فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ} (31)

لما نزل قوله سبحانه : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } [ المدثر : 30 ] قال أبو جهل : أما لمحمد من الأعوان إلاّ تسعة عشر يخوّفكم محمد بتسعة عشر وأنتم الدهم ، أفيعجز كل مائة رجل منكم أن يبطشوا بواحد منهم ، ثم يخرجون من النار ؟ فقال أبو الأشدّ ، وهو رجل من بني جمح : يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة ، فأنا أمشي بين أيديكم ، فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن ، وتسعة بمنكبي الأيسر ، ونمضي ندخل الجنة فأنزل الله : { وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار إِلاَّ مَلَائِكَةً } يعني : ما جعلنا المدبرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها إلاّ ملائكة ، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم ، فكيف تتعاطون أيها الكفار مغالبتهم . وقيل : جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المخلوقين من الجنّ والإنس ، فلا يأخذهم ما يأخذ المجالس من الرقة والرأفة . وقيل : لأنهم أقوم خلق الله بحقه والغضب له ، وأشدهم بأساً وأقواهم بطشاً { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً } أي ضلالة { لِلَّذِينَ } استقلوا عددهم ومحنة لهم ، والمعنى : ما جعلناهم عددهم هذا العدد المذكور في القرآن إلاّ ضلالة ومحنة لهم ، حتى قالوا ما قالوا ليتضاعف عذابهم ويكثر غضب الله عليهم . وقيل : معنى { إِلاَّ فِتْنَةً } إلاّ عذاباً ، كما في قوله : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ] أي يعذبون ، واللام في قوله : { لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } متعلق ب { جعلنا } ، والمراد بأهل الكتاب : اليهود والنصارى لموافقة ما نزل من القرآن بأن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر لما عندهم . قاله قتادة والضحاك ومجاهد وغيرهم والمعنى : أن الله جعل عدّة الخزنة هذه العدّة ، ليحصل اليقين لليهود والنصارى بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لموافقة ما في القرآن لما في كتبهم .

{ وَيَزْدَادَ الذين ءامَنُواْ إيماناً } وقيل : المراد الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام . وقيل : أراد الذين آمنوا المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : ليزدادوا يقيناً إلى يقينهم لما رأوا من موافقة أهل الكتاب لهم ، وجملة { وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون } مقرّرة لما تقدّم من الاستيقان وازدياد الإيمان ، والمعنى : نفي الارتياب عنهم في الدّين أو في أن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر ، ولا ارتياب في الحقيقة من المؤمنين ، ولكنه من باب التعريض لغيرهم ممن في قلبه شك { وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } المراد بالذين في قلوبهم مرض : هم المنافقون ، والسورة وإن كانت مكية ولم يكن إذ ذاك نفاق ، فهو إخبار بما سيكون في المدينة ، أو المراد بالمرض مجرّد حصول الشكّ والريب ، وهو كائن في الكفار . قال الحسين بن الفضل : السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق ، فالمرض في هذه الآية الخلاف ، والمراد بقوله : { والكافرون } كفار العرب من أهل مكة وغيرهم ، ومعنى { مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } : أيّ شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل . قال الليث : المثل الحديث ، ومنه قوله : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } [ الرعد : 35 ] أي حديثها والخبر عنها { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاء } أي مثل ذلك الإضلال المتقدّم ذكره ، وهو قوله : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } . { يُضِلُّ الله مَن يَشَاء } من عباده ، والكاف نعت مصدر محذوف { وَيَهْدِي مَن يَشَاء } من عباده والمعنى : مثل ذلك الإضلال للكافرين والهداية للمؤمنين يضلّ الله من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته . وقيل المعنى : كذلك يضلّ الله عن الجنة من يشاء ويهدي إليها من يشاء . { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ } أي ما يعلم عدد خلقه ومقدار جموعه من الملائكة ، وغيرهم إلاّ هو وحده لا يقدر على علم ذلك أحد . وقال عطاء : يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار لا يعلم عدّتهم إلاّ الله . والمعنى : أن خزنة النار وإن كانوا تسعة عشر فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلاّ الله سبحانه . ثم رجع سبحانه إلى ذكر سقر فقال : { وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ } أي وما سقر ، وما ذكر من عدد خزنتها إلاّ تذكرة وموعظة للعالم . وقيل : { وَمَا هِيَ } أي الدلائل والحجج والقرآن إلاّ تذكرة للبشر . وقال الزجاج : نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة ، وهو بعيد . وقيل : { مَا هِيَ } أي عدّة خزنة جهنم إلاّ تذكرة للبشر ، ليعلموا كمال قدرة الله وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار . وقيل : الضمير في { وَمَا هِيَ } يرجع إلى الجنود .

/خ37