البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ} (102)

{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } .

لما حذرهم تعالى من إضلال مَنْ يريدُ إضلالهم ، أمرهم بمجامع الطاعات ، فرهبهم أولاً بقوله : اتقوا الله ، إذ التقوى إشارة إلى التخويف من عذاب الله ، ثم جعلها سبباً للأمر بالاعتصام بدين الله ، ثم أردف الرهبة بالرغبة ، وهي قوله : { واذكروا نعمة الله عليكم } وأعقب الأمر بالتقوى والأمر بالاعتصام بنهي آخر هو من تمام الاعتصام .

قال ابن مسعود ، والربيع ، وقتادة ، والحسن : حق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر .

وروي مرفوعاً .

وقيل : حق تقاته اتقاء جميع معاصيه .

وقال قتادة ، والسدي ، وابن زيد ، والربيع : هي منسوخة بقوله : { فاتقوا الله ما استطعتم } أمروا أولاً بغاية التقوى حتى لا يقع إخلال بشيء ثم نسخ .

وقال ابن عباس ، وطاوس : هي محكمة .

{ واتقوا الله ما استطعتم } بيان لقوله : اتقوا الله حق تقاته .

وقيل : هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه .

وقيل : لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه .

وقال ابن عباس : المعنى جاهدوا في الله حق جهاده .

وقال الماتريدي : وفي حرف حفصة اعبدوا الله حق عبادته .

وتقاة هنا مصدر ، وتقدم الكلام عليه في

{ إلا أن تتقوا منهم تقاة } قال ابن عطية : ويصح أن يكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل وإنْ كان لم يتصرف منه ، فيكون : كرماة ورام ، أو يكون جمع تقي ، إحد فعيل وفاعل بمنزلة .

والمعنى على هذا : اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به ، ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى انتهى كلامه .

وهذا المعنى ينبو عنه هذا اللفظ ، إذ الظاهر أنّ قوله : حقّ تقاته من باب إضافة إلى موصوفها ، كما تقول : ضربت زيداً شديد الضرب ، أي الضرب الشديد .

فكذلك هذا أي اتقوا الله الاتقاء الحق ، أي الواجب الثابت .

أما إذا جعلت التقاة جمعاً فإنَّ التركيب يصير مثل : اضرب زيداً حق ضرابه ، فلا يدل هذا التركيب على معنى : اضرب زيداً كما يحق أن يكون ضرابه .

بل لو صرح بهذا التركيب لاحتيج في فهم معناه إلى تقدير أشياء يصح بها المعنى ، والتقدير : اضرب زيداً ضرباً حقاً كما يحق أن يكون ضرب ضرابه .

ولا حاجة تدعو إلى تحميل اللفظ غير ظاهره وتكلف تقادير يصح بها معنى لا يدل عليه ظاهر اللفظ .

{ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ظاهره النهي عن أن يموتوا إلا وهم متلبسون بالإسلام .

والمعنى : دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه .

ونظيره ما حكى سيبويه من قولهم : لا أرينك ههنا ، وإنما المراد لا تكن هنا فتكون رؤيتي لك .

وقد تقدم لنا الكلام على هذا المعنى مستوفى في سورة البقرة في قوله : { إن الله اصطفى لكم الدّين } الآية والجملة من قوله : وأنتم مسلمون حالية ، والاستثناء مفرع من الأحوال .

التقدير : ولا تموتن على حال من الأحوال إلا على حالة الإسلام .

ومجيئُها إسمية أبلغُ لتكرر الضمير ، وللمواجهة فيها بالخطاب .

وزعم بعضهم أنَّ الأظهر في الجملة أن يكون الحال حاصلة قبل ، ومستصحبة .

وأمّا لو قيل : مسلمين ، لدلَّ على الاقتران بالموت لا متقدماً ولا متأخراً .