لما حذر المؤمنين من إضْلال الكفَّارِ ، أمرهم في هذه الآياتِ بمجامع الطاعات ، فأمرهم - أولاً - بتقوى الله ، وثانياً - بالاعتصام بحبل الله ، وثالثاً - بالاجتماع والتأليف ، ورابعاً - بالترغيب بقوله : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } .
والسبب في هذا الترتيب أن فِعْلَ الإنسان ، لا بد وأن يكون مُعَلَّلاً إما بالرهبة ، وإما بالرغبة ، والرهبة مقدمة على الرغبة ؛ لأن دَفْع الضرر مقدَّمٌ على جَلْب النَّفْع ، فقوله : { اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } إشارة إلى التخويف من عقاب الله ، ثم جعله سبباً للتمسك بدين الله والاعتصام بحبله ، ثم أرْدَفَه بالرغبة ، فقال : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } فكأنه قال : خَوْف الله يوجب ذلك ، وكثرة نعم الله توجب ذلك ، فلم تَبْقَ جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله تعالى ، ووجوب طاعتكم لحكمه .
قال بعض العلماء : هذه الآية منسوخة ؛ لما روي عن ابن عباس أنه لمَّا نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين ؛ لأن حقَّ تقاته أن يُطَاعَ فلا يُعْصَى طرفة عين ، وأن يُشْكَر فلا يُكفر ، وأن يذكر فلا ينسى - والعباد لا طاقة لهم بذلك ، فنزل : { فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ، فنسخت أول هذه الآيةِ{[5749]} ، ولم ينسخ آخرها ، وهو قوله : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } وقال جمهور المحقِّقين : إن القول بهذا النسخ باطلٌ ؛ لما روي عن معاذ أنه صلى الله عليه وسلم قال : " أتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ على الله " ؟ فقلت : اللهُ ورسولُه أعْلَمُ . قال : " حَقُّ الله على العِبَادِ أن يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ، وحَقُّ العِبَادِ على اللهِ ألا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً " قلت : يا رسول الله ، أفلا أبَشر الناسَ ؟ قال : " لا تبشرهم فيتَّكلوا{[5750]} " . وهذا لا يجوز أن يُنْسخَ ؛ ولأن معنى قوله : { اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } أي : كما يحق أن يتقى ، وذلك بأن تُجْتَنَبَ جميع معاصيه ، ومثل هذا لا يجوز أن يُنْسخ ؛ لأنه إباحة لبعض المعاصي ، وإذا كان كذلك صار معنى هذه الآية ومعنى قوله :
{ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] واحداً ؛ لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته ؛ ولأن حق تقاته ما استطاع من التقوى ؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها والوسع دون الطاقة ، ونظير هذه الآية قوله : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [ الحج : 78 ] .
فإن قيل : أليس قد قال تعالى : { وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [ الأنعام : 91 ] ؟
فالجواب : أن هذه الآية وردت في ثلاثة مواضع في القرآن ، وكلها في صفة الكفار ، لا في صفة المسلمين ، وأما الذين قالوا : إن المراد هو أن يُطاع فلا يُعصى فهذا صحيح ، والذي يصدر عن الإنسان كان سَهْواً ، أو نِسْيَاناً فغير قادح فيه ؛ لأن التكليف مرفوع عنه في هذه الأحوال ، وكذلك قوله : أن يشكر فلا يكفر ؛ لأن ذلك واجب عليه عند حضور نعم الله بالبال ، فأما عند السهو فلا يجب ، وكذلك قوله : أن يذكر فلا يُنْسَى ، فإن ذلك واجب عند الدعاء والعبادة ، وكل ذلك مما يطاق ، فلا وَجْهَ للقول بالنسخ .
وقوله : { حَقَّ تُقَاتِهِ } أي : كما يجب أن يُتَّقَى ، والتقى اسم للفعل - من قولك : اتقيت - كما أن الهُدَى اسم الفعل من قولك : اهتديت .
قوله : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } نَهْي في الصورة عن موتهم إلا على هذه الحالة ، والمراد : دوامهم على الإسلام ؛ وذلك أن الموت لا بدّ منه ، فكأنه قال : دوموا على الإسلام إلى الموت ، وقريب منه ما حَكَى سيبويه : لا أرَيَنَّكَ هَاهُنا ، أي : لا تكن بالحضرة ، فتقع عليك رؤيتي ، والجملة من قوله : { وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } في محل نصب على الحال ، والاستثناء مُفَرَّغ من الأحوال العامة ، أي : لا تموتن على حالة من سائر الأحوال إلا على هذه الحال الحسنةِ ، وجاء بها جملةً اسميةً ؛ لأنها أبلغ وآكد ؛ إذْ فيها ضمير متكرر ، ولو قيل : إلا مسلمين لم يُفِدْ هذا التأكيد وتقدم إيضاح هذا التركيب في البقرة عند قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } [ البقرة : 132 ] بل دل على الاقتران بالموت لا متقدِّماً ولا متأخراً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.