قوله : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً } .
روي أن أبا جهل لما نزل قول الله تعالى : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } قال : أيعجز كل مائة أن يبطشوا بواحدٍ منهم ثم يخرجون من النار ؛ فنزل قوله عز وجل : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً } أي : لم نجعلهم رجالاً فتغالبوهم .
وقيل : جعلهم ملائكة لأنهم خلاف المعذبين من الجن والإنس ، فلا تأخذهم مآخذ المجانس من الرقة والرأفة ، ولا يستريحون إليهم ، ولأنهم أشد الخلق بأساً ، وأقواهم بطشاً ، ولذلك جعل - تعالى - الرسول إلى البشر من جنسهم ليكون رأفة ورحمة بنا .
وقيل : لأنَّ قوتهم أعظم من قوة الإنس والجن .
فإن قيل : ثبت في الأخبار أنَّ الملائكة مخلوقون من النور ، والمخلوق من النور كيف يطيق المكث في النار ؟ .
فالجواب : أن الله - تعالى - قادر على كل الممكنات ، فكما أنه لا استبعاد في [ إبقاء الحي في مثل ذلك العذاب أبد الآباد ولا يموت ، فكذا لا استبعاد ]{[58550]} في بقاء الملائكة هناك من غير ألم .
قوله { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } . أي : بليّة .
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : المعنى : ضلالة للذين كفروا{[58551]} .
وقوله تعالى { فِتْنَةً } مفعول ثانٍ على حذف مضاف ، أي إلا سبب فتنة ، و «الذين » صفة ل «فتنة » ، وليست «فتنة » مفعولاً له .
قال ابن الخطيب{[58552]} : هذا العدد إنَّما صار سبباً لفتنة الكفار من وجهين :
الأول : أن الكفار يستهزئون ويقولون : لم لم يكونوا عشرين ، وما المقتضي لتخصيص هذا العدد ؟ .
والثاني : أن الكفار يقولون : هذا العدد القليل ، كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر خلق العالم من الجن والإنس من أول ما خلقهم الله إلى قيام القيامة ؟ .
والجواب عن الأول : أن هذا السؤال لازمٌ على كل عددٍ يفرض .
وعن الثاني : أنه لا يبعد أن الله يزرق ذلك العدد القليل قوة تفي بذلك ، فقد اقتلع جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - مدائن قوم لوطٍ على أحدِ جناحيه ، ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياح ديكتهم ، ثم قلبها وجعل عاليها سافلها .
وأيضاً : فأحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا ، ولا للعقل فيها مجال .
فصل في أن الله تعالى يريد الفتنة .
دلت هذه الآية على أن الله - تعالى - يريد الفتنة .
وأجاب الجبائي : بأن المراد من الفتنة تشديدُ التعبد ليستدلوا على أنه - تعالى - قادرٌ على تقوية هؤلاء التسعة عشر على ما لا يقوى عليه مائةُ ألفِ ملكٍ أقوياء .
وأجاب الكعبي : بأن المراد من الفتنة الامتحانُ حتَّى يفوضَ المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعين إلى علم الله تعالى ، وهذا من المتشابه الذي أمروا بالإيمان به ، أو يكون المراد من الفتنة ما وقعوا فيه من الكفر بسبب تكذيبهم بعدد الخزنة ، وحاصله ترك الألطاف .
والجواب : أن نقول : هل لا يزال لهذه المتشابهات أثرٌ في تقوية داعية الكفر أم لا ؟ فإن لم يكن له أثرٌ في تقوية داعية الكفر لم يكن إنزال هذه المتشابهات فتنة للذين كفروا ألبتة وإن كان له أثرٌ في تقوية داعية الكفر ، فقد حصل المقصود ؛ لأنه إذا ترجَّحت داعية الفعل صارت داعيةُ الترك مرجوحة ، والمرجوح يمتنع تأثيره ، فيكون الترك ممتنع الوقوع ، فيصير الفعل واجب الوقوع . والله أعلم .
قوله تعالى : { لِيَسْتَيْقِنَ الذين } . متعلق ب «جعلنا » لا ب «فتنة » .
وقيل : بفعل مضمر ، أي : فعلنا ذلك ليستيقن .
معنى الكلام : ليُوقنَ الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عدَّة خزنة جهنَّم مُوافقةٌ لما عندهم . قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم{[58553]} . ثم يحتمل أن يريد الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام ، ويحتمل أن يريد الكُلَّ ، { وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً } لتصديقهم بعدد خزنة النار .
قال ابن الخطيب{[58554]} : فإن قيل : حقيقة الإيمان عندكم لا تقبل الزيادة والنقصان ، فما قولكم في هذه الآية ؟ .
فالجواب : نحملُه على ثمرات الإيمان ، وعلى آثاره ولوازمه .
قوله تعالى : { وَلاَ يَرْتَابَ } ، أي : ولا يشك { الذين أُوتُواْ } أي : أعطُوا { الكتاب والمؤمنون } أي : المُصدِّقُون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنَّ خزنة جهنَّم تسعة عشر .
فإن قيل : لما أثبت الاستيقان لأهل الكتاب ، وأثبت زيادة الإيمان للمؤمنين ، فما الفائدة في قوله تعالى بعد ذلك : { وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُوا الكتاب والمؤمنون } ؟ .
فالجواب : أن الإنسان إذا اجتهد في أمرٍ غامضٍ دقيقِ الحُجَّة كثير الشُّبه ، فحصل له اليقين ، فربَّما غفل عن مقدمةٍ من مقدِّمات ذلك الدليل الدقيق ، فيعود الشرك ، فإثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي طريان الارتياب بعد ذلك ، ففائدة هذه الإعادة نفي ذلك الشكِّ ، وأنه حصل له يقينٌ جازمٌ ، لا يحصل عقيبه شكٌّ ألبتة .
قوله تعالى : { وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } ، أي : في صدورهم شكٌّ ونفاقٌ من منافقي أهل «المدينة » الذين يجيئون في مستقبل الزمان بعد الهجرة ، وهذا إخبار عما سيكون ، ففيه معجزة { والكافرون } أي : اليهود والنصارى { مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } يعني : بعدد خزنةِ جهنَّم ، وهذا قول أكثر المفسرين .
وقال الحسن بن الفضل : السورة مكيّة ، ولم يكن ب «مكة » نفاقٌ ، فالمرض في هذه الآية الخلاف ، والمراد بالكافرين : مشركو العرب ، ويجوز أن يُراد بالمرض الشكُّ والارتياب لأن أهل «مكة » كان أكثرهم مشركين ، وبعضهم قاطعين بالكذب ، وقوله تعالى إخباراً عنهم : { مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } ؟ أي : هذا العدد الذي ذكره حديثاً ، أي ما هذا من الحديث .
قال الليث رحمه الله : المثل الحديث ، ومنه :{ مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } [ محمد : 15 ] ، أي حديثها والخبر عنها .
وقال ابن الخطيب{[58555]} : إنما سمَّوه مثلاً ؛ لأنه لمَّا كان هذا العدد عدداً عجيباً ظن القوم أنه رُبَّما لم يكن مراداً لله منه ما أشعر به ظاهره بل جعله مثلاً لشيء آخر تنبيهاً على مقصود آخر - لا جَرمَ سمَّوه مثلاً - لأنهم لمَّا استغربوه ظنُّوا أنه ضرب مثلاً لغيره ، و «مَثَلاً » تمييزٌ أو حالٌ ، وتسمية هذا مثلاً على سبيل الاستعارة لغرابته .
«اللام » في قوله تعالى : { وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } جار على أصول أهل السُّنة ؛ لأن ذلك مراد ، وعند المعتزلة : هي لام العاقبة ، ونسبوه إلى الله - عز وجل - مع أنهم ينكرون ذلك ، إما على سبيل التَّهكُّم ، وإما على ما يقولونه .
قوله : { كَذَلِكَ } : نعتٌ لمصدر ، أو حالٌ منه على ما عرف ، وذلك إشارة إلى ما تقدم من الإضلال والهدي أي : مثل ذلك الإضلالِ والهدى { يُضِلُّ الله مَن يَشَاءُ } كإضلال الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم «يُضِلُّ » أي : يُعمي ويُخزي من يشاء ، ويهدي من يشاء أي ويرشد من يشاء كإرشاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه الآية تدل على مذهب أهل السنة ؛ لأنه - تعالى - قال في أول هذه الآية : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } وقال - جل ذكره - في آخر الآية : { وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } ، ثم قال سبحانه : { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاءُ } .
وأما المعتزلة فذكروا تأويلاتهم المشهورة ، وتقدم أجوبتها .
قوله : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } ، «جُنُود ربِّك » : مفعولٌ واجبُ التقديم لحصر فاعله ولعود الضمير على ما اتصل بالمفعول .
أي : وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار «إلاَّ هُوَ » أي : الله عز وجل ، وهذا جواب لأبي جهل حين قال : ما لإله محمد صلى الله عليه وسلم من الجنود إلاَّ تسْعةَ عشرَ إلاَّ أنَّ لكلِّ واحد منهم من الأعوان والجنود ما لا يعلم عددهم إلا هو ، ويحتمل أن يكون المعنى { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ } لفرط كثرتها { إِلاَّ هُوَ } فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين ، ولكن له في هذا العدد حكمة لا يعلمها الخلق ، وهو جل جلاله يعلمها .
ويكون المعنى : أنه لا حاجة بالله - سبحانه - في تعذيب الكفار والفساق إلى هؤلاء الخزنة ، بل هو الذي يعذِّبهم في الحقيقة ، وهو الذي يخلق الألم فيهم ، ولو أنه - تعالى - قلب شعرة في عين ابن آدم أو سلط الألم على عرق واحد من عروق بدنه لكفاه ذلك بلاء ومحنة ، فلا يلزم من تقليل عدد الخزنة قلَّةُ العذاب فجنود الله تعالى غير متناهية لأن مقدوراته غير متناهية .
قال صلى الله عليه وسلم :«أطَّتِ السَّماءُ وحَقَّ لَهَا أن تَئِطَّ ، مَا فيهَا مَوضع أرْبعِ أصَابعَ إلاَّ وفِيهَا مَلكٌ سَاجِدٌ »{[58556]} .
قوله جل ذكره : { وَمَا هِيَ } ، يجوز أن يعود الضمير على «سَقَر » أي : وما سقر إلاَّ تذكرةٌ أي عظةٌ للبشر ، وأن يعود على الآيات المذكورة فيها ، أو النار لتقدمها ، أو الجنود لأنه أقربُ مذكور ، أو نار الدنيا ، وإن لم يجرِ لها ذكر تذكرة لنا بالآخرة ، قاله الزجاج أو ما هذه العدة { إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ } أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى ، وأنه سبحانه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار .