اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ} (102)

لما حذر المؤمنين من إضْلال الكفَّارِ ، أمرهم في هذه الآياتِ بمجامع الطاعات ، فأمرهم - أولاً - بتقوى الله ، وثانياً - بالاعتصام بحبل الله ، وثالثاً - بالاجتماع والتأليف ، ورابعاً - بالترغيب بقوله : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } .

والسبب في هذا الترتيب أن فِعْلَ الإنسان ، لا بد وأن يكون مُعَلَّلاً إما بالرهبة ، وإما بالرغبة ، والرهبة مقدمة على الرغبة ؛ لأن دَفْع الضرر مقدَّمٌ على جَلْب النَّفْع ، فقوله : { اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } إشارة إلى التخويف من عقاب الله ، ثم جعله سبباً للتمسك بدين الله والاعتصام بحبله ، ثم أرْدَفَه بالرغبة ، فقال : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } فكأنه قال : خَوْف الله يوجب ذلك ، وكثرة نعم الله توجب ذلك ، فلم تَبْقَ جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله تعالى ، ووجوب طاعتكم لحكمه .

فصل

قال بعض العلماء : هذه الآية منسوخة ؛ لما روي عن ابن عباس أنه لمَّا نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين ؛ لأن حقَّ تقاته أن يُطَاعَ فلا يُعْصَى طرفة عين ، وأن يُشْكَر فلا يُكفر ، وأن يذكر فلا ينسى - والعباد لا طاقة لهم بذلك ، فنزل : { فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ، فنسخت أول هذه الآيةِ{[5749]} ، ولم ينسخ آخرها ، وهو قوله : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } وقال جمهور المحقِّقين : إن القول بهذا النسخ باطلٌ ؛ لما روي عن معاذ أنه صلى الله عليه وسلم قال : " أتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ على الله " ؟ فقلت : اللهُ ورسولُه أعْلَمُ . قال : " حَقُّ الله على العِبَادِ أن يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ، وحَقُّ العِبَادِ على اللهِ ألا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً " قلت : يا رسول الله ، أفلا أبَشر الناسَ ؟ قال : " لا تبشرهم فيتَّكلوا{[5750]} " . وهذا لا يجوز أن يُنْسخَ ؛ ولأن معنى قوله : { اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } أي : كما يحق أن يتقى ، وذلك بأن تُجْتَنَبَ جميع معاصيه ، ومثل هذا لا يجوز أن يُنْسخ ؛ لأنه إباحة لبعض المعاصي ، وإذا كان كذلك صار معنى هذه الآية ومعنى قوله :

{ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] واحداً ؛ لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته ؛ ولأن حق تقاته ما استطاع من التقوى ؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها والوسع دون الطاقة ، ونظير هذه الآية قوله : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [ الحج : 78 ] .

فإن قيل : أليس قد قال تعالى : { وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [ الأنعام : 91 ] ؟

فالجواب : أن هذه الآية وردت في ثلاثة مواضع في القرآن ، وكلها في صفة الكفار ، لا في صفة المسلمين ، وأما الذين قالوا : إن المراد هو أن يُطاع فلا يُعصى فهذا صحيح ، والذي يصدر عن الإنسان كان سَهْواً ، أو نِسْيَاناً فغير قادح فيه ؛ لأن التكليف مرفوع عنه في هذه الأحوال ، وكذلك قوله : أن يشكر فلا يكفر ؛ لأن ذلك واجب عليه عند حضور نعم الله بالبال ، فأما عند السهو فلا يجب ، وكذلك قوله : أن يذكر فلا يُنْسَى ، فإن ذلك واجب عند الدعاء والعبادة ، وكل ذلك مما يطاق ، فلا وَجْهَ للقول بالنسخ .

وقوله : { حَقَّ تُقَاتِهِ } أي : كما يجب أن يُتَّقَى ، والتقى اسم للفعل - من قولك : اتقيت - كما أن الهُدَى اسم الفعل من قولك : اهتديت .

قوله : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } نَهْي في الصورة عن موتهم إلا على هذه الحالة ، والمراد : دوامهم على الإسلام ؛ وذلك أن الموت لا بدّ منه ، فكأنه قال : دوموا على الإسلام إلى الموت ، وقريب منه ما حَكَى سيبويه : لا أرَيَنَّكَ هَاهُنا ، أي : لا تكن بالحضرة ، فتقع عليك رؤيتي ، والجملة من قوله : { وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } في محل نصب على الحال ، والاستثناء مُفَرَّغ من الأحوال العامة ، أي : لا تموتن على حالة من سائر الأحوال إلا على هذه الحال الحسنةِ ، وجاء بها جملةً اسميةً ؛ لأنها أبلغ وآكد ؛ إذْ فيها ضمير متكرر ، ولو قيل : إلا مسلمين لم يُفِدْ هذا التأكيد وتقدم إيضاح هذا التركيب في البقرة عند قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } [ البقرة : 132 ] بل دل على الاقتران بالموت لا متقدِّماً ولا متأخراً .


[5749]:ورود النسخ روي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والربيع بن أنس وابن زيد. فأخرجه الطبري في "تفسيره" (7/68- 69) عن قتادة والربيع وابن زيد وأخرجه ابن مردويه كما في "الدر المنثور" (2/16) عن عبد الله بن مسعود وأخرجه عبد بن حميد وابن مردويه كما في "الدر المنثور" (2/106) عن ابن عباس وأخرجه عبد بن حميد كما في "الدر المنثور" (2/106) عن عكرمة وأخرجه ابن أبي حاتم في "الدر المنثور" (2/106- 107) عن سعيد بن جبير.
[5750]:أخرجه البخاري (9/204) كتاب التوحيد باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته... الخ رقم (7373) ومسلم كتاب الإيمان (50) وأحمد (228، 230، 234، 236) والترمذي (2643) عن معاذ بن جبل.