : لا تترك الخشوع في الصلاة . لما أن هذا النهي عن ترك الخشوع فقط ، وذاك حقها أن لا تفعل . وفيه نوع تحذير عما وراء الموت –أفاده أبو السعود- .

وقد مضى في سورة البقرة الكلام على لون آخر من سر البلاغة في هذه الجملة .