فأما المؤمنون فقد تلقوا كلمات الله بالتسليم اللائق بمن وثق بربه ، وتأدب معه أدب العبد مع الرب فلم يعد يماري في خبره وقوله . وأما المشركون فتلقفوا هذا العدد بقلوب خاوية من الإيمان ، عارية من التوقير لله ، خالية من الجد في تلقي هذا الأمر العظيم . وراحوا يتهكمون عليه ويسخرون منه ، ويتخذونه موضعا للتندر والمزاح . . . قال قائل منهم : أليس يتكفل كل عشرة منكم بواحد من هؤلاء التسعة عشر ! ? وقال قائل : لا بل اكفوني أنتم أمر اثنين منهم وعلي الباقي أنا أكفيكموهم ! وبمثل هذه الروح المطموسة المغلقة الفاضية تلقوا هذا القول العظيم الكريم .
عندئذ نزلت الآيات التالية تكشف عن حكمة الله في الكشف عن هذا الجانب من الغيب ، وذكر هذا العدد ، وترد علم الغيب إلى الله ، وتقرر ما وراء ذكر سقر وحراسها من غاية ينتهي الموقف إليها :
( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة . وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا ، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ، وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون : ماذا أراد الله بهذا مثلا ? كذلك يضل الله من يشاء ، ويهدي من يشاء ، وما يعلم جنود ربك إلا هو ، وما هي إلا ذكرى للبشر ) . . .
تبدأ الآية بتقرير حقيقة أولئك التسعة عشر الذين تمارى فيهم المشركون :
( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ) . .
فهم من ذلك الخلق المغيب الذي لا يعلم طبيعته وقوته إلا الله ؛ وقد قال لنا عنهم : إنهم ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون )فقرر أنهم يطيعون ما يأمرهم به الله ، وأن بهم القدرة على فعل ما يأمرهم . فهم إذن مزودون بالقوة التي يقدرون بها على كل ما يكلفهم الله إياه . فإذا كان قد كلفهم القيام على سقر ، فهم مزودون من قبله سبحانه بالقوة المطلوبة لهذه المهمة ، كما يعلمها الله ، فلا مجال لقهرهم أو مغالبتهم من هؤلاء البشر المضعوفين ! وما كان قولهم عن مغالبتهم إلا وليد الجهل الغليظ بحقيقة خلق الله وتدبيره للأمور .
( وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ) . .
فهم الذين يثير ذكر العدد في قلوبهم رغبة الجدل ؛ ولا يعرفون مواضع التسليم ومواضع الجدل . فهذا الأمر الغيبي كله من شأن الله ، وليس لدى البشر عنه من علم كثير ولا قليل ، فإذا أخبر الله عنه خبرا فهو المصدر الوحيد لهذا الطرف من الحقيقة ، وشأن البشر هو تلقي هذا الخبر بالتسليم ، والاطمئنان إلى أن الخير في ذكر هذا الطرف وحده ، بالقدر الذي ذكره ، وأن لا مجال للجدل فيه ، فالإنسان إنما يجادل فيما لديه عنه علم سابق يناقض الخبر الجديد أو يغايره . أما لماذا كانوا تسعة عشر [ أيا كان مدلول هذا العدد ] فهو أمر يعلمه الله الذي ينسق الوجود كله ، ويخلق كل شيء بقدر . وهذا العدد كغيره من الأعداد . والذي يبغي الجدل يمكنه أن يجادل وأن يعترض على أي عدد آخر وعلى أي أمر آخر بنفس الاعتراض . . لماذا كانت السماوات سبعا ? لماذا كان خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار ? لماذا كان حمل الجنين تسعة أشهر ? لماذا تعيش السلاحف آلاف السنين ? لماذا ? لماذا ? لماذا ? والجواب : لأن صاحب الخلق والأمر يريد ويفعل ما يريد ! هذا هو فصل الخطاب في مثل هذه الأمور . .
( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا ، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ) . .
فهؤلاء وهؤلاء سيجدون في عدد حراس سقر ما يدعو بعضهم إلى اليقين ويدعو البعض إلى ازدياد الإيمان . فأما الذين أوتوا الكتاب فلا بد أن لديهم شيئا عن هذه الحقيقة ، فإذا سمعوها من القرآن استيقنوا أنه مصدق لما بين يديهم عنها . وأما الذين آمنوا فكل قول من ربهم يزيدهم إيمانا . لأن قلوبهم مفتوحة موصولة تتلقى الحقائق تلقيا مباشرا ؛ وكل حقيقة ترد إليها من عند الله تزيدها أنسا بالله . . وستشعر قلوبهم بحكمة الله في هذا العدد ، وتقديره الدقيق في الخلق ، فتزيد قلوبهم إيمانا . وتثبت هذه الحقيقة في قلوب هؤلاء وهؤلاء فلا يرتابون بعدها فيما يأتيهم من عند الله .
( وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون : ماذا أراد الله بهذا مثلا ? ) . .
وهكذا تترك الحقيقة الواحدة أثرين مختلفين في القلوب المختلفة . . فبينما الذين أوتوا الكتاب يستيقنون ، والذين آمنوا يزيدون إيمانا ، إذا بالذين كفروا وضعاف القلوب المنافقون في حيرة يتساءلون : ( ماذا أراد الله بهذا مثلا ? ) . . فهم لا يدركون حكمة هذا الأمر الغريب . ولا يسلمون بحكمة الله المطلقة في تقدير كل خلق . ولا يطمئنون إلى صدق الخبر والخير الكامن في إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة . .
( كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) . .
كذلك . بذكر الحقائق وعرض الآيات . فتتلقاها القلوب المختلفة تلقيا مختلفا . ويهتدي بها فريق وفق مشيئة الله ؛ ويضل بها فريق حسب مشيئة الله . فكل أمر مرجعه في النهاية إلى إرادة الله المطلقة التي ينتهي إليها كل شيء . وهؤلاء البشر خرجوا من يد القدرة باستعداد مزدوج للهدى وللضلال ؛ فمن اهتدى ومن ضل كلاهما يتصرف داخل حدود المشيئة التي خلقتهم بهذا الاستعداد المزدوج ، ويسرت لهم التصرف في هذا أو ذاك ، في حدود المشيئة الطليقة ، ووفق حكمة الله المكنونة .
وتصور طلاقة المشيئة وانتهاء كل ما يقع في هذا الوجود إليها تصورا كاملا واسع المدلول ، يعفي العقول من الجدل الضيق حول ما يسمونه الجبر والإرادة . وهو الجدل الذي لا ينتهي إلى تصور صحيح ، بسبب أنه يتناول المسألة من زاوية ضيقة ، ويضعها في أشكال محددة نابعة من منطق الإنسان وتجاربه وتصوراته المحدودة ! بينما هو يعالج قضية من قضايا الألوهية غير المحدودة !
لقد كشف الله لنا عن طريق الهدى وطريق الضلال . وحدد لنا نهجا نسلكه فنهتدي ونسعد ونفوز . وبين لنا نهوجا ننحرف إليها فنضل ونشقى ونخسر . ولم يكلفنا أن نعلم وراء ذلك شيئا ، ولم يهبنا القدرة على علم شيء وراء هذا . وقال لنا : إن إرادتي مطلقة وإن مشيئتي نافذة . . فعلينا أن نعالج - بقدر طاقتنا - تصور حقيقة الإرادة المطلقة والمشيئة النافذة . وأن نلتزم النهج الهادئ ونتجنب النهوج المضللة . ولا ننشغل في جدل عقيم حول ما لم نوهب القدرة على إدراك كنهه من الغيب المكنون . ومن ثم ننظر فنرى كل ما أنفقه المتكلمون في مسألة القدر على النحو الذي تكلموا به جهدا ضائعا لا طائل وراءه لأنه في غير ميدانه . .
إننا لا نعلم مشيئة الله المغيبة بنا ، ولكننا نعلم ماذا يطلب الله منا لنستحق فضله الذي كتبه على نفسه . وعلينا إذن أن ننفق طاقتنا في أداء ما كلفنا ، وأن ندع له هو غيب مشيئته فينا . والذي سيكون هو مشيئته ، وعندما يكون سنعرف أن هذه مشيئته لا قبل كونه ! والذي سيكون وراءه حكمة يعرفها العليم بالكل المطلق . . وهو الله وحده . . وهذا هو طريق المؤمن في التصور ومنهجه في التفكر . .
( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) . .
فهي غيب . حقيقتها . ووظيفتها . وقدرتها . . وهو يكشف عما يريد الكشف عنه من أمرها ، وقوله هو الفصلفي شأنها . وليس لقائل بعده أن يجادل أو يماحك أو يحاول معرفة ما لم يكشف الله عنه ، فليس إلى معرفة هذا من سبيل . .
( وهي )إما أن تكون هي جنود ربك ، وإما أن تكون هي سقر ومن عليها . وهي من جنود ربك . وذكرها جاء لينبه ويحذر ؛ لا لتكون موضوعا للجدل والمماحكة ! والقلوب المؤمنة هي التي تتعظ بالذكرى ، فأما القلوب الضالة فتتخذها مماحكة وجدلا !
يقول تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ } أي : خُزَّانها ، { إِلا مَلائِكَةً } أي : [ زبانية ]{[29504]} غلاظا شدادا . وذلك رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة ، فقال أبو جهل : يا معشر قريش ، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم{[29505]} ؟ فقال الله : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً } أي : شديدي الخَلْق لا يقاومون ولا يغالبون . وقد قيل : إن أبا الأشدين - واسمه : كَلَدَة بن أسيد بن خلف - قال : يا معشر قريش ، اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر ، إعجابا منه بنفسه ، وكان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينتزعوه من تحت قدميه ، فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه . قال السهيلي : وهو الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصارعته وقال : إن صرعتني آمنت بك ، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم مرارا ، فلم يؤمن . قال : وقد نَسَب ابنُ إسحاق خبر المصارعة إلى ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب{[29506]} .
قلت : ولا منافاة بين ما ذكراه ، والله أعلم .
{ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي : إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعةَ عشرَ اختبارًا منَّا للناس ، { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } أي : يعلمون أن هذا الرسول حق ؛ فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله .
{ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } أي : إلى إيمانهم . بما يشهدون من صدق إخبار نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، { وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : من المنافقين { وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا } ؟ أي : يقولون : ما الحكمة في ذكر هذا هاهنا ؟ قال الله تعالى : { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } أي : من مثل هذا وأشباهه يتأكد الإيمان في قلوب أقوام ، ويتزلزل عند آخرين ، وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة .
وقوله : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ } أي : ما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو تعالى ، لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر فقط ، كما قد قاله طائفة من أهل الضلالة والجهالة ومن الفلاسفة اليونانيين . ومن تابعهم{[29507]} من الملتين الذين سمعوا هذه الآية ، فأرادوا تنزيلها على العقول العشرة والنفوس التسعة ، التي اخترعوا دعواها وعجزوا عن إقامة الدلالة على مقتضاها ، فأفهموا{[29508]} صدر هذه الآية وقد كفروا بآخرها ، وهو قوله : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ }
وقد ثبت في حديث الإسراء المروي في الصحيحين وغيرهما . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة البيت المعمور الذي في السماء السابعة : " فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه آخر ما عليهم " {[29509]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود ، حدثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن مورق ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحُقَّ لها أن تَئط ، ما فيها موضع أصابع إلا عليه ملك ساجد ، لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا ، ولا تَلَذّذتم بالنساء على{[29510]} الفُرُشات ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل " . فقال أبو ذر : والله لوددتُ أني شجرة تُعضد .
ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث إسرائيل{[29511]} وقال الترمذي : حسن غريب ، ويروى عن أبي ذر موقوفًا .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا خير{[29512]} بن عرفة المصري ، حدثنا عُرْوَة بن مروان الرقي ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم بن مالك ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما في السموات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم ، أو ملك ساجد ، أو ملك راكع ، فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعا : سبحانك ! ما عبدناك حَقَّ عبادتك ، إلا أنا لم نشرك بك شيئًا " . {[29513]} .
وقال محمد بن نصر المروزي في " كتاب الصلاة " : حدثنا عمرو بن زرارة ، أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن صفوان بن مُحْرِز ، عن حكيم بن حزام قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إذ قال لهم : " هل تسمعون ما أسمع ؟ " قالوا : ما نسمع من شيء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أسمع أطيط السماء وما تلام أن تَئطّ ، ما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك راكع أو ساجد " {[29514]} .
وقال أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله بن قهزاذ{[29515]} حدثنا أبو معاذ الفضل بن خالد النحوي ، حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي ، سمعت الضحاك بن مزاحم ، يحدث عن مسروق بن الأجدع ، عن عائشة أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما في السماء الدنيا موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو قائم ، وذلك قول الملائكة : { وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } [ الصاقات : 164 - 166 ] . {[29516]} .
وهذا مرفوع{[29517]} غريب جدا ثم رواه{[29518]} عن محمود بن آدم ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي الضُّحى ، عن مسروق ، عن ابن مسعود أنه قال : إن من السماوات سماءً ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه قائما ، ثم قرأ : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ }{[29519]} .
ثم قال : حدثنا أحمد بن سيار : حدثنا أبو جعفر محمد بن خالد الدمشقي المعروف بابن أمه ، حدثنا المغيرة بن عثمان{[29520]} بن عطية من بني عمرو بن عوف ، حدثني سليمان بن أيوب [ من بني ]{[29521]} سالم بن عوف . حدثني عطاء بن زيد بن مسعود من بني الحبلي ، حدثني سليمان بن عمرو بن الربيع ، من بني سالم ، حدثني عبد الرحمن بن العلاء ، من بني ساعدة ، عن أبيه العلاء بن سعد - وقد شهد الفتح وما بعده - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما لجلسائه : " هل تسمعون ما أسمع ؟ " قالوا : وما تسمع يا رسول الله ؟ قال : " أطَّتِ السماء وحقّ لها أن تَئط ، إنه ليس فيها موضع قَدَم إلا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد ، وقالَ الملائكة : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } {[29522]} وهذا إسناد غريب جدا .
ثم قال : حدثنا [ محمد بن يحيى ، حدثنا ]{[29523]} إسحاق بن محمد بن إسماعيل الفَروي ، حدثنا عبد الملك بن قدامة ، عن عبد الرحمن عن عبد الله بن ديناره ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمر : أن عمر جاء والصلاة قائمة ، ونفر ثلاثة جلوس ، أحدهم أبو جحش الليثي ، فقال : قوموا فصلوا مع رسول الله . فقام اثنان وأبى أبو جحش أن يقوم ، وقال : لا أقوم حتى يأتي رجل هو أقوى مني ذراعين ، وأشد مني بطشًا فيصرعني ، ثم يَدس وجهي في التراب . قال عمر : فصرعته ودسست وجهه في التراب ، فأتى عثمان بن عفان فحجزني عنه ، فخرج عمر مغضبا حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما رَأيَكَ يا أبا حفص ؟ " . فذكر له ما كان منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن رضى عمر رحمةٌ ، والله لوددْتُ أنك جئتني برأس الخبيث " ، فقام عمر يُوجّهُ نحوه ، فلما أبعد ناداه فقال : " اجلس حتى أخبرك بغنى الرب عز وجل عن صلاة أبي جحش ، إن لله في السماء الدنيا ملائكة خشوعًا{[29524]} لا يرفعون رءوسهم حتى تقوم الساعة . فإذا قامت رفعوا رءوسهم ثم قالوا : ربنا ، ما عبدناك حق عبادتك ، وإن لله في السماء الثانية ملائكة سجودًا لا يرفعون رءوسهم حتى تقوم الساعة فإذا قامت الساعة رفعوا رءوسهم ، وقالوا : سبحانك ! ما عبدناك حق عبادتك " فقال له عمر : وما يقولون يا رسول الله ؟ فقال : " أما أهل السماء الدنيا فيقولون : سبحان ذي الملك والملكوت . وأما أهل السماء الثانية فيقولون : سبحان ذي العزة والجبروت . وأما أهل السماء الثالثة فيقولون : سبحان الحي الذي لا يموت . فقلها يا عمر في صلاتك " . فقال عمر : يا رسول الله ، فكيف بالذي كنت علمتني وأمرتني أن أقوله في صلاتي ؟ فقال : " قل هذا مرة وهذا مرة " . وكان الذي أمره به أن يقول : " أعوذ بعفوك من عقابك ، وأعوذ برضاك من سخَطك ، وأعوذ بك منك ، جل وجهك " {[29525]} وهذا حديث غريب جدا ، بل منكر نكارة شديدة ، وإسحاق الفروي روى عنه البخاري ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وضعفه أبو داود والنسائي والعقيلي والدارقطني . وقال أبو حاتم الرازي : كان صدوقا إلا أنه ذهب بصره فرُبما لقن ، وكتبه صحيحة . وقال مرة : هو مضطرب ، وشيخه عبد الملك بن قدامة أبو قتادة الجمحي : تكلم فيه أيضا . والعجب من الإمام محمد بن نصر كيف رواه ولم يتكلم عليه ، ولا عَرَّف بحاله ، ولا تعرض لضعف بعض رجاله ؟ ! غير أنه رواه من وجه آخر عن سعيد بن جبير مرسلا بنحوه . ومن طريق أخرى عن الحسن البصري مرسلا قريبًا منه ، ثم قال محمد بن نصر :
حدثنا محمد بن عبد الله بن قهزاذ ، أخبرنا النضر ، أخبرنا عباد بن منصور قال : سمعت عدي بن أرطاة وهو يخطبنا على منبر المدائن قال : سمعت رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله تعالى ملائكة تُرعَد فرائصهم من خيفته ، ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه إلا وقعت على ملك يصلي ، وإن منهم ملائكة سجودًا منذ خلق الله السماوات والأرض لم يرفعوا رءوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة ، وإن منهم ملائكة ركوعًا لم يرفعوا رءوسهم منذ خلق الله السماوات والأرض ولا يرفعونها إلى يوم القيامة ، فإذا رفعوا رءوسهم نظروا إلى وجه الله عز وجل ، قالوا : سبحانك ! ما عبدناك حق عبادتك " {[29526]} .
وقوله : { وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } قال مجاهد وغير واحد : { وَمَا هِيَ } أي : النار التي وصفت ، { إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ }
وقوله : وَما جَعَلْنا أصحَابَ النّارِ إلاّ مَلائِكَةً يقول تعالى ذكره : وما جعلنا خزَنة النار إلا ملائكة . يقول لأبي جهل في قوله لقريش : أما يستطيع كلّ عشرة منكم أن تغلب منها واحدا ؟ فمن ذا يغلب خزنة النار وهم الملائكة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا ابن زيد ، في قوله : وَما جَعَلْنا أصحَابَ النّارِ إلاّ مَلائِكَةً قال : ما جعلناهم رجالاً ، فيأخذ كلّ رجل رجلاً كما قال هذا .
وقوله : وَما جَعَلْنا عِدّتَهُمْ إلاّ فِتْنَةً للّذِينَ كَفَرُوا يقول : وما جعلنا عدّة هؤلاء الخزنة إلا فتنة للذين كفروا بالله من مُشركي قريش . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما جَعَلْنا عِدّتَهُمْ إلاّ فِتْنَةً للّذِينَ كَفَرُوا : إلا بلاء .
وإنما جعل الله الخبر عن عدّة خزنة جهنم فتنة للذين كفروا ، لتكذيبهم بذلك ، وقول بعضهم لأصحابه : أنا أكفيكموهم . ذكر الخبر عمن قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : تِسْعَةَ عَشَرَ قال : جعلوا فتنة ، قال أبو الأشدّ بن الجمحي : لا يبلغون رتوتي حتى أجهضهم عن جهنم .
وقوله : لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ يقول تعالى ذكره : ليستيقن أهل التوراة والإنجيل حقيقة ما في كتبهم من الخبر عن عدّة خزَنة جهنم ، إذ وافق ذلك ما أنزل الله في كتابه على محمد صلى الله عليه وسلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوا إيمَانا قال : وإنها في التوراة والإنجيل تسعة عشرة ، فأراد الله أن يستيقن أهل الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ قال : يجدونه مكتوبا عندهم عدّة خزَنة أهل النار .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ يصدّق القرآن الكتب التي كانت قبله فيها كلها ، التوراة والإنجيل أن خزنة النار تسعة عشر .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ قال : ليستيقن أهل الكتاب حين وافق عدّة خزنة النار ما في كتبهم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ قال : عدّة خزنة جهنم تسعة عشر في التوراة والإنجيل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ أنك رسول الله .
وقوله : وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوا إيمَانا يقول تعالى ذكره : وليزداد الذين آمنوا بالله تصديقا إلى تصديقهم بالله وبرسوله بتصديقهم بعدّة خزنة جهنم .
وقوله : وَلا يَرْتابَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالمُؤْمِنُونَ يقول : ولا يشكّ أهل التوراة والإنجيل في حقيقة ذلك والمؤمنون بالله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله : وَليَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ يقول تعالى ذكره : وليقول الذين في قلوبهم مرض النفاق ، والكافرون بالله من مشركي قريش ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلِيَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : أي نفاق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلِيَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً يقول : حتى يخوّفنا بهؤلاء التسعة عشر .
وقوله : كَذَلكَ يُضِلّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ يقول تعالى ذكره : كما أضل الله هؤلاء المنافقين والمشركين القائلين في خبر الله عن عدّة خزنة جهنم : أيّ شيء أراد الله بهذا الخبر من المثل حتى يخوّفنا بذكر عدتهم ، ويهتدي به المؤمنون ، فازدادوا بتصديقهم إلى إيمانهم إيمانا كَذلكَ يُضِل اللّهُ مَنْ يَشاءُ مِنْ خَلْقِهِ فيخذله عن إصابة الحقّ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ منهم ، فيوفقه لإصابة الصواب وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ من كثرتهم إلاّ هُوَ : يعني الله ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إلاّ هُوَ أي من كثرتهم .
وقوله : وَما هِيَ إلاّ ذِكْرَى للْبَشَرِ يقول تعالى ذكره : وما النار التي وصفتها إلا تذكرة ذكر بها البشر ، وهم بنو آدم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما هِيَ إلاّ ذِكْرَى للْبَشَر يعني النار .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَما هِيَ إلاّ ذِكْرَى للْبَشَر قال : النار .
وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ليخالفوا جنس المعذبين فلا يرقون لهم ولا يستروحون إليهم ولأنهم أقوى الخلق بأسا وأشدهم غضبا لله روي أن أبا جهل لما سمع عليها تسعة عشر قال لقريش أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم فنزلت وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا وما جعلنا عددهم إلا العدد الذي اقتضى فتنتهم وهو التسعة عشر فعبر بالإثر عن المؤثر تنبيها على أنه لا ينفك منه وافتتانهم به استقلالهم واستهزاؤهم به واستبعادهم أن يتولى هذه العدد القليل تعذيب أكثر الثقلين ولعل المراد الجعل بالقول ليحسن تعليله بقوله ليستيقن الذين أوتوا الكتاب أي ليكتسبوا اليقين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق القرآن لما رأوا ذلك موافقا لما في كتابهم ويزدادوا الذين آمنوا إيمانا بالإيمان به وبتصديق أهل الكتاب به ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون أي في ذلك وهو تأكيد للاستيقان وزيادة الإيمان به ويتصدق أهل الكتاب له ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون أي في ذلك وهو تأكيد للاستيقان وزيادة الإيمان ونفي لما يعرض للمتيقن حيثما عراه شبهة وليقول الذين في قلوبهم مرض شك أو نفاق فيكون إخبارا بمكة عما سيكون في المدينة بعد الهجرة والكافرون الجازمون في التكذيب ماذا أراد الله بهذا مثلا أي شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل وقيل لما استبعدوه حسبوا أنه مثل مضروب كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل الكافرين ويهدي المؤمنين وما يعلم جنود ربك جموع خلقه على ما هم عليه إلا هو إذ لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات والاطلاع على حقائقها وصفاتها وما يوجب اختصاص كل منها بما يخصه من كم وكيف واعتبار ونسبة وما هي وما سقر أو عدة الخزنة أو السورة إلا ذكرى للبشر إلا تذكرة لهم .
وقوله تعالى : { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } تبيين لفساد أقوال قريش ، أي إن جعلناهم خلقاً لا قبل لأحد من الناس بهم وجعلنا عدتهم هذا القدر فتنة للكفار ليقع منهم من التعاطي والطمع في المبالغة ما وقع و { ليستيقن } أهل الكتاب : التوراة والإنجيل أن هذا القرآن من عند الله ، إذ هم يجدوه هذه العدة في كتبهم المنزلة التي لم يقرأها محمد صلى الله عليه وسلم ولا هو من أهلها ، ولكن كتابه يصدق ما بين يديه من كتب الأنبياء إذ جميع ذلك حق يتعاضد منزل من عند الله ، قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد وغيرهم ، وبورود الحقائق من عند الله عز وجل يزداد كل ذي إيمان إيماناً ويزول الريب عن المصدقين من أهل الكتاب ومن المؤمنين ، وقوله تعالى : { وليقول الذين في قلوبهم مرض } الآية ، نوع من الفتنة لهذا الصنف المنافق أو الكافر ، أي جاروا وضلوا ولم يهتدوا لقصد الحق فجعلوا يستفهم بعضهم بعضاً عن مراد الله تعالى بهذا المثل استبعاداً أن يكون هذا من عند الله ، قال الحسين بن الفضل : السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق فإنما المرض في هذه الآية الاضطراب وضعف الإيمان .
قوله تعالى : { كذلك يضل الله من يشاء } أي بهذه الصفة وهذا الرّين{[11436]} على القلوب يضل ، ثم أخبر تعالى أنه { يهدي من يشاء } من المؤمنين لما ورد بذلك لعلمهم بالقدرة ووقوف عقولهم على كنه{[11437]} سلطان الله تعالى ، فهم موقنون متصورون صحة ما أخبرت به الأنبياء وكتب الله تعالى ، ثم قال : { وما يعلم جنود ربك إلا هو } إعلاماً بأن الأمر فوق ما يتوهم وأن الخبر إنما هو عن بعض القدرة لا عن كلها ، والسماء{[11438]} كلها عامرة بأنواع من الملائكة كلهم في عبادة متصلة وخشوع دائم وطاعة لا فترة في شيء من ذلك ولا دقيقة واحدة . وقوله تعالى : { وما هي إلا ذكرى للبشر } قال مجاهد الضمير في قوله { وما هي } للنار المذكورة ، أي يذكرها البشر فيخافونها فيطيعون الله تعالى . وقال بعض الحذاق : قوله تعالى : { ما هي } ، يراد بها الحال والمخاطبة والنذارة ، قال الثعلبي : وقيل { وما هي } ، يراد نار الدنيا ، أي إن هذه تذكرة للبشر بنار الآخرة .