لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ} (31)

فأنزل الله تعالى : { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } يعني لا رجالاً آدميين فمن ذا يغلب الملائكة وإنما جعلهم ملائكة ليكونوا من غير جنس المعذبين وأشد منهم لأن الجنسية مظنة الرّأفة والرّحمة { وما جعلنا عدتهم } أي عددهم في القلة { إلا فتنة للذين كفروا } أي ضلالة لهم حتى قالوا ما قالوا ، وقيل فتنتهم هي قولهم لم لَم يكونوا عشرين ، وما الحكمة في تخصيص هذا العدد وقيل فتنتهم هي قولهم كيف يقدر هذا العدد ، القليل على تعذيب جميع من في النار .

وأجيب عن قولهم لم لَم يكونوا عشرين بأن أفعال الله تعالى لا تعلل ولا يقال فيها لم ، وتخصيص الزبانية بهذا العدد لأمر اقتضته الحكمة ، وقيل وجه الحكمة في كونهم تسعة عشر أن هذا العدد يجمع أكثر القليل ، وأقل الكثير ، ووجه ذلك أن الآحاد أقل الأعداد وأكثرها تسعة ، وأقل الكثير عشرة فوقع الاقتصار على عدد يجمع أقل الكثير وأكثر القليل لهذه الحكمة ، وما سوى ذلك من الأعداد فكثير لا يدخل تحت الحصر . وأجيب عن قولهم كيف يقدر هذا العدد القليل على تعذيب جميع أهل النّار ، وذلك بأن الله جلّ جلاله يعطي هذا القليل من القوة والقدرة ما يقدرون به على ذلك ، فمن اعترف بكمال قدرة الله ، وأنه على كل شيء قدير وأن أحوال القيامة على خلاف أحوال الدنيا زال عن قلبه هذا الاستبعاد بالكلية . { ليستيقن الذين أوتوا الكتاب } يعني أن هذا العدد مكتوب في التّوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر { ويزداد الذين آمنوا إيماناً } يعني من آمن من أهل الكتاب يزدادون تصديقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن العدد كان موجوداً في كتابهم وأخبر به النّبي صلى الله عليه وسلم على وفق ما عندهم من غير سابقة دراسة ، وتعلم علم إنما حصل له ذلك بالوحي السّماوي ، فازدادوا بذلك إيماناً وتصديقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم . { ولا يرتاب } أي ولا يشك { الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون } يعني في عددهم وإنما قال ولا يرتاب وإن كان الاستيقان يدل على نفي الارتياب ليجمع لهم بين إثبات اليقين ونفي الشّك ، وذلك أبلغ وآكد لأن فيه تعريضاً بحال غيرهم كأنه قال : وليخالف حالهم حال الناس المرتابين من أهل الكفر ، والنفاق { وليقول الذين في قلوبهم مرض } أي شك ونفاق { والكافرون } أي مشركو مكة .

فإن قلت لم يكن بمكة نفاق فكيف قال ، وليقول الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون وهذه السورة مكية .

قلت لأنه كان في علم الله تعالى أن النفاق سيحدث فأخبره عما سيكون وهو كسائر الإخبار بالغيوب فعلى هذا تصير الآية معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه إخبار عن غيب سيقع وقد وقع على وفق الخبر ، وقيل يحتمل أن يراد بالّذين في قلوبهم مرض أهل مكة لأن فيهم من هو شاك وفيهم من هو قاطع بالكذب { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } يعني أي شيء أراد الله بهذا المثل العجيب ، وإنما سموه مثلاً لأنه استعارة من المثل المضروب لأنه مما غرب من الكلام وبدع استغراباً منهم لهذا العقد واستبعاداً له ، والمعنى أيّ غرض قصد في جعل الملائكة تسعة عشرة لا عشرين ومرادهم بذلك إنكار هذا من أصله وإنه ليس من عند الله فلهذا سموه مثلاً { كذلك } أي كما أضل من أنكر عدد الخزنة وهدى من صدق به كذلك { يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } لأن الله تعالى بيده الهداية والإضلال { وما يعلم جنود ربك إلا هو } هذا جواب لأبي جهل حين قال : أما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر ، والمعنى أن الخزنة تسعة عشر ، ولهم أعوان وجنود من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى خلقوا لتعذيب أهل النار وقيل كما أن مقدورات الله تعالى غير متناهية فكذلك جنوده غير متناهية ، { وما هي } يعني النار { إلا ذكرى للبشر } أي إلا تذكرة وموعظة للناس ، وقيل ما هي يعني آيات القرآن ومواعظه إلا تذكرة للناس يتعظون بها .