ويضرب اللّه لهم المثل من الواقع التاريخي الذي يعلمونه ، على نصرة اللّه لرسوله بلا عون منهم ولا ولاء ، والنصر من عند اللّه يؤتيه من يشاء :
( إلا تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الذين كفروا ، ثاني اثنين إذ هما في الغار . إذ يقول لصاحبه : لا تحزن إن اللّه معنا . فأنزل اللّه سكينته عليه ، وأيده بجنود لم تروها ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة اللّه هي العليا ، واللّه عزيز حكيم )
ذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعاً ، كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق ، لا تملك لها دفعاً ، ولا تطيق عليها صبراً ، فائتمرت به ، وقررت أن تتخلص منه ؛ فأطلعه اللّه على ما ائتمرت ، وأوحى إليه بالخروج ، فخرج وحيداً إلا من صاحبه الصدّيق ، لا جيش ولا عدة ، وأعداؤه كثر ، وقوتهم إلى قوته ظاهرة . والسياق يرسم مشهد الرسول - [ ص ] - وصاحبه :
والقوم على إثرهما يتعقبون ، والصديق - رضي اللّه عنه - يجزع - لا على نفسه ولكن على صاحبه - أن يطلعوا عليهما فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب ، يقول له : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه . والرسول - [ ص ] - وقد أنزل اللّه سكينته على قلبه ، يهدئ من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما ? " .
ثم ماذا كانت العاقبة ، والقوة المادية كلها في جانب ، والرسول - [ ص ] - مع صاحبه منها مجرد ? كان النصر المؤزر من عند اللّه بجنود لم يرها الناس . وكانت الهزيمة للذين كفروا والذل والصغار :
( وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ) .
وظلت كلمة اللّه في مكانها العالي منتصرة قوية نافذة :
وقد قرئ ( وكلمة اللّه )بالنصب . ولكن القراءة بالرفع أقوى في المعنى . لأنها تعطي معنى التقرير . فكلمة اللّه هي العليا طبيعة وأصلاً ، بدون تصيير متعلق بحادثة معينة . واللّه( عزيز )لا يذل أولياؤه( حكيم )يقدر النصر في حينه لمن يستحقه .
ذلك مثل على نصرة اللّه لرسوله ولكلمته ؛ واللّه قادر على أن يعيده على أيدي قوم آخرين غير الذين يتثاقلون ويتباطأون . وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجة بعد قول اللّه إلى دليل !
يقول تعالى : { إِلا تَنْصُرُوهُ } أي : تنصروا رسوله ، فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه ، كما تولى نصره { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ [ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ] } {[13513]} أي : عام الهجرة ، لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه ، فخرج منهم هاربًا صحبة صدِّيقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة ، فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطَّلَبُ الذين خرجوا في آثارهم ، ثم يسيرا نحو المدينة ، فجعل أبو بكر ، رضي الله عنه ، يجزع أن يَطَّلع عليهم أحد ، فيخلص إلى الرسول ، عليه السلام{[13514]} منهم أذى ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يُسَكِّنه ويَثبِّته ويقول : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا همام ، أنبأنا ثابت ، عن أنس أن أبا بكر حدثه قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن في الغار : لو أن أحدهم{[13515]} نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه . قال : فقال : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما " .
أخرجاه في الصحيحين{[13516]} ولهذا قال تعالى : { فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أي : تأييده ونصره عليه ، أي : على الرسول في أشهر القولين : وقيل : على أبي بكر ، وروي عن ابن عباس وغيره ، قالوا : لأن الرسول لم تزل معه سكينة ، وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ؛ ولهذا قال : { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } أي : الملائكة ، { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا }
قال ابن عباس : يعني { كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا } الشرك و { كَلِمَةُ اللَّهِ } هي : لا إله إلا الله .
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حَمِيَّة ، ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " {[13517]} وقوله : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي : في انتقامه وانتصاره ، منيع الجناب ، لا يُضام من لاذ ببابه ، واحتمى بالتمسك بخطابه ، { حَكِيمٌ } في أقواله وأفعاله .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِلاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيّدَهُ بِجُنُودٍ لّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُواْ السّفْلَىَ وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
وهذا إعلام من الله أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم ، أعانوه أو لم يعينوه ، وتذكير منه لهم فعل ذلك به ، وهو من العدد في قلة والعدوّ في كثرة ، فكيف به وهو من العدد في كثرة والعدوّ في قلّة ؟ يقول لهم جلّ ثناؤه : إلا تنفروا أيها المؤمنون مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه ، فالله ناصره ومعينه على عدوّه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم كما نصره إذ أخرجه الذين كفروا بالله من قريش من وطنه وداره ثانِيَ اثْنَيْنِ يقول : أخرجوه وهو أحد الاثنين : أي واحد من الاثنين ، وكذلك تقول العرب : «هُوَ ثانِيَ اثْنَيْنِ » يعني أحد الاثنين ، وثالث ثلاثة ، ورابع أربعة ، يعني : أحد ثلاثة ، وأحد الأربعة ، وذلك خلاف قولهم : هو أخو ستة وغلام سبعة ، لأن الأخ والغلام غير الستة والسبعة ، وثالث الثلاثة : أحد الثلاثة . وإنما عنى جلّ ثناؤه بقوله : ثانِيَ اثْنَيْنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ، رضي الله عنه ، لأنهما كانا اللذين خرجا هاربين من قريش ، إذ همّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار . وقوله : إذْ هُما فِي الغارِ يقول إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رحمة الله عليه في الغار والغار : النقب العظيم يكون في الجبل . إذ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ يقول : إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر : لا تَحْزَنْ وذلك أنه خاف من الطلب أن يعلموا بمكانهما ، فجزع من ذلك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لاَ تَحْزَنْ لأنّ اللّهَ مَعَنا ، واللّهُ ناصِرُنا ، فَلَنِ يَعْلَمَ المُشْرِكُونَ بِنا ، وَلَنْ يَصِلُوا إلَيْنَا يقول جلّ ثناؤه : فقد نصره الله على عدوّه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد ، فكيف يخذله ويحوجه إليكم وقد كثر الله أنصاره وعدد جنوده ؟ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ تَنْصُرُوهُ ذكر ما كان في أوّل شأنه حين بعثه يقول الله : فأنا فاعل ذلك به وناصره كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : إلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ قال : ذكر ما كان في أوّل شأنه حين بعث ، فالله فاعل به كذلك ناصره كما نصره إذا ذاك ثانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الغارِ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ . . . الآية ، قال : فكان صاحبه أبو بكر . وأما الغار : فجبل بمكة يقال له ثور .
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة ، قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه ، وكان لأبي بكر منيحة من غنم تروح على أهله ، فأرسل أبو بكر عامر بن فُهيرة في الغنم إلى ثور ، وكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلم بالغار في قور ، وهو الغار الذي سماه الله في القرآن .
حدثني يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي ، قال : حدثنا عفان وحبان ، قالا : حدثنا همام ، عن ثابت عن أنس ، أن أبا بكر رضي الله عنه حدثهم ، قال : بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ، وأقدام المشركين فوق رُءُوسِنَا ، فقلت : يا رسول الله ، لو أن أحدهم رفع قدمه أبصرنا فقال : «يا أبا بَكْرٍ ما ظَنّكَ باثْنَيْنِ اللّهُ ثَالِثَهُما » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، قال : مكث أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري : إذْ هُما فِي الغارِ قال : في الجبل الذي يسمى ثورا ، مكث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثلاث ليال .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبيه : أن أبا بكر الصديق رحمة الله تعالى عليه حين خطب قال : أيكم يقرأ سورة التوبة ؟ قال رجل : أنا ، قال : اقرأ فلما بلغ : إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ بكى أبو بكر وقال : أنا والله صاحبه .
القول في تأويل قوله تعالى : فأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وأيّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَة الّذِينَ كَفَروُا السّفْلَى وكلمةٌ اللّهِ هِيَ العُلْيا واللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .
يقول تعالى ذكره : فأنزل الله طمأنينته وسكونه على رسوله وقد قيل : على أبي بكر وأيّدهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا يقول : وقوّاه بجنود من عنده من الملائكة لم تروها أنتم . وَجَعَلَ كِلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا وهي كلمة الشرك السّفْلَى لأنها قُهرت وأذّلت وأبطلها الله تعالى ومحق أهلها ، وكلّ مقهور ومغلوب فهو أسفل من الغالب والغالب هو الأعلى . وكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ العْلْيَا يقول : ودين الله وتوحيده وقول لا إله إلا الله ، وهي كلمته العليا على الشرك وأهله ، الغاليةُ . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا السّفْلَى وهي : الشرك بالله . وكَلِمَةُ اللّهُ هِيَ العُلْيا وهي لا إله إلا الله .
وقوله : وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ العُليا خبر مبتدأ غير مردود على قوله : وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا السّفْلَى لأن ذلك لو كان معطوفا على الكلمة الأولى لكان نصبا .
وأما قوله : واللّهُ عَزِيرٌ حَكِيمٌ فإنه يعني : والله عزيز في انتقامه من أهل الكفر به ، لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب ولا ينصره من عاقبه ناصر ، حكيم في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم في مشيئته .
{ إلا تنصروه فقد نصره الله } أي إن لم تنصروه فسينصره الله كما نصره . { إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين } ولم يكن معه إلا رجل واحد ، فحذف الجزاء وأقيم ما هو كالدليل عليه مقامه ، أو إن لم تنصروه فقد أوجب الله له النصر حتى نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذله في غيره ، وإسناد الإخراج إلى الكفرة لأن همهم بإخراجه أو قتله تسبب لإذن الله له بالخروج . وقرئ { ثاني اثنين } بالسكون على لغة من يجري المنقوص مجرى المقصور في الإعراب ونصبه على الحال . { إذ هما في الغار } بدل من إذ أخرجه بدل البعض إذ المراد به زمان متسع ، والغار نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثا فيه ثلاثا . { إذ يقول } بدل ثان أو ظرف لثاني . { لصاحبه } وهو أبو بكر رضي الله تعالى عنه { لا تحزن إن الله معنا } بالعصمة والمعونة . روي ( أن المشركين طلعوا فوق الغار فأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ، فأعماهم الله عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه ) . وقيل لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه . { فأنزل الله سكينته } أمنته التي تسكن عندها القلوب . { عليه } على النبي صلى الله عليه وسلم ، أو على صاحبه وهو الأظهر لأنه كان منزعجا . { وأيّده بجنود لم تروها } يعني الملائكة أنزلهم ليحرسوه في الغار أو ليعينوه على العدو يوم بدر والأحزاب وحنين ، فتكون الجملة معطوفة على قوله { نصره الله } . { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } يعني الشرك أو دعوة الكفر . { وكلمة الله هي العليا } يعني التوحيد أو دعوة الإسلام ، والمعنى وجعل ذلك بتخليص الرسول صلى الله عليه وسلم عن أيدي الكفار إلى المدينة فإنه المبدأ له ، بتأييده إياه بالملائكة في هذه المواطن أو بحفظه ونصره له حيث حضر . وقرأ يعقوب { وكلمة الله } بالنصب عطفا على كلمة { الذين } ، والرفع أبلغ لما فيه من الإشعار بأن { كلمة الله } عالية في نفسها وإن فاق غيرها فلا ثبات لتفوقه ولا اعتبار ولذلك وسط الفصل . { والله عزيز حكيم } في أمره وتدبيره .
هذا أيضاً شرط وجواب والجواب في الفاء من قوله { فقد } وفيما بعدها ، قال النقاش : هذه أول آية نزلت من سورة براءة ، ومعنى الآية أنكم إن تركتم نصره فالله متكفل به ، إذ فقد نصره في موضع القلة والانفراد وكثرة العدو ، فنصره إياه اليوم أحرى منه حينئذ ، وقوله { إذ أخرجه الذين كفروا } يريد فعلوا من الأفاعيل ما أدى إلى خروجه ، وأسند الإخراج إليهم إذ المقصود تذنيبهم ، ولما كان مقصد أبي سفيان بن الحارث الفخر في قوله : من طردت كل مطرد ، لم يقرره النبي صلى الله عليه وسلم ، والإشارة إلى خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وفي صحبته أبو بكر ، واختصار القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينتظر أمر الله عز وجل في الهجرة من مكة ، وكان أبو بكر حين ترك ذمة ابن الدغنة قد أراد الخروج من مكة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «اصبر فلعل الله أن يسهل في الصحبة » ، فلما أذن الله لرسوله في الخروج تجهز من دار أبي بكر وخرجا فبقيا في الغار الذي في جبل ثور في غربي مكة ثلاث ليال ، وخرج المشركون في أثرهم حتى انتهو إلى الغار ، فطمس عليهم الأثر ، وقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم : لو نظر أحدهم لقدمه لرآنا ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «ما ظنك باثنين الله ثالثهما » .
ويروى أن العنكبوت نسجت على باب الغار ، ويروى أن الحمامة عششت عند باب الغار ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يجعل ثماماً{[5655]} في باب الغار فتخيله المشركون نابتاً وصرفهم الله عنه ، ووقع في الدلائل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه نبتت على باب الغار«راءة » أمرها الله بذلك في الحين ، قال الأصمعي : جمعها راء وهي نبات من السهل .
وروي أن أبا بكر لما دخل الغار خرق رداءه فسدَّ به كواء{[5656]} الغار لئلا يكون فيها حيوان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم .
وروي أنه بقيت واحدة فسدها برجله فوقى الله تعالى ، وكان يروح عليهما باللبن عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ، وقوله { ثاني اثنين } معناه أحد اثنين ، وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة فإذا اختلف اللفظ فقلت رابع ثلاثة فالمعنى صير الثلاثة بنفسه أربعة ، وقرأ جمهور الناس «ثانيَ اثنين » بنصب الياء من «ثاني » .
قال أبو حاتم : لا يعرف غير هذا وقرأت فرقة «ثاني اثنين » بسكون الياء من ثاني ، قال أبو الفتح : حكاها أبو عمرو بن العلاء ، ووجهه أنه سكن الياء تشبيهاً لها بالألف .
قال القاضي أبو محمد : فهذه كقراءة ما بقي من الربا{[5657]} وكقوله جرير : [ البسيط ]
هو الخليفةُ فارضوا ما رضي لكمُ*** ماضي العزيمة ما في حكمه جنف{[5658]}
و «صاحبه » أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وروي أن أبا بكر الصديق قال يوماً وهو على المنبر : أيكم يحفظ سورة التوبة ، فقال رجل أنا ، فقال اقرأ فقرأ ، فلما انتهى إلى قوله { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } بكى وقال أنا والله صاحبه ، وقال الليث : ما صحب الأنبياء مثل أبي بكر الصديق ، وقال سفيان بن عيينة : خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله : { إلا تنصروه } .
قال القاضي أبو محمد : أقول بل خرج منها كل من شاهد غزوة تبوك ولم يتخلف ، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط ، أما إن هذه الآية منوهة بأبي بكر حاكمة بقدمه وسابقته في الإسلام رضي الله عنه ، وقوله : { إن الله معنا } يريد به النصر والإنجاء واللطف{[5659]} ، وقوله تعالى : { فأنزل الله سكينته عليه } الآية ، قال حبيب بن أبي ثابت : الضمير في { عليه } عائد على أبي بكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل ساكن النفس ثقة بالله عز وجل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول من لم ير السكينة إلا سكون النفس والجأش ، وقال جمهور الناس : الضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أقوى ، و «السكينة » عندي إنما هي ما ينزله الله على أنبيائه من الحياطة لهم والخصائص التي لا تصلح إلا لهم{[5660]} ، كقوله تعالى : { فيه سكينة من ربكم }{[5661]} ويحتمل أن يكون قوله { فأنزل الله سكينته } إلى آخر الآية يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح لا أن تكون هذه الآية تختص بقصة الغار والنجاة إلى المدينة ، فعلى هذا تكون «الجنود » الملائكة النازلين ببدر وحنين ، ومن رأى أن الآية مختصة بتلك القصة قال «الجنود » ملائكة بشروه بالنجاة وبأن الكفار لا ينجح لهم سعي ، وفي مصحف حفصة «فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما » ، وقرأ مجاهد «وأأيده » بألفين ، والجمهور «وأيّده » بشد الياء ، وقوله : { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } يريد بإدحارها ودحضها وإذلالها ، { وكلمة الله هي العليا } قيل : يريد لا إله الا الله ، وقيل :الشرع بأسره ، وقرأ جمهور الناس «وكلمةُ » بالرفع على الابتداء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ويعقوب «وكلمةَ » بالنصب على تقدير وجعل كلمة ، قال الأعمش : ورأيت في مصحف أنس بن مالك المنسوب إلى أبيّ بن كعب «وجعل كلمته هي العليا » .
إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا }
استئناف بياني لقوله : { ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير } [ التوبة : 39 ] لأنّ نفي أن يكون قعودهم عن النفير مُضرّاً بالله ورسولِه ، يثير في نفس السامع سؤالاً عن حصول النصر بدون نصير ، فبيّن بأنّ الله ينصره كما نصره حين كان ثاني اثنين لا جيش معه ، فالذي نصره حين كان ثاني اثنين قدير على نصره وهو في جيش عظيم ، فتبيّن أنّ تقدير قعودهم عن النفير لا يضرّ الله شيئاً .
والضمير المنصوب ب { تنصروه } عائِد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يتقدّم له ذكر ، لأنّه واضح من المقام .
وجملة { فقد نصره الله } جواب للشرط ، جعلت جواباً له لأنّها دليل على معنى الجواب المقدَّر لِكونها في معنى العلّة للجواب المحذوف : فإنّ مضمون { فقد نصره الله } قد حصل في الماضي فلا يكون جواباً للشرط الموضوع للمستقبل ، فالتقدير : إن لا تنصروه فهو غني عن نصرتكم بنصر الله إيّاه إذ قد نصره في حين لم يكن معه إلا واحد لا يكون به نصر فكما نصره يومئذٍ ينصره حين لا تنصرونه . وسيجيء في الكلام بيان هذا النصر بقوله : { فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها } الآية .
ويتعلّق { إذ أخرجه } ب { نَصَره } أي زمنَ إخراج الكفارِ إيّاه ، أي من مكة ، والمراد خروجه مهاجراً . وأسند الإخراج إلى الذين كفروا لأنّهم تسببوا فيه بأن دبّروا لخروجه غير مرّة كما قال تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } [ الأنفال : 30 ] ، وبأن آذوه وضايقوه في الدعوة إلى الدين ، وضايقوا المسلمين بالأذى والمقاطعة ، فتوفّرت أسباب خروجه ولكنّهم كانوا مع ذلك يتردّدون في تمكينه من الخروج خشية أن يظهر أمر الإسلام بين ظهراني قوم آخرين ، فلذلك كانوا في آخر الأمر مصمّمين على منعه من الخروج ، وأقاموا عليه من يرقبه وحاولوا الإرسال وراءه ليردّوه إليهم ، وجعلوا لمن يظفر به جزاءً جَزلاً ، كما جاء في حديث سُراقة بن جُعْشُم .
كتب في المصاحف { إلاَّ } من قوله : { إلا تنصروه } بهمزة بعدها لام ألف ، على كيفية النطق بها مدغمةً ، والقياس أن تكتب ( إنْ لا ) بهمزة فنون فلام ألف لأنّهما حرفان : ( إنْ ) الشرطية و ( لا ) النافية ، ولكنَّ رسم المصحف سنّة متبعة ، ولم تكن للرسم في القرن الأول قواعد متّفق عليها ، ومثل ذلك كتب { إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض } في سورة الأنفال ( 73 ) . وهم كتبوا قوله : { بل ران } في سورة المطففين ( 14 ) بلام بعد الباء وراء بعدها ، ولم يكتبوها بباء وراء مشدّدة بعدها .
وقد أثار رسم { إلا تنصروه } بهذه الصورة في المصحف خشية تَوَهُّم مُتوهّم أنّ { إلاّ } هي حرف الاستثناء فقال ابن هشام في « مغني اللبيب » : « تنبيه ليس من أقسام ( إلاّ ) ، ( إلاّ ) التي في نحو { إلا تنصروه فقد نصره الله } وإنّما هذه كلمتان ( إن ) الشرطية و ( لا ) النافية ، ومن العجب أن ابن مالك على إمامته ذكرها في « شرح التسهيل » من أقسام إلاّ ، ولم يتبعه الدماميني في شروحه الثلاثة على « المغني » ولا الشمني .
وقال الشيخ محمد الرصاع في كتاب « الجامع الغريب لترتيب آي مغني اللبيب » « وقد رأيت لبعض أهل العصر المشارقة ممن اعتنى بشرح هذا الكتاب أي « التسهيل » أخذ يعتذر عن ابن مالك والانصاف أنّ فيه بعض الإشكال » . وقال الشيخ محمد الأمير في تعليقه على « المغني » « ليس ما في « شرح التسهيل » نصّاً في ذلك وهو يُوهمه فإنّه عَرَّف المستثنى بالمخرَج ب ( إلاّ ) وقال « واحترزتُ عن ( إلا ) بمعنى إنْ لم ومثَّل بالآية ، أي فلا إخراج فيها » . وقلت عبارة متن « التسهيل » « المستثنى هو المخرج تحقيقاً أو تقديراً من مذكور أو متروك بإلا أو ما بمعناها » ، ولم يعرّج شارحه المُرادي ولا شارحه الدماميني على كلامه الذي احترز به في شرحه ولم نقف على شرح ابن مالك على « تسهيله » ، وعندي أنّ الذي دعا ابن مالك إلى هذا الاحتراز هو ما وقع للأزهري من قوله : « إلاّ تكون استثناءً وتكون حرف جزاء أصلها « إنْ لا » نقله صاحب « لسان العرب » . وصدوره من مثله يستدعي التنبيه عليه .
و { ثانيَ اثنين } حال من ضمير النصب في { أخرجه } ، والثاني كلّ من به كان العدد اثنين فالثاني اسم فاعل أضيف إلى الاثنين على معنى { مِن } ، أي ثانياً مِن اثنين ، والاثنان هما النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر : بتواتر الخبر ، وإجماع المسلمين كلّهم . ولكون الثاني معلوماً للسامعين كلّهم لم يحتج إلى ذكره ، وأيضاً لأنّ المقصود تعظيم هذا النصر مع قلّة العدد .
و { إذْ } التي في قوله : { إذ هما في الغار } بدل من { إذ } التي في قوله : { إذ أخرجه } فهو زمن واحد وقع فيه الإخراج ، باعتبار الخروج ، والكونُ في الغار .
والتعريف في الغار للعهد ، لغار يعلمه المخاطبون ، وهو الذي اختفى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين خروجهما مهاجِريْن إلى المدينة ، وهو غارٌ في جبل ثَوْر خارج مكة إلى جنوبيها ، بينه وبين مكة نحو خمسة أميال ، في طريق جبليّ .
والغار الثقب في التراب أو الصخر .
و { إذْ } المضافة إلى جملة { يقول } بدل من { إذ } المضافة إلى جملة { هما في الغار } بدل اشتمال .
والصاحب هو { ثاني اثنين } وهو أبو بكر الصديق . ومعنى الصاحب : المتّصف بالصحبة ، وهي المعية في غالب الأحوال ، ومنه سمّيت الزوجة صاحبة ، كما تقدّم في قوله تعالى : { ولم تكن له صاحبة } في سورة الأنعام ( 101 ) . وهذا القول صدر من النبي لأبي بكر حين كانا مختفيين في غار ثور ، فكان أبو بكر حزيناً إشفاقاً على النبي أن يشعر به المشركون ، فيصيبوه بمضرّة ، أو يرجعوه إلى مكة .
والمعية هنا : معية الإعانة والعناية ، كما حكى الله تعالى عن موسى وهارون : { قال لا تخافا إنني معكما } [ طه : 46 ] وقوله { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم } [ الأنفال : 12 ] .
{ فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِىَ العليا والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
التفريع مؤذن بأنّ السكينة أنزلت عقب الحُلول في الغار ، وأنّها من النصر ، إذ هي نصر نفساني ، وإنّما كان التأييد بجنود لم يروها نصراً جثمانياً . وليس يلزم أن يكون نزول السكينة عقب قوله : { لا تحزن إن الله معنا } بل إنّ قوله ذلك هو من آثار سكينة الله التي أنزلت عليه ، وتلك السكينة هي مظهر من مظاهر نصر الله إيّاه ، فيكون تقدير الكلام : فقد نصره الله فأنزل السكينة عليه وأيّده بجنود حين أخرجه الذين كفروا ، وحِين كان في الغار ، وحين قال لصاحبه : لا تحزن إن الله معنا . فتلك الظروف الثلاثة متعلّقة بفعل { نصره } على الترتيب المتقدّم ، وهي كالاعتراض بين المفرّع عنه والتفريع ، وجاء نظم الكلام على هذا السبك البديع للمبادأة بالدلالة على أنّ النصر حصل في أزمان وأحوال ما كان النصر ليحصل في أمثالها لغيره لولا عناية الله به ، وأنّ نصره كان معجزةً خارقاً للعادة .
وبهذا البيان تندفع الحيرة التي حصلت للمفسّرين في معنى الآية ، حتّى أغرب كثير منهم فأرجع الضمير المجرور من قوله : { فأنزل الله سكينته عليه } إلى أبي بكر ، مع الجزم بأنّ الضمير المنصوب في { أيّده } راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنشأ تشتيت الضمائر ، وانفكاك الأسلوب بذكر حالة أبي بكر ، مع أنّ المقام لذكر ثباتِ النبي صلى الله عليه وسلم وتأييد الله إيّاه ، وما جاء ذكر أبي بكر إلاّ تبعاً لذكر ثبات النبي عليه الصلاة والسلام ، وتلك الحيرة نشأت عن جعل { فأنزل الله } مفرّعاً على { إذ يقول لصاحبه لا تحزن } وألجأهم إلى تأويل قوله : { وأيده بجنود لم تروها } إنّها جنود الملائكة يوم بدر ، وكلّ ذلك وقوف مع ظاهر ترتيب الجمل ، مع الغفلة عن أسلوب النظم المقتضي تقديماً وتأخيراً .
والسكينة : اطمئنان النفس عند الأحوال المخوفة ، مشتقّة من السكون ، وقد تقدّم ذكرها عند قوله تعالى : { فيه سكينة من ربكم } في سورة البقرة ( 248 ) .
والتأييد : التقوية والنصر ، وهو مشتقّ من اسم اليَدِ ، وقد تقدّم عند قوله تعالى { وأيدناه بروح القدس } في سورة البقرة ( 87 ) .
والجنود : جمع جند بمعنى الجيش ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { فلما فصل طالوت بالجنود } في سورة البقرة ( 249 ) ، وتقدّم آنفاً في هذه السورة .
ثم جوز أن تكون جملة { وأيده بجنود } معطوفة على جملة { فأنزل الله سكينته عليه } عطف تفسير فيكون المراد بالجنود الملائكة الذين ألقوا الحيرة في نفوس المشركين فصرفوهم عن استقصاء البحث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإكثار الطلب وراءهُ والترصّدِ له في الطرق المؤدّية والسبل الموصلة ، لا سيما ومن الظاهر أنّه قصد يثرب مهاجَرَ أصحابه ، ومدينة أنصاره ، فكان سهلاً عليهم أن يرصدوا له طرق الوصول إلى المدينة .
ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة { أخرجه والتقدير : وإذ أيده بجنود لم تروها أي بالملائكة ، ويوم بدر ، ويوم الأحزاب ، ويوم حنين ، كما مر في قوله : { ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها } [ التوبة : 26 ] .
( والكلمة ) أصلها اللفظة من الكلام ، ثم أطلقت على الأمر والشأن ونحوِ ذلك من كلّ ما يتحدّث به الناس ويخبر المرءُ به عن نفسه من شأنه ، قال تعالى : { وجعلها كلمة باقية في عقبه } [ الزخرف : 28 ] ( أي أبقى التبرىء من الأصنام والتوحيد لله شأنَ عقبه وشعارهم ) وقال { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } [ البقرة : 124 ] أي بأشياء من التكاليف كذبح ولده ، واختتانه ، وقال لمريم { إن الله يبشرك بكلمة منه } [ آل عمران : 45 ] أي بأمر عجيب ، أو بولد عجيب ، وقال { وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً } [ الأنعام : 115 ] أي أحكامه ووعوده ومنه قولهم : لا تُفرقْ بين كلمة المسلمين ، أي بين أمرهم واتّفاقهم ، وجَمع الله كلمة المسلمين ، فكلمةُ الذين كفروا شأنهم وكيدهم وما دبروه من أنواع المكر .
ومعنى السفلى الحقيرة لأنّ السُفل يكنّى به عن الحقارة ، وعكسه قوله : { وكلمة الله هي العليا } فهي الدين وشأن رسوله والمؤمنين ، وأشعر قوله : { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } أنّ أمر المشركين كان بمظنّة القوة والشدّة لأنّهم أصحاب عدد كثير وفيهم أهل الرأي والذكاء ، ولكنّهم لمّا شاقوا الله ورسوله خذلهم الله وقلب حالهم من علوّ إلى سفل .
وجملة { وكلمة الله هي العليا } مستأنفة بمنزلة التذييل للكلام لأنّه لمّا أخبر عن كلمة الذين كفروا بأنّها صارت سفلى أفاد أنّ العَلاء انحصر في دين الله وشأنه . فضمير الفصل مفيد للقصر ، ولذلك لم تعطف كلمة الله على كلمة الذين كفروا ، إذ ليس المقصود إفادةَ جعل كلمة اللَّهِ عُليا ، لما يُشعر به الجعل من إحداث الحالة ، بل إفادةَ أنّ العَلاء ثابت لها ومقصور عليها ، فكانت الجملة كالتذييل لجعل كلمة الذين كفروا سفلى .
ومعنى جعلها كذلك : أنّه لمّا تصادمت الكلمتان وتناقضتا بطلت كلمة الذين كفروا واستقرّ ثبوت كلمة الله .
وقرأ يعقوب ، وحده { وكلمةَ الله } بنصب ( كلمة ) عطفاً على { كلمة الذين كفروا السفلى } فتكون كلمة الله عُليا بجعل الله وتقديره .
وجملة { والله عزيز حكيم } تذييل لمضمون الجملتين : لأنّ العزيز لا يغلبه شيء ، والحكيم لا يفوته مقصد ، فلا جرم تكون كلمته العليا وكلمة ضدّه السفلى .